وزدت أنك أنت
زجاجة العطر
ما نفع رقة روحي؟
رسم الحبيبة
البلاغة تتنهد
رسالة للتمزيق ...1
القمر1
قال القمر ...
نظراتها
استمداد فلسفة
صرخة ألم ... وألم الحب
مني السلام
الحبيبات والمصائب ...
رسالة الابتسامة
جواب الزهرة الذابلة
يا للجلال
الأشواق
كتاب رضا
رواية القلم
نار الكلمة
المتوحشة ...!
أما قبل
جواب غريب
كذب مصور
لماذا ... لماذا؟
كتاب لم تكتبه ...
قالت وقلت
الغضبى1
هدية شتم ...
متى يا حبيب القلب
صلاة في المحراب الأخضر
شجرات الشتاء
رسالة الطيف1
في العتاب
في الأحلام
في معاني التنهدات1
أليس كذلك
النجوى
هل أخطأت ...؟
قلت وقالت1
يا قلبي!
البحر
فلسفة المرض
يوم النوى
الهجر
من قلمها
وهم الجمال
والسلام عليها
وزدت أنك أنت
زجاجة العطر
ما نفع رقة روحي؟
رسم الحبيبة
البلاغة تتنهد
رسالة للتمزيق ...1
القمر1
قال القمر ...
نظراتها
استمداد فلسفة
صرخة ألم ... وألم الحب
مني السلام
الحبيبات والمصائب ...
رسالة الابتسامة
جواب الزهرة الذابلة
يا للجلال
الأشواق
كتاب رضا
رواية القلم
نار الكلمة
المتوحشة ...!
أما قبل
جواب غريب
كذب مصور
لماذا ... لماذا؟
كتاب لم تكتبه ...
قالت وقلت
الغضبى1
هدية شتم ...
متى يا حبيب القلب
صلاة في المحراب الأخضر
شجرات الشتاء
رسالة الطيف1
في العتاب
في الأحلام
في معاني التنهدات1
أليس كذلك
النجوى
هل أخطأت ...؟
قلت وقالت1
يا قلبي!
البحر
فلسفة المرض
يوم النوى
الهجر
من قلمها
وهم الجمال
والسلام عليها
أوراق الورد
أوراق الورد
رسائلها ورسائله
تأليف
مصطفى صادق الرافعي
فاتحة
بقلم مصطفى صادق الرافعي
إنه ليس معي إلا ظلالها، ولكنها ظلال حية تروح وتجيء في ذاكرتي، وكل ما كان ومضى هو في هذه الظلال الحية كائن لا يفنى، وكما يرى الشاعر الملهم كلام الطبيعة بأسره مترجما إلى لغة عينيه، أصبحت أراها في هجرها طبيعة حسن فاتن مترجمة بجملتها إلى لغة فكري.
كان لها في نفسي مظهر الجمال، ومعه حماقة الرجاء وجنونه، ثم خضوعي لها خضوعا لا ينفعني ... فبدلني الهجر منها مظهر الجلال، ومعه وقار اليأس وعقله. ثم خضوعها لخيالي خضوعا لا يضرها ...
وما أريد من الحب إلا الفن، فإن جاء من الهجر فن فهو الحب ...
كلما ابتعدت في صدها خطوتين رجع إلي صوابي خطوة ...
لقد أصبحت أرى ألين العطف في أقسى الهجر؛ ولن أرضى بالأمر الذي ليس بالرضا، ولن يحسن عندي ما لا يحسن، ولن أطلب الحب إلا في عصيان الحب، أريدها غضبى، فهذا جمال يلائم طبيعتي الشديدة، وحب يناسب كبريائي ودع جرحي يترشش دما، فهذه لعمري قوة الجسم الذي ينبت ثمر العضل وشوك المخلب، وما هي بقوة فيك إن لم تقو أول شيء على الألم.
أريدها لا تعرفني ولا أعرفها، لا من شيء إلا لأنها تعرفني وأعرفها ... تتكلم ساكتة وأرد عليها بسكوتي. صمت ضائع كالعبث، ولكن له في القلبين عمل كلام طويل ...
صدر من التاريخ
بقلم مصطفى صادق الرافعي
هذا الديوان من الرسائل تكملة على كتابين خرجا من قبل، وهما: «رسائل الأحزان» و«السحاب الأحمر» فجملة آرائنا في فلسفة الجمال والحب وأوصافهما هي في هذه الكتب الثلاثة.
ورسائل «أوراق الورد» هذه تطارحها شاعر فيلسوف روحاني وشاعرة فيلسوفة روحانية، كلاهما يحب صاحبه كما يقول الفيلسوف ابن سينا «باعتبار عقلي»،
1
وسيرى القارئ فلسفة حبهما في بعض ما يأتي، كما رأى من ذلك في الكتابين الآخرين، وقد جرت الرسائل بينهما على أغراضهما في أحوال مختلفة يكتب إليها بما عنده منها، وما عند نفسه من نفسه، وما يكون من الوجود المحصور بينهما في حدود الحب، وكأن تلك الكتب الثلاثة هي ما استوجبته الحياة من عمل قلب ذلك الشاعر في تدوين حادثة واحدة من حوادثه، فلو أن بيانا أكثر من أن يكون بيانا لما علمته إلا هذا الأثر من خالصة السريرة في ذلك الشاعر الخالص للحب. الموقوف الضلوع على الهوى! •••
وأما بعد، فإننا لا نعرف في تاريخ الأدب العربي كله رسالة كتبت من هذا الطراز، على كثرة كتاب العربية وكتبها، وعلى ما أبدعوا في فنوان الترسل، وعلى أن هذه العربية من أوسع لغات الدنيا فيما خصت به المرأة، وما أوقعته على صفاتها، وما أقامته على العاطفة إليها، وما حفلت به من ألفاظ معانيها ، حتى لو أمكن أن ترسل لغات الأمم ألفاظها تستبق في المعاني النسائية، لما كان السبق إلا للألفاظ العربية، ولا أوفى على الغاية إلا المعجم العربي وحده!
وفي تاريخ أدبنا ممن اشتهروا بالعشق من نكاثر بهم في هذا الباب، ومن أشهرهم: مجنون بني عامر
2
وصاحبته ليلى، وقيس بن ذريح ولبنى، وتوبة وليلى الأخيلية، وكثير وعزة، وجميل وبثينة، والمؤمل والذلفاء، ومرقش وأسماء، وعروة وعفراء، وعمرو بن عجلان وهند، والمهذب ولذة، وذو الرمة ومية، وقابوس ومنية، والمخبل السعدي والميلاء، ووضاح اليمن وأم البنين، وبشر وهند، وابن أبي ربيعة والثريا (وثريات كثيرة ...) والأحوص وسلامة، ونصيب وزينب، وأبو العتاهية وعتبة، وابن الأحنف وفوز، وأبو الشيص وأمامة، وابن زيدون وولادة، وكثيرون وكثيرات ...
اشتهر من شعراء الغزل خاصة كثيرون، منهم: ابن أدينة، وابن الدمينة، وابن الطثرية، وابن ميادة، وابن مطير، وابن أبي ربيعة، وابن ذريح، والعرجي، والمجنون، وقيس بن الحطيم، وسويد بن أبي كاهل، وكثير الذي قالوا فيه: لو رقى المجنون بشعره لأفاق، وجميل، ونصيب، ووضاح، وعباس بن الأحنف، والخليع، والوأواء، وابن الخياط، وابن زيدون، ومن لا يحصى في المشرق والمغرب والأندلس.
3
واشتهر من الشاعرات المتظرفات الجميلات الموقوفات على الحب: الذلفاء، وعنان جارية الناطفي، ويقولون: إنها أشعر الناس، وجنان صاحبة أبي نواس، وفضل الشاعرة جارية الخليفة المتوكل، وكانت أفصح أهل زمانها وكانت تهاجي الخنساء الشاعرة جارية هشام المكفوف، وعشقت الكاتب البليغ سعيد ابن حميد، وللمتوكل بنان ومحبوبة أيضا، وهما شاعرتان، وفي الأندلس: نزهون الغرناطية، وولادة، وحمدة الملقبة بخنساء المغرب ... وكثيرات غيرهن استوفينا أسماءهن في تاريخ آداب العرب.
وحفل تاريخ العرب بالقيان الظريفات الغزلات، ولا تكاد أسماؤهن تحصى، وهن سر الغزل الحي البديع الذي انفردت به تلك العصور، ولم يظفر الأدب العربي بمثله من بعدها إلى اليوم.
4
وجاء في آدابنا العربية من المؤلفات المعجبة التي أفردت للحب ومعانيه وأهله وأخبارهم ونوادرهم وأشعارهم كتب مجردة: منها كتاب الزهرة الذي ألفه الإمام محمد بن داود الظاهري فقيه أهل العراق
5
وقد جعل كتابه في مائة باب وهو القائل: ما انفككت من هوى منذ دخلت الكتاب! ثم الظرف والظرفاء، وكتب مؤلفه الكثيرة في هذه المعاني،
6
ثم مصارع العشاق الذي وضعه أبو بكر البغدادي السراج المتوفى سنة 509ه وجعله اثنين وعشرين جزءا، وهو أصل لكل ما وضع بعده من الكتب: كأسواق العشاق، وديوان الصبابة، وتزين الأسواق، ومنازل الأحباب، وغيرها ... ومع كل ما رأيت فقد انفرد الشعر وحده بالنسيب والغزل وأوصاف الجمال، وليس لنا كتاب واحد في رسائل الحب، ولا نعرف أحدا من البلغاء كتب فيها، ولعل هذا راجع إلى أن تلك الطريقة استقل بها الشعر في الصدر الأول فقلد الباقون، وأخذوا في مدرجتهم من بعد.
وكأن هذا الباب عندهم مما يرون للشعر به اختصاصا، فهو سبيله دون الكتابة والخطابة؛ لمكان الوزن في الشعر، فتجيء الرسالة الغزلية لحنا غنائيا من طبيعتها، ثم لأنه قد تقرر عندهم أنه يحسن في الشعر من فنون الكذب والمبالغة ما لا يطرد في النثر، حتى إن أكثر الرذائل - كالهجاء ووصف الخمر والمجون - كان ظرفها الشعر، وهي فيه سائغة وفي غيره منكرة، ولا يأتي منها في المنثور إلا قليل.
وقد نصوا على أن للشعر مواضع لا ينجح فيها غيره من الخطب والرسائل بل هو يفضلهما.
قال أبو هلال العسكري في كتاب «الصناعتين» وهو يعد هذه المواضع: «ومن ذلك أن صاحب الرياسة والأبهة لو خطب بذكر عشيق له وصف وجده به، وحنينه إليه، وشهرته في حبه، وبكاه من أجله؛ لاستهجن منه ذلك وتنقص به فيه، ولو قال في ذلك شعرا لكان حسنا».
وقد توفي العسكري سنة 395 للهجرة، وعلى كثرة ما حشد في كتابه من فنون النثر وطرائفه لم يأت برسالة واحدة بين حبيبين، إلا ما أورده في باب: (ما يحتاج الكاتب إلى ارتسامه وامتثاله)، قال: وينبغي أن يكون الدعاء على حسب ما توجبه الحال بينك وبين من تكتب إليه ... وقد كتب بعضهم إلى حبيبة له: عصمنا الله وإياك مما يكره. قال: فكتبت إليه: يا غليظ القلب! لو استجيبت لك دعوتك لم نلتق أبدا ...!
ولا ريب عندنا أن هذه الكتابة مصنوعة للتمثيل بها في هذا الموضع، كالذي كانوا يصنعونه من الشعر إذا احتاجوا إلى الشاهد والمثل، على ما بيناه في باب الرواية من تاريخ آداب العرب.
ثم هم يخصصون الشعر بالغزل والتشبيب والنسيب؛ لأن الشعر أيسر عملا وأخف مؤنة في هذا الباب؛ إذ يعين بقوافيه على الإبداع في المعاني فإن القافية كثيرا ما تخترع المعنى وتلهمه الشاعر، ثم الشعر يصحبه الوزن واللحن فيعين بنسقه أيضا كما يعين بقوافيه، ثم تجيء ألفاظه مقدودة مفصلة فتكون حلية ثالثة، ثم هو يكتفى منه بالبيتين والأبيات اليسيرة فيجيء كل ذلك على أتمه وأحسنه ويقوم به، بخلاف الكتابة: فلا يجدي فيها السطران والأسطر القليلة في رسالة تصف الحب، وما ستر هناك يفضح هنا، وما أعان في الشعر يخذل في النثر، والشعر إجمال والكتابة تفصيل:
وأنت فاعمد إلى بيتين من رائع الغزل كقول ابن الطثرية:
بنفسي من لو مر برد بنانه
على كبدي، كانت شفاء أنامله
ومن هابني في كل شيء وهبته
فلا هو يعطيني ولا أنا سائله!
