فاجعل هذين البيتين رسالة إلى حبيبة، فإنهما يجزئان ويؤديان الرسالة، وينقلان إليها عن نفسك معاني الاحتراق والعشق والصبابة، ويتكلمان عندها كثيرا، ويعلقان بذهنها، ويدوران في قلبها دورة الدم. ثم اعمد إليهما فاجعل المعنى المنظوم في سطرين، وحاول منهما رسالة كتلك، فإن السطرين لا يتزحزحان ولا يمشيان إلا كما يتوكأ الأعرج على أعرج مثله ...!
وهذا إلى أن الكتابة في معاني الحب لا تحتمل الصدور والفصول وصناعة الألفاظ والترادف بالكثير منها على القليل من المعاني، ويسمج فيها خاصة ما نراه يحسن في غيرها من فنون الكتابة: كالتوسع بالنقل والرواية، وتشقيق الكلام بما يلابس كل معنى، والطغيان في العبارة بذلك وما إليه، وكل شيء فهو يصلح مادة للكتابة إلا في هذا الفن من رسائل الحب، فإن مادته القلب والروح وفلسفة العاطفة وترادف وحي الجمال بالمعاني الكثيرة على الشعور الواحد، لا وحي اللغة بالألفاظ الكثيرة على المعنى الواحد، ولا يتخلص إلى فنونه ومعانيه إلا من ثمة. فكأن هذا الباب هو من ناحية ليس في طبيعة كتابه المتقدمين ومن الناحية الأخرى ليس في طبيعة الاجتماع يومئذ ؛ لأسباب لا محل لبسطها في هذا الإيجاز.
ولقد كتب شيخنا وأديبنا الكبير «الجاحظ» رسالة في العشق والنساء، وهي مجموعة رسائله، فكان والله كالذي يلبس ملكة الجمال في هذا العصر مرقعة قذرة ... واجتلب من هنا وهناك لمعانيه، وشق لها المداخل والمخارج على طريقته، واتسع بذلك في العبارة، فجاءت أبرد رسائله وأسقطها، وكان هذا الإمام فيها كالذي يتحسس بيده مجلدا ضخما من الكتب، ثم يذهب يستوحي من جلدته أوصاف ملمس جسم الحبيبة ... التي كأنها طاقة نرجس أو كأنها ياسمينة، أو كأنها خرطت من ياقوتة.
وساق ابن قتيبة في كتابه: «عيون الأخبار» رسالة منية إلى صاحبها قابوس - وهما من أعلام العشق والأدب - ثم جواب قابوس عليها، ثم رسالة أخرى منه
7
فكتبت منية إلى حبيبها:
من سن سنة فليرض بأن يحكم عليه بها؛ ومن سأل مسألة فليرض من العطية بقدر بذله، لكل عمل ثواب، ولكل فعل جزاء، ومن بدأ بالظلم كان أظلم، ومن انتصر فقد أنصف، والعفو أقرب إلى العقل، وغير مسيء من أعتب، مع المخض تبدو الزبدة، عند تناهي البلاء يكون الفرج، كل ذي قرح يشتهي دواء قرحه، كل مطمع منتظر، كل آت قريب؛ الموت أروح من الهوى، اليأس أول سبب الراحة، السحر
8
أنفذ من الشعر، دواء كل محب حبيبه، مع اليوم غد، كما تدين تدان، استشف الله لما بك، واسأله المدافعة عنك!
وأجابها قابوس:
نامعلوم صفحہ