میری زندگی کے صفحات (پہلا حصہ)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
اصناف
لقد جئت إلى هذا المكان البعيد ومعي أوراقي وذكرياتي، كلمة «جئت» لا تعبر عن الحقيقة، لأنني لم آت إلى هنا بإرادتي، لم أغادر الوطن باختياري، قوى عاتية مثل الأعاصير تقتلع الناس كما تقتلع الشجر، تنتزعهم من أرضهم وبيوتهم، تلقي بهم بعيدا في ما يسمونه «المنفى».
بيني وبين كلمة «المنفى» عداء، لا توجد قوة يمكن أن تنفيني عن الوطن؛ فالوطن يسافر معي حيثما أكون، والسماء تسافر معي، والشمس أيضا تسافر معي، والقمر والنجوم ، وأحلام طفولتي تسافر معي داخل جسدي كما كنت طفلة، وقلبي يخفق بالقوة نفسها كما خفق وأنا في العاشرة من العمر.
في الليل حين تهدأ رياح المحيط الأطلنطي وتنام العصافير، أشعل المصباح إلى جوار المدفأة وأعود إلى الوراء ثلاثة وأربعين عاما، أراني أمشي في مظاهرة 1951، إلى جواري «أحمد» الحب الثاني في حياتي وزوجي الأول، الذي منحني أغلى ما يمكن أن يمنح، وهي ابنتي. ومدينة القاهرة التي عشنا فيها الفرح والحزن، الحرية والاستعباد، غرست في نفوسنا تناقضها، تطاحنها، عذابها تحت سعير الاستعمار والإقطاع، سعير الحر والحرب والحب والحنق، أي حنق، يشتعل فجأة، فيندفع الناس من بيوتهم إلى الشوارع يصرخون، يهتفون ضد حكوماتهم، يلعنون الدين والدنيا معا.
القاهرة، مدينتي أحملها فوق صدري مثل أمي في أيامها الأخيرة، لم يكن لي أن أعرف مدينتي إلا بعد أن أذهب بعيدا عنها، هنا في آخر الدنيا، وراء البحار والمحيط، في هذه «الديرهام» الصغيرة المعزولة، تنتزعني من الوحدة نجمتي في السماء «الزهرة»، ولدت معي، وتموت معي، تنتزعني كل ليلة من الظلام، بعيدا عن غبار الليالي المحملة برمال الصحراء ورياح الخماسين، وأدرك الآن على البعد أن مدينتي بريئة، لا يمكن إدانتها بما فعلت بنا؛ فهي كالأم تقتل أطفالها حماية لهم من موت آخر أشد وأقسى، وقد أنقلب ضد مدينتي كما كنت أنقلب ضد أمي، أصب عليها غضبي، إنها التي يجب أن تدان وإن كان علينا نحن أطفالها أن ندفع ثمن خنوعها أو اللامبالاة.
ما هذه المدينة القاهرة؟ المقهورة؟ ما كنه مدينتنا هذه وما سرها؟ وما الذي يمكن أن يحدث لنا حين نسمع كلمة «القاهرة»؟ ... في غمضة عين أجتاز المحيط الأطلنطي والبحر الأبيض المتوسط وثلاثة وأربعين عاما من العمر، وأجدني أمشي في شارع قصر العيني حيث كلية الطب والمستشفى الفخم الراقد بين فرعي النيل مثل تمساح مريض مشقق البشرة، محروق بالشمس، مملوك للذباب والشحاذين وأصحاب العاهات، يدقون بعكاكيزهم فوق الكوبري بين قصر العيني القديم والجديد، وهؤلاء الذين يسكنون على الضفة الأخرى من النهر، في الحي الراقي الذي يسمونه «جاردن سيتي»، القصور والفيلات الأنيقة تحوطها الحدائق، يسكنها الباشوات من الطبقة العالية الحاكمة، وإلى جوارهم السفارات الأجنبية، السفارة البريطانية التي حكمت مصر أكثر من سبعين عاما، والسفارة الأميركية التي تتربع على العرش اليوم، دولة أخرى داخل الدولة.
وهؤلاء الذين ينتمون إلى ما يسمى «الشعب»، نحن الطلبة والطالبات، أبناء وبنات الطبقة الوسطى، أو الفلاحين أو العمال من الطبقات الكادحة، يسمونها الطبقات «الدنيا» أو «السفلى»، وأحيانا يقولون «الطبقات المحرومة».
كلمة «الحرمان» كانت تعبر بالضبط عن حالتنا نحن الأطفال وقد أصبحنا شبابا في غمضة عين، وتفتحت عيوننا على مدينة ليس لنا فيها شيء إلا أن نمشي في شوارعها ونهتف ضد الملك والحكومة والإنجليز، ضد الثالوث المقدس المترابط منذ 1882 بوثيقة كاثوليكية لا تنفصم إلا بالموت، وقد خلف لنا ثالوثا آخر غير مقدس، ثالوثا شيطانيا، هو: «الفقر والجهل والمرض.»
كلمة الحرمان لها وقع عذب في أذني، وكم شعرت بلذة الحرمان من الأكل أو الجنس في قمة لحظات الحب، كالشمعة تحترق، يذوب شمعها، يسيل فوق جسدها من شدة العذوبة والرقة إلى حد الفناء من أجل الآخرين، الإضاءة، أي إنكار لذواتنا، أن نحترق ونموت لينعم الآخرون بالضوء، هكذا تربينا منذ ولدنا في بيتنا ومدارسنا، ونشأت الهوة بيننا وبين ذواتنا، وأصبحت كلمات مثل: القناعة، والصبر، والزهد، والفداء، والتضحية، والحرمان، كلمات مقدسة، نلوكها كل يوم في صلواتنا مثل حبات السبحة، وأحلامنا تنسحب من الأرض إلى السماء، إلى الهواء؛ حيث نبحلق في الفراغ، نحلم بقصر بعد الموت في جنة عدن.
إلا أن عيوننا كانت ترتطم دائما بالقصور القائمة فوق الأرض، فوق الضفة الأخرى من فرع النيل، في «جاردن سيتي»، وقد نتمشى بالقرب من تلك الأسوار العالية من الطوب الأحمر، والشرفات الكبيرة ذات الأعمدة الحجرية العالية المطلة على النيل، يترامى إلى سمعنا ضحكات أنثوية ناعمة، وقهقهات ذكورية غليظة، مع رائحة السيجار والكافيار والويسكي واللحم المشوي، ودقات الموسيقى مع إيقاع الرقص والتانجو، وهنا ندرك أن كل شيء وفير موفور متنوع وغزير، والأكل والجنس وكل شهوات الدنيا.
خيالي كان يسرح وأنا أمشي في جاردن سيتي، لا شيء يفصلها عن مستشفى القصر العيني إلا بضعة أمتار، في بعض خطوات أنتقل من ثالوث الفقر والمرض والجهل إلى الثالوث المقدس؛ حيث تختفي الكلمات المقدسة التي حفظناها عن ظهر قلب: الحرمان، الزهد، الصبر، القناعة، الفداء، التضحية، وأكاد أفعل ما كان يفعله «منعم» الطفل الفلاح في منوف، حين كان يتشعبط على قضبان النافذة في بيتنا ويشهق: ياه! ربنا بيحبكم، أعطاكم خير كتير، لكن احنا الفلاحين الغلابة ربنا غضبان علينا.
نامعلوم صفحہ