فاجعل هذين البيتين رسالة إلى حبيبة، فإنهما يجزئان ويؤديان الرسالة، وينقلان إليها عن نفسك معاني الاحتراق والعشق والصبابة، ويتكلمان عندها كثيرا، ويعلقان بذهنها، ويدوران في قلبها دورة الدم. ثم اعمد إليهما فاجعل المعنى المنظوم في سطرين، وحاول منهما رسالة كتلك، فإن السطرين لا يتزحزحان ولا يمشيان إلا كما يتوكأ الأعرج على أعرج مثله ...!
وهذا إلى أن الكتابة في معاني الحب لا تحتمل الصدور والفصول وصناعة الألفاظ والترادف بالكثير منها على القليل من المعاني، ويسمج فيها خاصة ما نراه يحسن في غيرها من فنون الكتابة: كالتوسع بالنقل والرواية، وتشقيق الكلام بما يلابس كل معنى، والطغيان في العبارة بذلك وما إليه، وكل شيء فهو يصلح مادة للكتابة إلا في هذا الفن من رسائل الحب، فإن مادته القلب والروح وفلسفة العاطفة وترادف وحي الجمال بالمعاني الكثيرة على الشعور الواحد، لا وحي اللغة بالألفاظ الكثيرة على المعنى الواحد، ولا يتخلص إلى فنونه ومعانيه إلا من ثمة. فكأن هذا الباب هو من ناحية ليس في طبيعة كتابه المتقدمين ومن الناحية الأخرى ليس في طبيعة الاجتماع يومئذ ؛ لأسباب لا محل لبسطها في هذا الإيجاز.
ولقد كتب شيخنا وأديبنا الكبير «الجاحظ» رسالة في العشق والنساء، وهي مجموعة رسائله، فكان والله كالذي يلبس ملكة الجمال في هذا العصر مرقعة قذرة ... واجتلب من هنا وهناك لمعانيه، وشق لها المداخل والمخارج على طريقته، واتسع بذلك في العبارة، فجاءت أبرد رسائله وأسقطها، وكان هذا الإمام فيها كالذي يتحسس بيده مجلدا ضخما من الكتب، ثم يذهب يستوحي من جلدته أوصاف ملمس جسم الحبيبة ... التي كأنها طاقة نرجس أو كأنها ياسمينة، أو كأنها خرطت من ياقوتة.
وساق ابن قتيبة في كتابه: «عيون الأخبار» رسالة منية إلى صاحبها قابوس - وهما من أعلام العشق والأدب - ثم جواب قابوس عليها، ثم رسالة أخرى منه
7
فكتبت منية إلى حبيبها:
من سن سنة فليرض بأن يحكم عليه بها؛ ومن سأل مسألة فليرض من العطية بقدر بذله، لكل عمل ثواب، ولكل فعل جزاء، ومن بدأ بالظلم كان أظلم، ومن انتصر فقد أنصف، والعفو أقرب إلى العقل، وغير مسيء من أعتب، مع المخض تبدو الزبدة، عند تناهي البلاء يكون الفرج، كل ذي قرح يشتهي دواء قرحه، كل مطمع منتظر، كل آت قريب؛ الموت أروح من الهوى، اليأس أول سبب الراحة، السحر
8
أنفذ من الشعر، دواء كل محب حبيبه، مع اليوم غد، كما تدين تدان، استشف الله لما بك، واسأله المدافعة عنك!
وأجابها قابوس:
من الكرام تكون الرحمة، ومن اللئام ... تكون القسوة، من كرم أصله؛ لأن قلبه ورق وجهه، ومن عاقب بالذنوب ترك الفضل، ومن ترك الفضل أخطأ الحظ، ومن لم يغفر لم يغفر له، أولى الناس بالرحمة من احتاج إليها فحرمها، لكل كرب فرج، ولكل عمل ثواب ملكت فأسجحي، قدرت فأعفي، ويل للشجي من الخلي إلخ إلخ.
فانظر ويحك ما هذا الكلام المتقطع المبتدل المطروق المنتزع كله من الأمثال والأحكام، وكأن العشق في الحافظة ... ولم يورده ابن قتيبة إلا في باب النساء والعشق ... ثم ما عسى كان يقول هذان الحبيبان لو أن منية هذه قامت على منبر مسجد الكوفة ... وصعد قابوس المنبر في مسجد البصرة، وأرادا أن يخطبا الناس لإقامة صلاة الجمعة؟ •••
على أن بلغاء الكتاب في كل عصر تناولوا في ترسلهم فن (الإخوانيات) وأجروا فيه رسائل المودة والشوق والصداقة والاستعطاف والعتاب والاعتذار والاستزارة لمجالس اللذات والأنس، وهذه كلها من أمس المعاني بالحب وأقربها شبها به، وقد أجاد بعضهم في ذلك إجادة بالغة، وأنت تجد رسائلهم منثورة في كتب الأدب
9
ومن أبدعها قول سعيد بن حميد، حبيب فضل الشاعرة. «إني صادقت معك جوهر نفسي، فأنا غير محمود على الانقياد لك بغير زمان؛ لأن النفس يقود بعضها بعضا».
10
غير أنهم يشترطون في هذا الفن من الرسائل الإيجاز والاختصار، وألا يتجاوزوا به نكتة المعنى، ليجيء قصدا قريبا، ولعل ذلك للعلة التي أومأنا إليها من قبل، إذا كان هذا على حدود الحب، فإذا تبسط فهو الحب بعينه، والكثير في الحب لا يكثر ولا يمل، أما في الصداقة فإلى حد وحسب.
وانظر ما كتب بعضهم في قطيعة صديق؛ إذ كتب إليه:
لم يدع انقباضك عن الوفاء وانجذابك مع سوء الرأي في ملاحظة الهجر والاستمرار على الغدر - محركا من القلب عليك، ولا خاطرا يومي إلى حسن الظن بك، هيهات! انقضت مدة الانخداع لك حين أخلفت عدة الأماني فيك، وما وجدنا سائرا من تأنيب النصحاء في الميل إليك، والتوفر عليك، إلا الإقرار بطاعة الهوى والاعتراف بسوء الاختيار.
فهذه الرسالة لو أنها صرفت إلى حبيبة، وامتد بها النفس على هذا الأسلوب وبمثل هذا التصرف لتكون صفحتين أو تبلغ ثلاث صفحات، لرجفت أركانها الوثيقة، وخرجت إلى الاستكراه والتكلف، وجاءت عيوبها من محاسنها، وهلك من طولها أولها إلى آخرها.
ولذلك نحونا في «أوراق الورد» أسلوبا خاصا، تدور به المعاني الحية في ألفاظها بألين مس وألطفه على وضع مستحكم كما يمس الدم الحي عروقه التي يدور فيها. •••
ولم نقف على اسم كتاب أفرد لرسائل الحب، ولو أنهم كتبوا فيها لجمعت كغيرها وأفردت بالتدوين، بيد أن للقيان الأديبات المتظرفات ضربا من رسائل الحب يكتبنها بالذهب والمسك والزعفران في بديع الحرير الصيني وضروب الديباج، ويجعلن ظروفها طرائف المناديل؛ ويتخذن لها الزنابير الحريرية تربطها، ويطيبنها بالمسك والذرائر،
11
ولا يكتبن فيها إلا «نتف الألفاظ المهلكة ... وملح المكاتبة، وطرائف المعاتبة، وجميل المطالبة، وشكيل المداعبة، وقد جمع أبو الطيب الوشاء من أدباء القرن الثالث كتابا من هذه الرسائل سماه: (فرح المهج) والذي يؤخذ من كلامه أن أكثر ما يكتب في ذلك هو الشعر والمثل وأبيات العتاب والسلام ونحوها، مما هو محفوظ مأثور، فليست هذه من رسائل الحب وإنما هي من وسائله.
وأبعد في الاستحالة من كل ما مر أن يكون في الأدب العربي ديوان من الرسائل الغرامية لكاتب واحد، فلقد كان مثل ذلك في الشعر كالندرة والفلتة، حتى قال الجاحظ: «لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلاما وخاطرا! ما قدر أن يكون شعره في مذهب واحد لا يجاوزه، لأنه يهجو ولا يمدح ولا يتكسب ولا يتصرف، وما نعلم شاعرا لزم فنا واحدا ولزومه فأحسن فيه وأكثر.
ولأديبات الجواري رقاع في مكاتبة عشاقهن، بيد أنها لا تذهب إلا مذهبا واحدا في الكلام، فهي في القلم كما هي في اللسان، وليس الكتاب إلا رسولا لا رسالة، وقد نقل صاحب الأغاني في ترجمة «عريب» الحسناء الفاتنة المغنية الشاعرة الكاتبة البليغة المتعشقة التي تكاد تشبه الأديبة الفرنسية الشهيرة المتسمية (جورج ساند) في عشقها واستكلابها ... نقل أنها عشقت صديقا لمولاها يقال له حاتم بن عدي قال؛ فمد عينه إليها «فكاتبها فأجابته» وقال أيضا: إنها لما صارت في دار المأمون، احتالت حتى أوصلت محمد بن حامد وكانت قد عشقته «وكاتبته»، ونقل عن بعضهم قال: وسمعت من يحكي أن بلاغتها في كتبها ذكرت لبعض الكتاب، قال: فما يمنعها من ذلك وهي بنت جعفر بن بحيى؟
12
ثم روى صاحب الأغاني من مجونها وإفحاشها، فلو أن لها رسائل حب لاستطرف منها هو أو غيره، ولكنها كما قدمنا، رقاع في مثل الكلام الذي يتراجعه كل صاحبين إذا تحدثا أو تشاكيا أو تواعدا، وليست من الرسائل المصنوعة المجودة القائمة في فنها على شاعرية الجمال وتفلسف الحب وغزل الروح وخصائص المعاني.
وتبذل بعض أدباء المتأخرين فكتبوا في الرسائل الغرامية يخاطبون فيها بكاف الخطاب المفتوحة. كقول الأديب الشهير ابن سيناء الملك في رسالة: «وأنا والله في أمرك مغلوب، والسبب أني أنا المحب وأنت المحبوب، ولا أتجلد عليك فأغرك وأخون حبك، ولا أتصنع عليك فأغشك، وأغم قلبك ... اعمل ما شئت فأنا الصابر، وافعل كيف شئت فأنا الشاكر، وقل فلي سمع يعشق قولك، والتفت تر آمالي ترفرف حولك، وافعل فأنت المعذور، واستطل فما أنا المضرور بل المسرور، وارجع إلى الواد الذي بيننا فكل ذنب لك مغفور».
وهذا كما ترى، كلام غث سمج، وحب قد يكنسه في الطريق الكناسون، ولبديع الزمان رسالة مشهورة، إلى بعض من عزل عن ولاية حسنة، أثبتنا في ديوان رسائله، ولابن الأثير في كتابه «المثل السائر» رقعة قال إنها من عاشق لمعشوق، وعدها فيما عد من معانيه المبتدعة، وكل ذلك عندنا لا قيمة له.
ومن المضحكات رسالة كتبها علاء الدين المغربي سماها النيرين. قال: وهي من المحب الكئيب إلى حبيب الحبيب
13 ... وقد أوردها ابن أبي حجلة من أدباء القرن الثامن في كتابه الذي سماه: (حاطب ليل). •••
فأنت ترى أن الأدب العربي قد انطوى على محجوبة من هذا الفن بقيت في الغيب إلى عهدنا هذا، ونرجو من فضل الله أن تكون كتبنا الثلاثة قد أظهرتها، واستعلنت بها، وأن تقول العربية إذا تواصفوا كتب هذا الباب في بيان اللغات الأخرى: «هاؤم اقرؤا كتابية».
والحمد لله بما يبلغ رضاه.
المقدمة
بقلم مصطفى صادق الرافعي
هذا كتاب «أوراق الورد» فحدثني من حدث
1 ... في سبب هذه التسمية قال: كانت معها ذات يوم وردة لا أدري أيتهما تستنشي الأخرى
2
فجعلت لها ساعة من حفاوتها تلمسها مرة صدرها ومرة شفتيها، والوردة بين ذلك كأنما تنمو في شعاع وندى، إذا رأيتها وقد تفتحت وتهدلت حتى لحسبت أنها قد حالت أوراقها شفاها ظمأى.
ثم تأملتها شيئا، ثم نحت إلي بصرها
3
وقالت: ما أرى هذا الحب إلا كورق الورد في حياته ورقته وعطره وجماله، ولا أوراق الوردة إلا مثله في انتثارها على أصابع من يمسها إذا جاوز في مسها حدا بعينه من الرفق، ثم في تفترها على إلحاح من يتناولها إذا تابع إلحاحه عليها ولو بالتنهد، ثم في بناء عقدها على أن تتحلل أو تذوي إن لم يمسكها مع بنائها الرفيق حذر من أن تكون في يده
4 ... لأنها على يده فن لا وردة.
ثم دنت الشاعرة الجميلة فناطت وردتها إلى عروة صاحبها فقال لها: وضعتها رقيقة نادية في صدري، ولكن على معان في القلب كأشواكها ... فاستضحكت، وقالت: فإذا كتبت يوما معاني الأشواك فسمها «أوراق الورد» وكذلك سماها! •••
عمر الورد فصل من السنة! أما الشوك فعمره ما بقيت الشجرة وما بقي حطبها، ولذلك ينسى الحبيب ويذهب الحب، ويبقى بعدهما القلب العاشق وليس بينه وبين آلامه إلا كما ذر الضياء بين أول الفجر وآخرة الليل في مرأى من النور والظلمة يخيل إليك من غبشه
5
أن الليل ظلام مكفوف وراء حائط من البلور: فالآلام دائما بمنزلة من القلب المحب والأشواق منه أبدا على أسباب؛ ومن أحب مرة فما اهتدى إلى حبيب ينتهي منه إذا سلاه، وإنما ابتدأ في جمال هذا الحبيب أشواق الحياة التي لا تنتهي، وعرف من الحب طريقا بين الحس والغيب آخره دائما أول غيره كطريق السماء لعينك؛ كل مسافة أنت مقدرها فيه تراها قد نيطت بمسافة أخرى
6
إلى ما لا ينتهي ولا ينقطع؛ إذ ليس ذلك اتصالا بين المسافات المكونة للأبعاد أكثر مما هو اتصال بين النواميس المكونة للأبدية.
وإلقاء الحب الصحيح في قلب من خاطره الهوى، معناه إيحاء الفن إلى صاحب ذلك القلب يفهم به الصورة الشعرية الجميلة التي يلبس منها الحبيب جماله، فيرى كيف يجيء كل شيء من حبيبه كأنه في وزن من الأوزان، حتى لكأن هذا الشكل المحبوب إن هو إلا لحن موسيقي خلق إنسانا يجاوب بعضه بعضه ... ... وبذلك يخرج من فهم جمال الحبيب إلى فهم جمال الطبيعة، ويدرك بروحه ما حول كل شيء من الجو الخيالي البديع المحيط به إحاطة الوزن الشعري بالكلمة والنغمة الموسيقية بالصوت، ومن ذلك ينبثق في نفسه نور إلهي خالق يفيض على كل جمال في الأرض والسماء ما يجعل هذا الجمال من إدراكه أو حسه بسبب قريب، فتشتمل نفسه العاشقة على آفاق واسعة من جمال الخليقة ما دام في نفسه الحب، كما تحيط العين بالأفق فتحويه ما دام في العين البصر! •••
وتاريخ الحب عند صاحب هذه الرسائل كان كله نظرة أخذت تنمو وبقيت تنمو ... وهو حب قد كان من نمائه وجماله وطهره كأنما أزهرت به روضة من الرياض لا امرأة من النساء، وكان من مساغه وحلاوته ولذاته البريئة كأنما أثمرت به شجرة خضراء تعتصر الحلاوة في أثمارها أصابع النور فأنت لا تجد في هذه الرسائل معاني النساء متمثلة في امرأة تتصبى رجلا، ولكن معاني الحب والجمال متألهة في إنسانية تستوحي من إنسانية أو توحي لها.
وبين الدهر والدهر تخرج الأقدار على طوفان الشهوات الذي يغرق الإنسانية عاشقا روحانيا في طباعه مثل شموخ الجبل العالي وقوته وتماسكه تأوي إليه صفات الحب السامية يعصمها ويبقيها على ندوها
7
ولو في إنسان واحد كما هي على أصيلها في جمال الكون، وهذا الإنسان لا يعطي الدنيا إلا من سبيل حرمانه هو، وكأنما يحترق قلبه ليسطع بالنور والدفء على القلوب المظلمة الباردة التي لا يكون الحب فيها إلا خديعة مسولة من الطبيعة بين الجنسين حين تعمد إلى حسابها العجيب في جعل الاثنين ثلاثة.
8
وكل الصفات السامية متى نزلت إلى الدهماء والأوشاب وهذا الهمج الهامج في إنسانية الحياة، نحلوها أسماء من طباعهم لا من طباعها؛ فاسم الفضيلة عندهم غفلة، والسمو كبرياء، والصبر بلادة، والأنفة حماقة، والروحانية ضعف، والعفة خيبة، والحب اسمه الفسق ...! •••
وصاحب هذه الرسائل يرى نفسه في الحب كأنما وضع على هامش الناس، منطلقا غير مقيد، عزيزا غير ذليل؛ فهو كالسطر الذي يكتب على هامش الصفحة يستعرض ما ملأها بين أعلاها وأسفلها، وله الشرح والتعليق وما في معناهما، إلى التهكم والضحك والسخرية، ومن ثم فرسائله كذلك على هامش كل رسائل الحب: يتجافى بها عن ألفاظ الشهوات ومعانيها مما يتعمده بعض فحول الكتاب في أوربا، ولا طلاوة لرسائلهم وقصصهم بغيره؛ إذ هو يشبه أن يكون روح اللحم والدم في اللغة، ويتوخون التأثير من أقرب الطرق إليه، فيمسون شهوات القراء بالحادثة والوصف والعبارة كما يدر لعاب الجائع على ألفاظ الطعام وأوصافه ورائحته ... وإنما نحن نرى أن لحياة الحب - حتى يكون حبا صحيحا - واقعا غير الواقع في هذه الحياة، وأوهاما غير أوهامها، وحقائق غير حقائقها، فلا بد لها من كلام يلائمها في هذا المعنى الطائف بين القلب والروح يكون أشبه بكلام النية الصادقة لو نطقت في لسان، وبكتابة الضمير المخلص لو كتب في قلم.
والحب الصحيح إذا سلمت فيه دواعي الصدر،
9
واعتدلت به نوازي الكبد،
10
وتوثق فيه عقد النية،
11
واستوى غيبه ومشهده
12
كان أشبه بقوة سماوية تعمل عملها لتبدع من الإنسانية شعرا أسمى من حقائقها؛ كما كانت الإنسانية نفسها قوة عملت أعمالها؛ لتبدع من حقائق الطبيعة أخيلة أجمل من مادتها. فشعر العقل تخلقه الإنسانية من الطبيعة بالعلم، وشعر القلب يخلقه الحب من الإنسانية بالجمال؛ ومن ثم فالحب كالطبقة بين الإنسانية والإلهية، أفلا تراه يأبى حين يكون إلا أن يكون وحده هو الحق الذي ليس له في البشرية فوق فليس في البشرية ما يوضع فوقه، حتى كل ما عداه من الحقوق والواجبات فهو من بعده في الموضع والمنزلة؟
الحب الصحيح ليس له فوق، ولا يشبهه من هذه الناحية إلا الإراة الصحيحة، فليس لها وراء ولا يمين ولا شمال، وما هي إلا أن تمضي أمام أمام. •••
إنك لا ترى في هذه الرسائل ما ينزع به الكلام ذلك المنزع الذي أشرنا إليه آنفا، ولا ما يتوسع به كتاب أوربا من الحشو الذي يوجه على علل مختلفة بين التاريخ والاجتماع وما إليهما، ولا ما يقحمونه في رسائلهم من كلام نازل كالكلام الذي يتراجعه العامة،
13
فإن كتابنا خالص للجمال بذاته، واقع من الحب في خاص معانيه، ولقد كانت حوادث صاحبنا في حبه كالسحب الرقيقة في سماواتها، عمر ساعة من الشفق، وتأتي وعليها ألوانها الإلهية أصباغا واقعة كما تتفق، ثم لا يكون الجمال والتناسب مع ذلك إلا كما تتفق، فكذلك نشأت رسائله من وحي القلب وروحانيته، تموج بمعانيها وتتبرج في معارضها، ولعمري لمن كتب في الحب والجمال بقلم لقد كتب صاحب هذه الرسائل بقلب؛ ولو تحيا الابتسامة والدمعة لكانتا سرور ذلك الحب وحزنه كما وقعا في حياة الكاتب وأيامه من صاحبته، فهما لا يتجاوزان البث والتشاجي، وتباريح الصبابة، وتسليم الابتسامة على الابتسامة، ومغاضبة الدمعة للدمعة، ولكليهما من روح صاحبه داع ومجيب، وعلى ما طال بينهما من زمن الحب فهي كأنها لم تزد له على أن سنحت مسح الغزال وولت ... •••
وكان القدر ينقي حوادث هذا الغرام كما تنقى المدرة من الحب
14
بأصابع دقيقة تحت عينين مبصرتين؛ فكانت النفس فيه مع جمحاتها كالفرس تترامى في عنانها مخلى لها الطريق، ولكن أمر الطريق لها، ونهيه في العنان الذي يلجمها، وظلمات الحب في بعض النفوس المختارة كظلمات الليل في بعض الليالي: هذه لها القمر وتلك لها الفضيلة.
وما أحسب حب هذا الشاعر وتلك الشاعرة قد كان في كل حوادثه إلا تأليفا من الأقدار لهذه الرسائل بمعانيها، حتى إذا كسيت المعاني ألفاظها، انبثقت كالنور، وصدحت كالنغم، وجاءت كإشراق الضحى؛ لتناسم الأرواح
15
بعبارات صافية من روح قوية فرض عليها أن تحب، فلما أحبت فرض عليها أن تتألم، فلما تألمت فرض عليها أن تعبر؛ فلما عبرت فرض عليها أن تسلو ...!
وزدت أنك أنت
تالله لو جددوا للبدر تسمية
لأعطي اسمك يا من تعشق المقل
1
كلاكما الحسن فتانا بصورته
وزدت أنك أنت الحب والغزل
وزدت يا حبيبتي أنك إنت ...
إن حقيقة الجمال الذي يغمر العالم أراها كأنها بجملتها مستقرة في الموضع الضيق الذي بيني وبينك وبين قلبي، تملأ مع هذا الكون عالما آخر من شعوري بك.
وفي نظرات عينيك الساحرتين أرى لمحات منبثة من الإرادة المسيطرة وراء الأشياء، تفعل مثل فعلها الجبار وراء عواطفي.
واليقين الذي دليله الإيمان والتسليم، أحسه إحساسا في نظري إليك وفي نظرك إلي، كأني أتحول معك إلى إقرار.
والمعنى العجيب الذي يفتن فتنة درية اللؤلؤة الثمينة، ويسحر سحرا نورانيا في الماسة الكريمة النادرة، هو بفتنته وسحره في نسويتك الجذابة، غير أنه اتخذ من أشياء الطبيعة أبدع ما ينظر فيه، واتخذ منك أنت أجمل ما يعقل فيه.
وما رأيتك مرة إلا خيلت لي أن بعض النواميس المادية القاهرة في هذا الوجود قد تحولت إنسانية فيك، وكأن القوى مبعثرة هناك ومنظمة هنا، وكأنك منها تقيد منطلق، واجتماع متفرق، وكأن ما حد له رآك له حدا فوقف وظهر!
ولو ولد النور لكان وجهك الجميل المشرق، ولو ولدت الكهرباء التي هي سر النور لكانت أسرار عينيك، ولو تولدت القوة التي هي سر الكهرباء لكانت فتنة حبك، وكل المعاني التي في نفسي لا تتخذ صورها إلا منك؛ لأنك بجملتك تمثال الشعر.
وفيك المعاني التي تقول: أين كلماتي؟
وفي أنا الكلمات التي تقول: أنت معاني! •••
في نفسي عالم أحلام من خلق عينيك الذابلتين.
وفي نفسك عالم أسرار من خلق أفكاري المعذبة.
خرجنا كلانا بالحب والجمال من حد الإنسان إلى حد العالم.
وتحولنا كلانا بالهوى من حالة شخص إلى حالة عقل.
كيف تجدين ما في وإنك لتعلمين أنك في؟
أما أنا فأجد كل ما فيك حلوا حلوا؛ لأن طعمه حلو في قلبي! •••
وعندما أنظر إلى ازدهاء الشفق بألوانه وأصباغه كأنه صورة جديدة في الخلق عرضت ليراها أهل الأرض، أحسبني على مرمى السهم من جنة في السماء فتحت أبوابها ولاحت أطراف أشجارها.
وعندما أتأمل انبثاق الفجر، يخيل إلي من جماله وروعته أن الوجود في سكونه وخشوعه نفس كبرى تستمع مصغية إلى كلمة من كلمات الله لم تجئ في صوت ولكن في نور.
وعندما أبصرك أنت، أوقن أن الحسن المعشوق ما هو إلا خيال الجنة الأخروية يناله من الدنيا إنسان في إنسان.
أنت وحدك أذقتني نشوة الظمأ إلى الأسرار القلبية، بما ذقته من لذة ظمئي إليك ولهفته، وأريتني جمال الشعر في خيالاتي العطشى الحائمة أبدا على نهر النور من جسمك، وعلى ذلك النبع الأحمر الصغير، نبع الياقوت المتفجر دائما بابتسام شفتيك، وجعلتني من وحي جمالك المتنزل على قلبي أشعر أن هذا الجمال السماوي أنشأ في صفة ملائكية ترفعني فوق إنسانيتي.
بهذه الصفة أراك في بعض ساعات قلبي تظهرين لي وكأن سرا من الكون يتجلى بك، ويقول لي من عينيك: المسني وانظرني فيها ...!
سر هادئ ناعم يتناثر في ألحاظك ألين من تنفس رشاش الأمواج المتطاير إلى بعيد: يكون كالهباء من البحر، ومع ذلك فهو أثر قوته وجبروته.
فيك يا حبيبتي من أبدع محاسن الكون، وزدت أنك أنت الحب ...!
زجاجة العطر
«وأهدى إليها مرة زجاجة من العطر الثمين وكتب معها»:
يا زجاجة العطر، اذهبي إليها، وتعطري بمس يديها، وكوني رسالة قلبي لديها.
وها أنذا أنثر القبلات على جوانبك: فمتى لمستك فضعي قبلتي على بنانها، وألقيها خفية ظاهرة في مثل حنو نظرتها وحنانها، وألمسيها من تلك القبلات معاني أفراحها في قلبي ومعاني أشجانها.
وها أنذا أصافحك، فمتى أخذتك في يدها، فكوني لمسة الأشواق، وها أنذا أضمك إلى قلبي، فمتى فتحتك فانثري عليها في معاني العطر لمسات العناق. •••
إنها الحبيبة يا زجاجة العطر! وما أنت كسواك من كل زجاجة ملئت سائلا، ولا هي كسواها من كل امرأة ملئت حسانا؛ وكما افتنت الصناعة في إبداعك واستخراجك، افتنت الحياة في جمالها وفتنتها، حتى لأحسب أسرار الحياة في غيرها من النساء تعمل بطبيعة وقانون، وفيها وحدها تعمل بفن وظرف.
وأنت سبيكة عطر. كل موضع منك يأرج ويتوهج، وهي سبيكة جمال، كل موضع فيها يستبي ويتصبى؟
وما ظهرت معانيك إلا أفعمت الهواء من حولك بالشذا، ولا ظهرت معانيها إلا أفعمت القلوب من حولها بالحب.
وكلتاكما لا يمس أحد منها إلا تلبس بها فلا يستطيع أن يخلص منها، ولا يستوي له أن يخلص منها.
1
أنت عندي أجمل أنثى في الطيب
2
من بنات الزهر، وهي عندي أجمل أنثى في الحب من بنات آدم. •••
قولي لها يا زجاجة العطر، إنك خرجت من أزهار كأنها شعل نباتية ، وكانت في الرياض على فروعها كأنما تجسمت من أشعة الشمس والقمر ؛ فلما ابتعتك وصرت في يدي، خرجت من شعل غرامية، وأصبحت كأنما تجسمت من أشواقي وتحياتي ولمسات فكري، ولذلك أهديتك ...
وقولي لها: إن شوق الأرواح العاشقة يحتاج دائما إلى تعبير جميل كجمالها، بليغ كبلاغتها، ينفذ إلى قلب الحبيب بقوة الحياة سواء رضي أو لم يرض، وهذا الشوق النافذ كان الأصل الذي من أجله خلق العطر في الطبيعة. فحينما تسكب الجميلة قطرة من الطيب على جسمها تنسكب في هذا الجسم أشواق وأشواق من حيث تدري ولا تدري، ولذلك بعثتك ...
وقولي لها: إنك اتساق بين الجمال والحب، فحين تهدى زجاجة العطر من محب إلى حبيبته فإنما هو يهدي إليها الوسيلة التي تخلق حول جسمها الجميل الفاتن جو قلبه العاشق المفتون، ولو تجسم هذا المعنى حينئذ فتمثل فنظره ناظر، لرآها هي محاطة بشخص أثيري ذائب من الهوى واللوعة يفور حولها في الجو ويسطع
3
ولذلك يا زجاجة العطر أرسلتك ... •••
أيها العطر! كانت أزهارك فكرة من فن الحسن توثبت وطافت زمنا على مظاهر الكون الجميلة، كي تعود آخرا فتكون من فن الحب، وفي ذلك مازجت الماء العذب، ولامست أضواء القمر والنجوم، وخالطت أشعة الشمس، واغتسلت بمائة فجر منذ غرسها إلى إزهارها؛ لتصلح بعد ذلك أن يمس عطرها جسم الحبيبة، ويكون رسالة حبي إليها!
أيها العطر! لقد خرجت من أزهار جميلة، وستعلم حين تسكبك هي على جسمها الفاتن أنك رجعت إلى أجمل من أزهارك، وأنك، كالمؤمنين تركوا الدنيا، ولكنهم نالوا الجنة ونعيمها ...!
ما نفع رقة روحي؟
يا من لنضو طريح
مجمع من حطام
1
بقية من سلو
على بقايا غرام
وقطعة من جفاء
في قطعة من سلام
أضيء كالنجم لكن
في وحدة وظلام
وما أكابد نارا
يروه نورا أمامي •••
ما نفع رقة روحي
تندى كطل الغمام
وكل ما هو حولي
كحلق عطشان ظامى؟ •••
يا واصلا بالمعاني
وهاجري في الكلام
مخاصمي في نهاري
مصالحي في منامي
من العبوس كلام
معناه معنى ابتسام
ولن يغير جسم ال
وداد ثوب الخصام •••
ما نفع رقة روحي
تندى كطل الغمام
وكل ما هو حولي
كحلق عطشان ظامي؟
رسم الحبيبة
«ولما أهدت إليه رسمها كتب إليها»:
كنت ساعة أجلس للكتابة إليك، أراني كالمصور، غير أني أنقل من عالم في داخلي؛ أما الآن ورسمك يملأ عيني، فقد أضيف إلى عالمي المضطرب بأخيلته الكثيرة عالم من الجمال الصافي، هو فوق ذلك كالسماء فوق الأرض: تحييها بالشمس والقمر، وهو من وراء ذلك كالآخرة وراء الدنيا: تطعمها بالجنة والخلد.
ولكدت والله يا حبيبتي أتخيل هذا الرق
1
الموضوع أمامي يبرق بصورتك ويشرق بوجهك - نافذة سحرية فتحت بيني وبين عالم الجمال الأزلي فأطل فيها وجه حوراء من حور الجنة ينظر إلي وأنظر إليه، يحمله جسم خلق ليكون فتنة للجنة ذاتها، وكأنه بجماله ومعانيه حقائق ذلك النعيم جاءت تترجم لذة الخلود للنفس البشرية في بلاغة مصورة اختاروا لها رسمك أنت.
وهل في الحسن أحسن من هذا الوجه الذي يرف على القلب بأندائه ويتلألأ بنضرته، حتى لكأنه خلق من نور الفجر، وكأن علامة الفجر فيه إنما هي هذا الروح الذي يحيط القلب من وجهك بمعان كنسمات الصبح، عليلة من شدة الرقة، ذابلة من فرط الجمال، مملوءة من روح الندى بما يجعلها حول النفس كأنها جو من شعور حي فرح لا نسمات في الجو.
وجه منضر يفزع لروعة حسنه من يراه، كأن شيئا بدعا لم يكن ممكنا فأمكن! أو كأن في حمرة خديه وشفتيه خمر القلب رؤيتها شربها، وفيها السكر بالجمال والنشوة بالهوى، فما هو إلا أن ينظر وجهك الناظر حتى يخالط قلبه.
وعلى ما رأيت هذا الوجه الفاتن، فما رأيته من مرة إلا حسبتها أول مرة، وكانت معه لنفسي جمحاتها الأولى، كأن الحب الذي بدأ في أول نظراتي إليه يبدأ في كل نظرة إليه بدءا جديدا؛ وأرى أجمل الوجوه يخاطب في حاسة الإعجاب، ولا يعدو هذه العاطفة، وأرى وجهك أنت يبلغ مني القصوى، ويأخذ بقلبي كله، ويستولي على جملة ما في إنسانيتي.
وإني لألمح فيه سرا عجيبا يكون فقدان العبارة عنده هو أبلغ العبارة في وصفه؛ إذ لا تتكلم روعة الحس بالجمال ، وهي تنزل في صور الألفاظ، وإنما تغمز على القلب غمزة خافتة تشعر الناظر أن روح المنظر خامرت الروح، وأن حياة الشكل انسكبت في الحياة، وأن المعنى الغامض في السر اتصل بالمعنى الغامض في النفس.
ويمثل هذا السر الذي يطالعني من جمال وجهك أصبح الجمال على الحقيقة هو علم أفراح النفس وأحزانها، وعاد الشخص الجميل المعشوق، وما هو بكل معانيه إلا الفن الفلسفي الكامل أتيح لنفس أخرى تحاول بالحب أن تكون كاملة.
ومن هذا السر يظل وجه الحبيب جديدا على كل نظرة من محبه، وإن طال ترداد النظر وتكراره، كأن الوقت لا يمضي معه كما يمضي مع الأشياء، وكأن الحب أبدية على قدر ما تحتمل الدنيا، ولذا فهو يضغط على القلب لا بالساعة ولا باليوم، بل يجثم بقطعة ضخمة من الزمن كأنها عمر كامل فرحها شديد شديد، وحزنها شديد شديد.
سر عجيبت فكرت طويلا كيف أسميه فلم يستو لي، وقد جل أن يقع معناه في كلمة، ولكني أسميه المعنى المتفرق المجتمع؛ إذ هو بجملته ظاهر في الوجه كله، وهو بجملته أيضا ظاهر على مقدار ذلك في كل موضع من قسمات وجهك ومعارفه، كأنه لا أجزاء له ولا جملة كأنه شيء أبدي، كأنه في وجهك تأله الحب. •••
ومن بعض هذا السر تلك الابتسامة الواقعة على ثغرك ترق فيها الروح مرة وتتكاثف مرة، حتى كأنها وهي في الرسم - لون روحي ظهر يتموج على شفتيك، فما أقلب فيه عيني إلا شعرت أن روحي تذوب فيه كما يتمازج لونان في السماء على الشفق الأحمر.
ومن بعضه هذه النظرة الحية التي تبعث في كل معنى من معانيك حياة، وتخلق منه لعيني فكرة أتلمحها فيه، حتى ليروعني من أثرك علي وأنا أنظر إلى رسمك، أني أتخيل نفسي بجملتها أسئلة وجسمك هذا بجملته أجوبتها!
نظرة ساحرة تجعلني أرى كل شيء في رسمك محدودا، ومع ذلك أراك أنت غير محدود في شيء! كأن لك فيضا من الجمال والسحر يستغرق العالم، ويغمر الكون، ولا يكتفي بما ينتهي دون ما لا ينتهي، أم كأنك أنت مجتلى هذا الفيض لعيني؛ وكأنك وسيلة في اتصال روحي بروح الجمال الأزلي.
وماذا أقول في هذا الشكل المنسجم المتجاوب من كل نواحيه، إلا أنه القوة الرهيبة ظاهرة في ملمسها الناعم، والضعف المؤنث الذابل مسلحا بأسلحة الشهوات والفتنة، والسلطة القادرة اتخذت لها شكل الجمال فيك لتأمر وتنهى فينا.
إنه الجمال أكبر من الجمال؛ إذ كانت فيه القوة والفتنة والحب جميعا، والجمال وحده من شأنه أن يعجب، ولكنه فيه يصبي ويدله، وبذلك يعجب ويفتن، وبذلك يتسلط مسوغا الحق، وبذلك لا تكون له إلا الطاعة!
لا أرى غير هذا الشكل يأخذ بقلبي، ولكن أين أجد الكلام يستوعب كل ما في قلبي لأعطي كل معانيك الصوت واللغة؟
وكيف لي أن أزعم أني وصفت التي تمتاز على الشمس والقمر بأن فيهما النور وحده، وفي وجهها النور الحي؟
البلاغة تتنهد
تقولين في رسالتك أيتها العزيزة:
1
لقد كنت أحسب فيما حسبت بعد أن طوحت بنا النوى
2
وضرب الدهر هذه الضربة بيننا - أن سعادة الفكر المتصل بي منك والمتصل بك مني تخفف عني بعض ما أجد فتنقل خفقة قلب إلى قلب، وترسل لمحة نفس إلى نفس، وتعطي العمر ولو عمر ساعة من غير هذا الزمن، فأقطع إليك هذه المسافة المتراخية
3
بقوة كقوة الأحلام: لا تدع في الكون أبعادا ولا مسافة بل تحويه كما تحوي المرآة الصورة التي تقابلها، تتراءى فإذا هي مرسومة كما هي منظورة، ولكن يا أسفاه! لقد أرتني الحقيقة أن الحياة مادة، وأن هذه المعاني المحبوبة التي نحفظها ممن نحبهم لا تزال تنازع دائما إلى أشخاصها المحبوبين؛ ليخففووا من لوعتها أو قل ليزيدوا في لوعتها - فإن الحب هو الطرف الشاذ الذي لم يعرف له وسط، فإن لم يكن ذاهبا إلى الزيادة مطردا بها، كان غير شك منحدرا إلى النقص مستمرا فيه.
الحياة مادة يا صديقي، فإذا أنا لم أقل كلمة وأسمع ردها، أو أخط سطرا أو أقرأ مثله، أو أرسل نظرة وأتلقى جوابها، فإن الفكر الذي يسعدني في كل شيء هو نفسه الذي يعذبني حينئذ بأحب الناس إلي، يعذبني بك حين لا أراك!
أما والله يا عزيزتي إن في دون هذا للبلاغة كل البلاغة، فكلامك بيان كإشراق الضحى، وهو مثلك فوق وصف الواصف، وإن فيك لمنبع سحر كالنهار الذي ينبع من شمسه، فلا تخط أناملك سطرا إلا تضوأت فيه الحياة،
4
ولا أقرأ لك لفظا تكتبينه إلا بمعنى منه ومعنى منك.
بل لا أراك تجمعين ضميري وضميرك معك في كلمة
5
إلا أحسست أنه لقاء بيننا في لفظ ...
وإن كتابك ليأتيني وكأنه صفحة مرآة مسحورة بسر من أسرار الحياة: لا تلبث عيني أن تدور فيها دورة فإذا أنت ماثلة، وإذ أنا لا أقرأ كلامك بل أقرأ وجهك!
ولما طلعت لي في هذا الكتاب، ألقيت نفسي من شفتي على شفتيك، وما أسرع ما نبهني مس الصحيفة، فنظرت فإذا أنا أقبل كلمتك البديعة: إن الحياة مادة.
كنت أعرف أن اللغة موضوعة لكل أهلها، شائعة في ألسنتهم جميعا، وقد خلقت من قبل أن يخلقوا، وتركها الأول للآخر، ولكن بلاغتك التي يتهلل بعضها تهلل جبينك، ويستحي بعضها استحياء خديك، ويفتر بعضها افترار شفتيك، وتأتي مفننة ناعمة كأنها جسم بديع ناضج للحب - قد جعلتني أعرف أن الكلمة التي يلقيها حبيب إلى محبه تأتي وكأنها لغة مخلوقة لساعتها؛ إذ ينتزع منها المحب صورا لا يراها في مثلها من كلام الناس، ويصيب لها في نفسه معاني لا تكون لها في ذات نفسها، ويراها مبتدعة له ابتداعا غريبا على نسق حي، فما ألقيت كلمة بين حبيبين إلا جاءت وهي تتنهد أو تبكي أو تضحك أو تتوجع، أو تنظر إلى معنى من المعاني بينهما؛ إذ لا بد أن تضرب على القلبين أحدهما أو كليهما.
إن الكلام في نفسه وسيلة من وسائل الفهم، فهو لغة، ولكنه في الحب وسيلة الجذب، فهو قوة، واللغة من بعض أدوات الحياة: أما لغة الحب خاصة فالحياة من بعض أدواتها.
لهذا يا عزيزتي، لا تكون الحياة في الحب إلا مادة: وإن النفس قد تجوع وتأكل من جوعها؛ إذ تخلق بإرادتها من الجوع أكلا فتشبع شبعا معنويا يلائمها كما جاعت ذلك الجوع الذي يلائمها: كنفس الذي قنع بالفقر وهو محتاج إلى الغنى، والذي صبر على المرض وهو فقير إلى العافية، ويطرد هذا القياس في كل أغراض الحياة، إلا في الحب، فإن جوع النفس العاشقة يقتلها قتلا؛ إذ لا غذاء لها من شيء في الوجود كله إلا ممن تحب.
ليس الحي منقطعا من الوجود، بل هو منه لأنه فيه، ويكاد كل شيء يقول له: يا ابني، أو يا أبي، أو يا أخي ... أو نحوها، فهذه الوشيجة بين الحي (والموجودات كلها)، هي قرابة العقل المسماة بالمعرفة، وصلته (بخصائص) الوجود في طائفة من الأحياء أو الموجودات، هي قرابة النفس المسماة بالصداقة، وشابكته (بأخص الخصائص) في حي واحد يجمع كل ذلك ويزيد ولا يزال يزيد، هي قرابة القلب المسماة بالحب.
نعم، وإن الحب ليكاد يكون معنى كبر في السن والقيمة والعقل من ذلك المعنى الطفلي الذي يندمج بالأم والابن معا في الوجود والعاطفة، فإذا كانت الأمومة هي التي تلد حقيقة الحياة بمعانيها الواقعة، فإن الحب وحده هو الذي يلد الحياة بشعرها ومجازها ومعانيها الخيالية الجميلة، ومن ثم لم يكن الحب رحما، وهو أشد منها صلة وأوقع في القلب، ولم يكن نسبا، وهو فوق النسب، ولم يكن دما من دم، وهو أشد ما عرف من حنين الدم للدم.
ولقد يكون في الدنيا ما يغني الواحد من الناس عن أهل الأرض كافة، ولكن الدنيا بما وسعت لا يمكن أبدا أن تغني محبا عن الواحد الذي يحبه.
هذا «الواحد» له «حساب» عجيب غير حساب العقل، فإن الواحد في الحساب العقلي: أول العدد، أما في الحساب القلبي فهو أول العدد وآخره، ليس بعده آخر إذ ليس معه آخر.
والحياة في كل موضع - يا حبيبتي - هي هي كما تكون في كل موضع وكأنها البحر: ماؤه في أمريكا هو ماؤه في مصر - إلى حيث يكون الحبيب، فهناك مع الحياة شيء غيرها، هناك المادة الخفية القادرة التي تنساغ في هذه الحياة ؛ لتلونها تلوين الزهرة منفردة بالجمال والعطر من بين أوراق شجرتها، على حين كل أوراق الشجرة مسحة لون واحد. (الحياة مادة) فأين أنت يا مادة الروح المنسكبة في روحي؟
أضع في آخر كلماتي سطرا غير مكتوب. سطر فيه كثير من المعاني المتكلمة من غير كلام ...!
رسالة للتمزيق ...1
وكم حار عشاق ولا مثل حيرتي
إذا شئت يوما أن أسوء حبيبي
وهل لي قلب غير قلبي يسوؤه
ويأخذ لي في الكبرياء نصيبي؟
ألا ليت لي قلبين: قلب بحبه
مريض، وقلب بعد ذاك طبيبي
ويا ليت لي نفسين: من رئم روضة
ألوف، ومن ذي لبدتين غضوب
وكيف بقلب واحد أحمل الهوى
عجيبا على طبعي وغير عجيب
فوالله إن الحب خير محاسني
ووالله إن الحب شر عيوبي •••
هذه رسالة لن أبعث بها، رسالة مني أنا وإلي أنا، أكتبها اليوم لأقرأها غدا، فقد - والله - كاد هذا الحب يجعلني على اختلاف أيامه أشخاصا مختلفين متناكرين، حتى إنه ليحتاج شخص الغد أن يتعرف ماذا كان خبر شخص الأمس؟
أكتبها لنفسي، ومتى تنفس غد هذا اليوم النحاسي
2
من فجره الذهبي، وأخذت تتسلى هموم يوم في يوم آخر، وضربت موجة من الزمن موجة أخرى فهزمتها إلى الساحل الذي تموت فيه الأمواج، ساحل النسيان المحيط ببحر الحوادث؛ لتتكسر عليه أمواجها العاتية ضربة ضربة. ثم تنسحق وتتلاشى - فحينئذ أقرأ في رسالتي هذه تاريخ الألم الذي بلغ مني الغيظ، ودك أطوادا شامخة من الصبر كنت ألوذ بها في رمضاء الحب، حتى عادت ظلاما كظلال الحصى لا تفيء إليها النملة ...
وأقرؤها ثم أمزقها من سطرها الأعلى إلى سطرها الأسفل، ثم أنحي عليها من كل جهة تقطيعا حتى أدعها مزقا بعدد كلماتها، ثم أبسط بها كفي إلى الريح، وأقول لها: أيتها الريح التي لا يستطيع أن يرد هبوبها أحد ولا أن يلويها عن وجهها، إن هذا كله ريش طائر من طيور الحب ذبحه الهجر فخذيه إلى حيث لا تلتقي واحدة بواحدة، وانثريه في أمكنة منسية، فإنك تبعثرين به خفقات هذا القلب الذي يحاول أن ينسى ! •••
واها لحوادث الحب، كأنما هي تقع لتغير من الحياة في أيام قليلة ما يغير العمر الممتد في سنوات متطاولة. سل الشيخ الفاني الذي أوفى على المائة فأصبح عمره في الإنسانية صفرين إلى عود
3 ... سله: من أنت؟ يقل لك: أنا الذي كنت أنا من أربعين! بل خمسين بل ستين سنة، ... وسل المحب الذي أضناه الحب. من أنت؟ يقل لك: أنا الذي كان هو من شهر أو شهرين أو ثلاثة! ... وسلني أنا في الهجر لا بل دعها هي تسألني ...
ألا إن شر الحوادث هي تلك التي تنزل بنا فلا نعرف منها إلا أننا كنا نعيش من قبلها، وتتقدم الحياة يوما بعد يوم، ولكن الحي جامد في مكانه من الزمن على ألم يتوجع له ما يبرح أو ذكرى يحن إليها ما يزال!
أنا منذ شهر أرقب منها كتابا ولا يأتي كتابها، ففي كل يوم غضب على أثارة قبله،
4
وكنت أرى أن الحب هو الطريقة التي يعثر بها الإنسان على روحه وهو مغشي بماديته، فيكون كأنه في الخلد وهو بعد في الدنيا وأكدارها، فأصبحت أرى الحب كأنه طريقة يفقد بها الإنسان روحه قبل الموت، فيعود كأنه ضارب غمرة
5
من الحميم وهو قار في نسيم الدنيا!
ليس لي والله من شدة حبي إياها إلا أن أبغضها وأتجهمها بالكلام النافر الغليظ، وأقول لها ... نعم أقول لها، ثم أقول لها: قبح الله الحب إن كان مثل وجدي بك: لا يؤتي الحياة جمالها إلا يسلبها حريتها واستقرارها معا! وأقول لها، ثم أقول لها: لقد أوقعتني من حبك وهجرك بين الشر والذي هو شر منه ... وأقول لها أيضا: لقد يكون ما نراه من حب المرأة الجميلة فنظنه أبدع ما تحسنه من الرقة والظرف، هو أبدع ما تتقنه من صناعة الكذب بوجهها ...!
ولكن هل تصدق شيئا من هذا، وهي تعلم من فلسفتها، ومن غرائزها أن إرادة البغض إنما هي أقوى دليل على وجود الحب، وهي التي قالت لي ذات يوم: إن ازدراء رجل محب لامرأة يحبها هو حب جديد!
يا ويحي، ماذا أصنع؟
إن سكت علمت علم السكوت، وقالت: محب يأكل الغيظ من قلبه، وإن غضبت لم يفتها معنى الغضب، وقالت: محب يلتمس أسباب الرضا، وإن زعمت السلوة كان الزعم من حجتها، وقالت: محب يصور قلبه غير تصويره!
يا ويحي! كيف؟
أيمكنني أن أنزل هذه الصورة الفاتنة من مكانها، وقد أرادت المقادير أن تزخرف بها غرفة الأحلام في نفسي فجعلتها في صدرها؛ لأنها من زينة الله التي أخرجها لي، ولم يجتمع ما أحبه من الجمال في امرأة إلا فيها؟
وهل على الحب خيار؟ أم هو الجمال الأزلي يستعلن لكل إنسان بالوسيلة التي توافق مزاجه، وتلائم تركيب نفسه على قدر ما يلائمه وعلى أحسن ما يلائمه، فأتى الحب متخذا من الشكل المحبوب وسيلته فلا يكون أكمل ولا أجمل عند كل عاشق من معشوقه؛ إذ هو ليس إلا الصورة التي تتراءى فيها خصائص الجمال العلوي للخصائص التي في روح العاشق وطباعه فتتصل بها من الجهة التي تنفذ منها إلى خالصة قلبه، وداخلة روحه.
6 •••
أنا لن أبغضها إلا أن تسيء إلي أكبر من إساءة دلالها، بل إساءة تضعها في دمي، دمي الحر الجياش المتحدر إلي من أقصى تاريخ المكارم.
إني لمن أولئك الذين يعرفون أن لهم عروقا سماوية في أرواحهم تتضرم بالشعاع القدسي الذي كان يوما في بعض أجدادهم. إما نبوة نبي، وإما خلافة خليفة، وإما ملك ملك.
وفي مذهبي أنه إذا اجتمع الأذى والحب في قلب، وجب أن ينصرف الحب مطرودا مدحورا، وليس من ذلك بد، ولكن، بالله! أين منها الأذى الممض المؤلم الذي يطرد الحب، ويجعلني أبغضها بدمي كما أحببتها بدمي؟
إن هي إلا هذه الإساءة المبتسمة، إساءة الدلال التي تغضب لتجدد الرضا؛ وتبعد لتؤتي القرب معنى غير معناه القديم، وتؤلم لتحدث اللذة الحادة التي يمزاجها الطرب، وترسل الوحشة إلى القلب كأنها سفير سياسي يمضي بأسلوب الحرب ليرجع بأسلوب السلم، وتأتي من كل ذلك ما هي آتية لتجمع عليك من سحر الزمان الذي يهدد الحب، ومع قوة الحسن قوة الرغبة في لذة الحسن، ومع ثورة القلب عليها ثورة الفكر على القلب وعليها!
ليت شعري، أتقوم العاصفة الهوجاء من خطرات مروحة الحبيبة؟ ويقع الزلزال المدمر من رجرجة منديلها في يدها؟ لا أدري ولكن ربما! ربما!
إن لكل حبيبة خيالا ساحرا كأنه خارج من قوى الكون كله لا من قواها الضعيفة، فما تلمس من شيء إلا سحر به على عين محبها فحوله فيما شاء الهوى من صور الخيال المعقولة والمستبعدة، والممكنة والمستحيلة!
وكل حبيبة وصاحبها كالوثن وعابده: في أحدهما الحقائق كلها ما دام في الآخر الوهم كله!
إن المرأة لتكون امرأة وحسب، إلى أن تجد عاشقها، فإذا هي وافقت منه الحب فقد تألهت في قلب إنسان، وصار لها جنتها ونارها، ومضى منها الأمر وكأنها عند محبها تأسر بقوة قادرة على أن تحيي، وتنهى بقوة قادرة على أن تميت! ... وليس ما يصفها به العاشق من فنون الجمال الخيالي، وما يفيض عليها من ألوان التعبير المصبوغ - إلا ما تتوهمه العين البشرية من جلال فوق الحس، ويريد الحس أن يصل إليه كأن هناك في العقائد الإنسانية معضلتين: ما وراء الطبيعة، وما وراء الحبيبة ...
كل يوم أقول في هذه الجميلة القاسية التي أبغضها، أعني أحبها، أعني أبغضها ... إنها لظريفة إلا حين يجب أن تكون ظريفة ... وإن كل محاسنها لا تعن إلا في مساو بقدرها.
7
ترى ماذا حبس كتبها عني؟ أتكلمني بهذا السكوت؟ إن السكوت للغة أحيانا؟ أم هي تدعني أبحث عن كلمتها في خواطري وأفكاري لأسر بقدر ما أجد، وأتألم بقدر ما أستطيع؟ أم المحبة قد أخذت تطير إلى النسيان بأجنحة الأنام التي تحمل كل شيء ولا ترجع به.
إن السكوت من أكبر فضائل المرأة، وقليلا ما وفقت إليه! ولعله أشق عليها من كتمان سرها؛ ولكن سكوت الحبيبة عن كلمات الحب هو الرذيلة، الرذيلة التي لا يعدلها في الغيظ عند محبها إلا أن تنطق بهذه الكلمات - كلمات الحب - لرجل غيره.
اتفقت لي بالأمس حادثة أوحت إلي بهذه الحكمة: قد يكون أدق خيط من خيوط آمالنا، هو أغلظ حبل من حبال أوهامنا ...!
آه آه! ما أراني عند هذه الكلمة إلا قد انتهيت إلى الموضع الذي يحسن عنده تمزيق رسالتي؛ لأقول للريح: خذي ريش طائر الحب المذبوح ...
القمر1
«وكانت تأنس بضوء القمر، ويعجبها نوره على الحديقة خاصة، فسألته أن يناجي هذا «الجميل» في رسالة، فقال: حبا وكرامة «للقمر» ... وكتب».
إني لأراك أيها القمر منذ علقت معاني ما أرى، ولكني لم أعرف أنك أنت كما أنت إلا بعد أن وضع الحب فيها بينك وبين قلبي وجه من أهواها، كما يوضع التفسير إلى جانب كلمة دقيقة ...
عندئذ وصلتك قرابة الجمال بوجهها فاتصل بك شعوري؛ وبت على بعدك في أفلاك السماء تسبح أيضا في دائرة قلبي، واستويت متسقا كأن عملك لي أن تتمم فن جمالها بإظهارها أجمل منك، وأمسيت عندي ولك مثلها شكل السر المبهم المحيط بالنفس المعشوقة: يدخل كل جمال في تفسيره، ولا يكمل تفسيره أبدا!
ومن شبهك بوجهها أزهر الضوء فيك ما يزهر اللحم والدم فيها، فتكاد أشعتك تقطف منها القبلة، ويكاد جوك يساقط من نواحيه تنهدات خافتة، وتكاد تكون مثلها يا قمر مخلوقا من الزهر والندى وأنفاس الفجر! •••
أما قبل حبها فكنت أراك أيها القمر بنظرات لا تحمل أفكارا.
كنت جميلا، ولكن جمال ورق الزهر الأبيض، وكنت في رقعتك المضيئة تشبه النهار مطويا بعضه على بعض حتى يرجع في قدر المنديل، وكنت ساطعا في هذ الزرقاء ولكن سطوع المصباح الكهربائي على منارة قائمة في ماء البحر، وكنت زينة السماء ولكن كما تناط مرآة صغيرة من البلور إلى حائط فتشبه من صفائها موجة ضوء أمسكت ووضعت في إطار معلق!
وكنت يا قمر ... كنت ملء الوجود، ولكنك ضائع من فكري! •••
وأما بعد حبها فأمسيت أراك أيها القمر ولست إلا طابع الله على أسرار الليل في صورة وجه فاتن، كما أن كل وجه معشوق هو طابع الله على أسرار القلب الذي يحبه.
فأنت جميل جمال الجسم البض العاري، تكاد تشبه صدر الحبيبة كشفت أعلاه فظهر في بريق الفضة المجلوة.
وأنت فاتن تحاكي في ضوئك وجهها لولا أنك بلا تعبير.
وأنت ساطع بين النجوم، ولو تجسمت صورة من أجمل ضحكات ثغر معشوق لكانت، ولو تجسمت القبلات المنتثرة حول هذا الثغر لكانتها!
2
وأنت زينة السماء، ولكن السماء منك كمرآة سحرية اطلعت فيها حورية من حور الجنة فأمسكت خيال وجهها في لجة من النور، فأنت خيال وجهها!
وأنت يا قمر ... أنت ملء الوجود، ولكنك أيضا ملء فن الحب ...! •••
أتذكر أيها القمر إذ طلعت لنا في تلك الحديقة ... وتفيأت بنورك عليها فغمرت أرضها وسماءها بروح الخلد، حتى وقع في وهمنا أنك وصلتها من سحر أشعتك بطرف من أطراف الجنة فهي ناحية منها؟
أتذكر وقد رأيتك ثمة قريبا من الحبيبة تصب عليها النور حتى خيل إلي أنها إحدى الحور العين متكئة في جنتها على رفرف خضر
3
وقد وقف لخدمتها قمر؟
أتذكر وقد لمست فكري بضوئك لمسة نور فأظهرتها لي كأنها في جمالها الطاهر شكل ديني وضع ليكون مثالا لعبادة القلب الإنساني؟
أتذكر إذ نزلت علينا بآيات سحرك فخيلت لي أن العالم قد تحول فيها إلى صورة جميلة مرئية أمست لي وحدي، فملكت العالم كله في ساعة من حيث لم أملك إلا الحب؟
أتذكر ساعة جئتها بها من فوق الزمن، وكان فيها للحديقة جو من زهر، وجو من قمر، وجو من امرأة أجمل من القمر والزهر؟ •••
أترى يا قلبي كأن في الوجود الذي حولنا أنوثة وذكورة فهو بالقمر تحت الليل يعبر عن نفسه تعبيرا نسائيا في منتهى الرقة؛ لأنه قوي شديد، وفي غايته التفتر؛ لأنه مشوب متضرم، وفي كمال الدلال؛ لأنه في كمال الإغراء، وفي أقصى الحياء؛ لأنه يبعث بهذا الحياء فيما حوله أقصى الجرأة؟
تعبير امرأة معشوقة جميلة ترف بأندائها وليس فيها إلا صفات، وبالشمس على النهار يعبر الوجود عن نفسه تعبير رجل مقدام ليس فيه غير القوة والحركة والاندفاع.
تعبير رجل جبار يحمل عزائمه التي يحترق بها، وليس فيه إلا صفات النار!
4
أترى يا قلبي كأن مدينة الحياة في النهار بصراعها وهمومها تحتاج إلى قفر طبيعي يفر إليه أهل القلوب الرقيقة بضع ساعات، فلذلك يخلق لهم القمر صحراء واسعة من الضوء يجدون فيها بعد تلك المادية الجياشة المصطخبة روحانية الكون، وروح العزلة، وسكينة الضمير، ويبدو فيها كل ما يقع عليه النور كأنه حي ساكن يفكر.
أترى يا قلبي كأن ضوء القمر صنع صنعة بخصائصها؛ ليبعث في القلوب معاني القلوب الروحية من الفكر والحب، كما صنع نور الشمس؛ ليبعث في الأجسام قواها، ومعانيها المادية من الحياة والدم؟ ...
أترى يا قلبي كأن هذا القمر إنما يلقي النور على الحلم الروحاني اللذيذ الغامض الذي يحلم به كل عاشق من أول درس في الحب، ساعة ترسل الحبيبة إلى قلبه رسالة عنها، ولا يحلم بمثله في غير العشاق إلا أعظم الفلاسفة، وفي آخر دروس فلسفته، وبعد أن تكون الليالي الطويلة قد أطلعت في سماء عمره قمر الشيخوخة من شعره الأبيض؟
أترى يا قلبي كأن هذا القمر في الحب (تلسكوب) يكبر نوره العواطف حين تبث في ضوئه، فلا يطلع على حبيبين أبدا إلا كبر أحدهما في عين الآخر؟
أترى يا قلبي أنه ليس في الحب إلا عواطف مكبرة يثيرها دائما وجه الحبيب، فلا بد أن يكون دائما وجه الحبيب طالعة فيه روح القمر؟
أترى يا قلبي ...؟ آه ... أترى؟
قال القمر ...
يا ليل، هيجت أشواقا أداريها
فسل بها البدر: إن البدر يدريها
رأى حقيقة هذا الحس غامضة
فجاء يظهرها للناس تشبيها
في صورة من جمال البدر ننظرها
وننظر البدر يبدو صورة فيها •••
يأتي بملء سماء من محاسنه
لمهجتي، وأراه ليس يكفيها
وراحة الخلد تأتي في أشعته
تبغي على الأرض من في الأرض يبغيها
وكم رسائل تلقيها السماء به
للعاشقين، فيأتيهم ويلقيها •••
يقول للعاشق المهجور مبتسما:
خذني خيالا أتى ممن تسميها
وللذي أبعدته في مطارحها
يد النوى، أنا من عينيك أدنيها
وللذي مضه يأس الهوى فسلا:
انظر إلي ولا تترك تمنيها •••
أما أنا فأتاني البدر مزدهيا
وقال: جئت بمعنى من معانيها
فقلت من خدها، أم من لواحظها
أم من تدللها، أم من تأبيها
أم من معاطفها، أم من عواطفها،
أم من مراشفها، أم من مجانيها
أم من تفترها، أم من تكسرها
أم من تلفتها، أم من تثنيها!؟
كن مثلها لي. جذبا في دمي وهوى
أو كن دلالا وكن سحرا وكن تيها
فقال وهو حزين: ما استطعت سوى
أني خطفت ابتساما لاح من فيها ...!
نظراتها
أكتب إليك يا حبيبتي كتاب عيني؛ إذ أكتب عن نظرتك السحرية التي أجد لها في قلبي معرض فن كامل من صور المعاني الجميلة. فإن نظرة الحب تقع في العين وحقيقة معناها في القلب، كأختها قبلة الحب: هي في الفم، وحلاوة طعمها في الفكر.
أتدرين يا حبيبتي كيف أراك؟ ... إن في عيني من أثر حبك ما جعل في نظري قوة خلق معنوي تريني كل شيء من فوق معانيه، كأني خلقت فيه جمالا أو معنى، أو خلقت فيه القدرة على أن يسمو في روحي، ويرتفع بها فوق ما هو في نفسه وحقيقته، وعلى الجملة فكأني أسبغ الفن على المادة، فإذا كل شيء يرى هو في نفسي شيء ألبس مجازا أو استعارة أو نحوهما مما يحقق فيه مع صنع مادته عمل فكري وخيالي.
في نظري من أثر حبك حس من الفكرة، فهو نظر وتقدير معا، والأشياء لديه مادة وعبارة سواء، والإدراك به حقيقة وخيال جميعا، وبكل ذلك فالجمال في نظري جمال من ناحيتين: حسنه في ذاته، وحسنه في خيالي الذي يجعله أسمى من ذاته.
ولو أردت مثلا أضربه لقلت لك: خذي جمالين في معنى واحد فإني أنشأت حديقة زهر، ولكني لا أقول لك أنت غرست حديقة؛ بل أقول لك: غرست الفجر.
ومن ذلك يبدع لي الحب فكرة عنك لو هي كانت في خاطر ملك من الملائكة يمر بها في السماوات لما زادت ولا ارتفعت عما هي في نفسي ولو دخل بها الجنة، في هذه الفكرة عنك يا حبيبتي الجنس كله بأحسن ما فيه، وبهذه الفكرة أراك وفيك الجمال النسوي كله، فإذا نظرت إلى غيرك لم أر فيها إلا شخصها هي حسبه.
1
كذلك أراك بحس الشاعر الذي يضيف دائما إلى الحياة والطبيعة زوائده وفنونه، ولكني أراك أيضا بحس الطفولة التي تضيف إليها الحياة والطبيعة دائما مثل تلك الزوائد والفنون، فما أحسبني رأيتك مرة إلا وكأني رأيت فيك أول أنثى، وكأنما الحب هو بدء الدنيا مرة ثانية من أولها، أي ولادة خيالية: إن لم تولد بها الأشياء في أشكال جديدة فبألوان جديدة، أي زخرفة الوجود كله ونقشه لعين العاشق بجمال المعشوق، كأن الوجود بيت قد طلي وزخرف ونقش؛ لأنه ستدخله عروس الحب! •••
وانظري الآن يا حبيبتي صور نظراتك في قلبي، فإن لها بعثات من ورائها بعثات،
2
وفيها المعاني من تحتها المعاني.
فهذه نظرات تمتد تأمر تشعرني قوة سطوتها كأنها تقول: أريد ... أريد ... ثم لا يرضيها الرضا فكأنها تقول: أريد منك أكثر مما أريد ...!
ونظرات تجيء تشعر النفس قوة سحرها، فلا تتفتر بها عيناك حتى أرى الحياة وقد ملأت وجهك بفن من الأنوثة الساحرة كأنما أبدعته لك خاصة.
ونظرات من عين ساجية ساكنة الطرف كأنها تقول لي: إن نظراتي إليك بعض أفكاري فيك!
ونظرات بتقطع الطرف بيني وبينك فيها كأنها تقول لي أفهمت ...؟
ونظرة طويلة صارمة لها سيماء قاض محقق تبحث في عن توكيد لتهمة أو براءة!
ونظرات من عين تسأل متجاهلة وقد شطرت بصرها
3
كأن فيها فكرين؛ أحدهما يقول أعرفك، والآخر يقول لا أعرفك!
ونظرات الحبيبة لألات بعينها
4
كأنها تقول لقلبي: أنت جريء كالفراشة، ولكن على الشعلة المحرقة ...!
ونظرات الجميلة المزهوة كأن فيها شيئا أعلى من أرواحنا يوضح لمحات من الجمال الأزلي.
ونظرات الضاحكة اللعوب تنفر وتتدلل كأنما تقول لي: إنها تحس بأفكاري تداعبها وتلمسها!
ونظرات الخفرة الحيية التي كأنما تحاول أن تخفي سر قلبين تحت كسرة طرف ضعيفة.
ونظرات العذراء أومضت بعينيها وسارقت اللحظ
5
لأن روحها تريد أن تقول: إنها للحب متيقظة!
ونظرات ترنو في سكون واسترخاء كأنها تقول: إن تعبيري هو أن يموت في التعبير!
ونظرات أراها محدجة
6
كما تنظر من روعة وفزع حين لا فزع ولا روعة، فاعلم أن الجمال يهاجمني بسلاح خوفه !
هذه نظرة بريئة، ولكن في شكل خاص من البراءة ... لينبعث منها فجأة معنى ظريف يتماجن ويمكر ويعبث!
وهذه نظرة ناعسة، كأن وراءها فكرا خطرا نائما تجتهد أن لا ينتبه ...!
وهذه نظرة - نظرة واحدة - يقول من يعرف أنساب معاني الحب: إنها ربما كانت ... أخت القبلة، في قصيرة لا ينفتح بها الجفن حتى ينطبق!
وهذه نظرة طويلة قوية في جذبها، فربما كانت أخت العناق!
وهذه نظرة - نظرة واحدة - يجشع فيها بصرك؛ لأن تهمة لك من عيني التقت مرة باعتذار لي من عينك.
وهذه نظرة بين المعنيين تحتمل كليهما: إساءة الدلال إلي وإحسانه علي!
وهذه نظرة بين اللقاءين
7
تجذب في قلبي الخوف والأمل بمقدار واحد. •••
تلك يا حبيبتي صور نظراتك في معرض قلبي، وتقابلها هناك الصور الأخرى التي لا تريدين أن أصفها لك؛ لأنها الصور المسكينة: صور أحلامي ...!
استمداد فلسفة
«وكتب إليها»:
جاءني كتابك، بل جئتني أنت في كتابك، فضممت الصحيفة إلى قلبي ضمة عرفتك فيها من خفقات هذا القلب واضطرابه! وقبلت الكلمات قبلا شعرت من سحرها في نفسي أن هذه الألفاظ قد خرجت من فمك الوردي فجاءت عطرا وحياة وجمالا، ونقلت في الكتاب جوا رقيقا نديا كان مطيفا بشفتيك عند كتابتها كأنه نسمة من الفجر حول وردة تتنفس بعطرها الذكي.
كلما قرأت لك شيئا نفذ إلى روحي بالعطر الذي عطرك الله به. كأن الكلام بيننا أثير تسبح فيه مادة نفسينا: ولو كل الجميلات في العالم لفظن كلمة واحدة ثم لفظتها أنت لكنت أنت وحدك القادرة على أن تصنع روح الجمال، وروح الحب، وروح المرأة في تلك الكلمة؛ لأن روحي لا تعرف الجمال والحب والمرأة إلا فيك!
ترينني حين أقرأ كتابك بين سحرين تظاهرا من ألفاظك ومعانيك، فتجدينني كالنائم تخلق الذاكرة في خياله أجسام المعاني المحفوظة؛ لتخرج له من الاسم صاحب الاسم، وترد عليه من الحكاية واقعة الحكاية، وتجرد منه شخصا لا حقيقة له ينطلق في عالم مسحور ليست له حقيقة ، ويألم النائم ويلذ كأنه من اليقظة لم يزل! •••
يذكرني هذا بما جادلتك فيه يوما من أن هناك عالما معنويا يخلق مما ننساه، ونحن ننتقل إليه أحيانا بالنوم، وأن هذا تمثيل لمعنى الخلود، أو هو من بعض أدلته؛ إذ لست أرى الموت إلا رجعة الروح إلى عالم أنشئ لها من أعمالها في رحمة الله ونقمته. فنحن على الأرض نبني لأرواحنا في السماء، ومنا من يبتني لنفسه المدينة العظيمة بخيراته وحسناته، ومن يبني لروحه السجن الضيق الوعر بآثامه وجرائمه!
ما لي أراني قد اندفعت إلى ما وراء الحياة؟ ولكن هل الحب إلا روحانية ترجع بنا إلى ما وراء أنفسنا لتضيف بعض المجهول إلى وجودنا، وتزيد لنا نعيم الدنيا وآلامها ما لا يزيده شيء آخر غير الحب؟
لو سألتني من هو العاشق لأجبتك إنه لن يكون عاشقا إلا من أحس أنه قذف به في الابتسامات والنظرات بمرة واحدة إلى مهبط السموات، فيشعر أن نعيمه أهنأ من نعيم الأرض، وأن عذابه أشد من عذابها، وكأنه إذ يتنعم لم يصب أسباب النعيم، بل أسباب الخلود في الجنة، وإذ يتألم لم يجد مادة الألم. بل مادة نارية خالدة على قلبه.
كذلك لا يبدأ الحب إلا من آخر الدنيا، فهو دائما على طرفها، ولو نصب ميزان الآخرة لعاشق من العشاق المتيمين ووضعت كرة الأرض بكنوزها وممالكها في كفة منه ثم وضع حبيبه في الكفة الأخرى، لرجحت هذه عنده؛ لأن فيها حبيبه وقلبه، وبقيت الأخرى. كأن لم يكن فيها شيء، وإن كان فيها المشرق والمغرب!
وأعجب من هذا أننا نجد من الزهاد والمتنسكين من يقطع دهره كله متعبدا منصرفا عن الدنيا إلى ما بعدها، جاعلا لسان حواسه الأرضية
1
دائما سماوي اللغة، ثم لا يجد مع هذا النسك وهذه الروحانية؟ من يقول: إنه كالملائكة على حين أن الكلمة الأولى التي يقولها العاشق في وصف حبيبه ساعة يمس قلبه: إنه ملك، وإنه من السماء، وإنه قانون من قوانين القدر، وإنه الوجود كله مختصرا في نفس إنسانية، والطبيعة كلها ممثلة في ذات لذات أخرى، وإنه مظهر من مظاهر التقديس لا تحيط به إلا معاني الجلال والعبادة فلا يزال القلب يركع أمامه ويسجد! •••
أتذكرين أيتها الحبيبة ما قلته لك ذات مرة وقد رأيت كلبك الصغير الجميل كأنه من تراميه عليك ومن معاني نظراته إليك - عاشق يريد أن تفهميه ... فقلت لك: إنني أراه يحبك بقوة أحسبها تحاول أن تقلبه إنسانا يحب ويعبد، فإن كان هذا في الحيوان ولم يزد على معنى الوفاء والأمانة شيئا، فليت شعري كيف تصنع هذه القوة في الإنسان، وهي فيه أمانة ثم رغبة زائدة عليها، ووفاء ثم غاية أعلى منه، وحب إنساني ذاهب إلى طرفه الإلهي، وشيء معلوم ثم شيء مجهول في المعلوم؟
إنها والله لن تدعه إنسانا أبدا ما دامت لا تدعه في نفسه. آه، آه! ما أرى الحب إلا قوة تخرج النفس وتشيعها في الوجود كله، أو تدخل الوجود كله إلى النفس وتدعه شائعا فيها، ولهذا فمهما يبلغ من سعة العالم فإنه لن يمتلئ عند المحب إلا بواحد فقط، هو الذي يحبه.
أعرف هذا منك أيتها العزيزة؛ لأني في هذا البعد أراك في كل مكان حتى لكأن هذا الوجود كله ورقة تصوير حساسة مصوبة بآلتها إلى قلبي تلتقط رسمك منه وتلقيه على كل شيء صرفت إليه عيني، وهذا - ولا ريب - معنى من معاني اللانهاية فلعل ناموس الحب لم يخلق إلا لتدرك منه الإنسانية ما يقرب لها فكرة ما لا ينتهي، فمادة الحبيب الممثلة في جسمه وتكوينه لا تفنى أبدا ولا تحصر أبدا. بل هي تنصب من عيني محبه على كل شيء وملء كل شيء.
الحبيب محدود بعاشقه فقط، وهذا مثال يقرب للعقل كيف يفهم الخلود الذي لا يفنى ولا ينتهي؛ لأنه أبدا ممتد مع الخالق الأزلي الذي لا ينتهي ولا يفنى. •••
عذرا أيتها الحبيبة، فمهما أكتب فلا يزال وراء الكلام ذلك المعنى الدقيق الذي لا يظهره الكلام، وذلك المعنى المعجز الذي هو بلاغة فوق البلاغة، ذلك المعنى الجميل الذي هو أنت ...!
صرخة ألم
«وسألته مرة أن يكتب إليها في أوصاف الألم وفلسفته، قالت: لأن قلبي يجد فيك يا أستاذي ... من يؤلمه، أعني يداويه مما يؤلمه!
فكتب هذه الرسالة والتي بعدها:
وأنا والله يا حبيبتي كسار وقع في ظلمة مدلهمة تحت ليل كأنه رماد قد هيل على جمرات النجوم فأطفأها، وهو على ذلك يخبط في قفر أشد وعورة واستغلاقا من جفاء الحبيبة الهاجرة المتعنتة: لا يعرف الطريق الذي يؤدي إليها كأنها ليست في جهة، ثم بينا هو يعتسف وقد ضل ضلاله شام البرق فحسب الملائكة جاءته من فوقه تحمل مصباحا، ولكن ظلام حظه جعل الملائكة أيضا تطفئ مصباحها، وتدعه لما بين يديه ...
وكذلك أطفأت أنت حتى كلمات الأمل، التي هي كالبرق تضيء ولا يثبت منها شيء، وتلوح معانيها ثم إذا هي مظلمة من كل معنى، وتركتني لآلامي كالحنظلة المرة، لو أنك أمسستها قطرات من العسل لما أحلتها ولا بقيت حلوة.
لا ... لا، بل قطرة واحدة من هذه القطرات تجعل حنظلتي كلها يا حبيبتي قرصا من العسل ما دامت منك.
تريدين أن أكتب أوصاف الألم وفلسفته؟ ألا فاعلمي أن آثارك في هي كتابي إليك ... لا ... لا، بل سأتكلم عن أخرى مثلك هي ... هي الحياة. •••
أكثر تكاليف الحياة في ألمها وتعبها كأكثر أمراض الحياة، فهل من هذا إلا أن كل إنسان مريض ما دام حيا - بأنه حي ...؟
ونعيش بين الأشياء والمخلوقات، ومنها ما يسرنا كأنه أجزاء في وجودنا قد زيت علينا، ومنها ما يؤلمنا كأنه أجزاء قطعت منا. فهل يؤخذ من هذا الإنسان ما دام مضطرا فهو مريض بأنه مضطر ...
فأين إذن يلقي الحي آلامه وفي جسمه مرض يخلقها مندفعة منه، وحول جسمه مرض آخر يردها راجعة إليه.
أهما مرضان في القوة أم سجنان للقوة؟ أم الألوهية تحقق بهذا الأسلوب الجبار قدرتها في ضبط هذا الإله العقلي المسمى الإنسان فشدته وثاقا من شعوره بآلامه، وجعلت أكثر معانيه الإنسانية هي أكثر سلاسله. •••
إنما أمر الله إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، ومن شقاء الإنسان أنه طول حياته يزور كلمة الألوهية «كن» ويريد أن يقبض من الأشياء قيمتها ...!
وأشد ما يؤلمه أن يهزأ منه ما يقول له «كن» فلا يكون منه شيء، فالحكيم لا يتألم إلا ألم الحكمة، والجاهل يتألم بآلام الخيبة والعقاب. •••
على أن كل ألم لو حققنا راجع بلذة أو حكمة أو منفعة، وأفراحنا وأحزاننا - على تناقضها تلتقي كلها منسجمة في الحكمة الأزلية التي قدرتها لمن يفرح ومن يتألم.
وما أشبه آلام الإنسان بألم الطفل المدلل. نراه يحزن لكثرة ما يفرح، ويحول ابتسامته دموعا في عينيه فيتغير في صورته دون أن يتغير في معناه، فيضحك باكيا، ويشكو فتكون شكواه طريقة مرح في غير شكلها، ويكون في نفسه معنى واحد ولكن وجهه الغض اللين يضع لهذا المعنى أساليب مختلفة هي أنواع من ألعاب الطفولة. •••
إننا نسر حين تخضع لنا القوة المحيطة بنا فتؤاتينا، ونألم حين تتمرد علينا، ولكن يا ويحنا! ألا يجوز أن نكون نحن قد تعالينا ففتناها، وتكون آلامنا آتية من سموها على المادة، كما ترى وجه الفيلسوف عابسا تحسبه منظر لوعة وهو منظر فكرة سامية؟
ترفعنا الهموم والآلام؛ لأن عواطف الحزن والشقاء لا تكون إلا من سمو، وهي لا بد أن تكون؛ لأنها وحدها الحارسة فينا لإنسانيتنا، إذ تخلق مع حياة الجسم المادية حياة معنوية للقلب، ونحسها من فقد ما نفقده؛ لأنه لا بد للضمير الإنساني من صوت أليم يقول له أحيانا: أنت سماوي فاترك هذا، وكأن كل لوعة ألم يحسها المرء هي صرخة عاطفة جديدة ولدت في النفس! •••
حين يموت الميت العزيز يولد من موته لذويه الحزن عليه ... تلك بعينها هي طريقة خلق الفضيلة؛ نفقد شيئا فنجد من فقده معنى.
والمرأة بكل قواها ترعى طفلها وتحوطه وتربيه، ولكن ابنها بكل ضعفه يربي عواطفها ويرعاها ويحوطها، وإن دمعه ليجعلها ترى للأشياء مدامع ... فهو خالق فيها؛ لأنه مخلوق منها، وهذا هو التفسير الذي لا غموض فيه؛ لأنه هو ذاته الغموض الذي لا تفسير له.
وكذلك آلامنا هي أطفال معانينا. •••
وقفت يوما على شاطئ البحر، فخيل إلي أنه عين تبكي بها الكرة الأرضية بكاء على قدرها، وتأملت الجبال فحسبتها هموما ثقيلة مطبقة على صدر الأرض، وفكرت في البراكين فقلت لوعة أحزانها تثور وتهمد.
ثم رجعت بهذا النظر في الإنسان، فإذا له على قدره بحر وجبال وبراكين.
عند الطبيعة: لا ألم ولكنه نظام، وعند الإنسان: لا نظام ولكنه ألم ...
ولعمري، لو أتى للأقدار أن تخاطب البائس المتألم لكان الخطاب بينهما جملتين من القدر، وحرفا واحدا من البائس على هذا النسق:
القدر :
هل عرفت كل السر؟
الإنسان :
لا.
القدر :
ويحك، فهذا الذي أصابك بعض السر!
... وألم الحب
أما ألم الحب، فذاك حين يأتي على اللحم والدم معنى لو تجسم لكان هو الذي يصهر الحديد في موج من لهب النار، ويحطم الصخر في زلزلة من ضربات المعاول ...
هناك الألم المدمر لا يكابده إلا إنسان، كأنما يراد خلقه مرة ثانية فيهدم ويبني، أو يزاد تنقيحه فيغير ويحول.
وأعظمه لأعاظم الحكام والشعراء، فهم وحدهم الخارجون دائما عن هندسة الحياة المنسجمة، وهم وحدهم الذين يتحول كل شيء في أنفسهم إلى حقيقة عاملة فلا يبرحون في تغيير، ومن ثم فلا بد فيهم من هدم ...!
ولا بد لهم من آلام على قياس العظمة، تكون لكل منهم كالبراهين عن نفسه أنه غير إله، وأنه حين يكون بين حكمتين إنما يكون بين ضربتين ...!
تجد الشاعر العظيم وإنه ليكاد يملأ الكون، فلا يضرب بالحب إلا الضربة الداوية تنطبق بها أقطار المشرق والمغرب!
وإنه لضغط بالوجود نفسه على بعض الناس، كضغط الأرض بآلاف الأجيال على بعض الفحم المطمور في أعراقها؛ ليتحول فيكون منه الماس الكريم المتلألئ! ... ألا ما أهولها قوة في تبييض الأسود بطبيعته، إلى جوهر النور بطبيعته، وفي خلق شمس ألماسية وهاجة، ولكن من ظلمة حالكة انعقدت في التراب!
وما أهول مثلها من الآلام في مضاعفة الحكيم أو الشاعر بقدر إنسانيتين؛ ليتسع لبؤس من الأشقياء وسرورها جميعا، وليكون على مدرجة بين الخليقة وخالقها، وليبقى دائما من ضغط الوجود عليه كأنه محصور في عمر ساعة ألم قد جمدت حوله! •••
أولئك يتأوهون لا بالأنين كغيرهم من الناس، ولكن برعد الأرواح يرجف؛ إذ تنفجر بكهربائها ، ويبكون لا بالدموع، ولكن بسحائب من معانيهم يؤلفها القدر ويراكمها ويضربها، فيسوقها لتمطر على ناحية الجدب الإنساني.
أولئك يتألمون لا بالألم، ولكن بتمزيق في أنفسهم كتمزيق الأرض حين تودع أسرار الزرع، ويتوجعون لا بمقدار عمل الواحد منهم بنفسه، ولكن بمقدار عمل الدنيا به، وليس منهم البائس الحزين الذي نزل به الألم رغما وذلا، ولكن البائس الجميل الذي اتخذته الحكمة؛ ليبدع الصورة الكلامية من جمال نفسه لجمال الكون شعرا وبيانا وفنا.
في موضع تقع الشرارة لتنطفئ، وقد تنطفئ قبل وقوعها، وفي موضع آخر تقع وكأنها ولدت ثمة لتحيا وتكبر، فإذا هي من بعد نار تعمل أعمالها، وكذلك الألم ومن يتألمون
وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة .
1 •••
ومن قسوة القدر على الشاعر العظيم أن لا يجعل حبه حبا خالق الوحي إلا في امرأة على قدر تألهه عظة وسخرية ...!
يقول هو عنها: ما أحوجني إلى معجزة نبي تحول الحجر الذي في ضلوعها إلى القلب ... وتقول هي عنه: ما أحوجني إلى بعض الملائكة أو الشياطين؛ ليكشف لي سر نفسه المخبوءة تحت مكان الصبر في قلبه!
ويعيشان في الحب كما يعيش اثنان في قصة ... وضعها مؤلف خيالي فأحكم عقدتها ... وتخاصم سعادة كل منهما سعادة الآخر، ويعملان كما يعمل الغني الشحيح. يفقد الحياة لينال الدنيا.
2
ثم إذا سألت ذلك المسكين الأعظم: ما لذة هذا الحب الأليم اللهفان؟ قال لك: لذته أنه حب!
هي حينئذ كل العذوبة السيالة في روحه، وهي بذاتها كل الأقذاء التي ألقيت في ينبوع نفسه؛ وآلامها ميلاد حقيقي لمعانيه، ولذاتها أكفان حقيقية لموتى هذه المعاني إذا أريد لها الموت، وكل ما يضع الآلام والأوجاع فيه يضع منها النور في كلماته!
من كونها هي في قلبه يشعر أن الكون فيه، حتى ليقول في وحيه للجبال الراسية على أعضاد الأرض: آلمتني يا أعضائي ...
وتلقي في حياته ألوان عينيها وخديها وثغرها ألوانا وألوانا، فإذا حياة فنية مزخرفة منقوشة بأبدع وأجمل مما في الطبيعة ورياضها وألوانها.
ولاتصالها بموضع السر من روحه، تشعر السر العجيب سر الحب الذي يحير العاشق حين تفتنه من يهواها فيحسب كأن الجنس كله مستحيل وأمكنت واحدة، أو كأن الجنس كله ممكن واستحالت واحدة تعلقها، فكأنه لا جنس بل واحدة فقط ...
وتتصرف به في دلالها وهواها تارة وضدها، فيراها حينا كما ينظر طفل إلى سكرة، وحينا كما ينظر المريض إلى مقبرة!
وإذا هي أنفقت أهلكت بلذة، وإذا هي امتنعت هلكت بألم ... داء لا يدري أنى يؤتى له.
3
يا رحمة للمحب الذي يتوجع بآلامه وحقائقها، ثم بمعانيها في روحه وأمانيه، ثم بالصبر عليها: ثلاثة آلام من ألم واحد!
ويا آلام الحب، أنت ثقيلة ثقيلة؛ لأنك نظام التراب في روحانيتي!
ويا آلام الحب، أنت جميلة جميلة؛ لأنك إشراق السر الأعلى في نفسي!
ويا آلام الحب، أنت حبيبة ولو أنك آلام، بل حبيبة لأنك آلام ...
مني السلام
مني السلام على من لو تصافحها
يد النسيم، أحست غمز آلامي
مرت على الورد في الأكمام فارتعشت
أسى، وقالت: أهذا قلبه الدامي؟
وأبصرت غصنا ظمآن منطرحا
فما رأت فيه إلا بعض أسقامي
وتسمع الطير صداحا بأيكته
يشكو، فتسمع في شكواه أنغامي! •••
حقيقة الحب فيها، ثم تظهر لي
كأنني عالق منها بأوهام
يا للعجيبة للمرآة! أنظرها
ولا أراني فيها وهي قدامي ... •••
يا أخت شمس كلون الخد مشرقة
وأخت بدر كنور الوجه بسام
ما كنت مثلهما إلا لتبتسمي
على ليالي في حبي وأيامي
الحبيبات والمصائب ...
«وكتبت هي إليه
1 »:
كنت أقرأ الساعة في كتاب ... لذلك النابغة الفرنسي الذي أخرجه الحب للشعر فأخرجه الشعر للإنسانية.
هو (فلان)، هذا الرجل الذي ولد مرارا في الحياة، فإن الشاعر العظيم لا تلد منه أمه إلا الجزء الأرضي الآتي من المادة؛ ليفنى في المادة، أما الأجزاء الروحية السماوية التي هي زيادة فيه على الناس؛ ليكون أكبر من الناس، فهذه - كما قلت لي أنت مرة - تلده الحبيبات و ... ومصائب الدنيا!
أترى يا عزيزي مصائب الدنيا نوعا من الحبيبات في بعض وجوه الشبه واتحاد الغاية ومطابقة الحكمة؟ ... لك فلسفتك، ولكني أرجو أن لا يكون أنا الموحية إليك بهذا المعنى ...
الألم في الحب والألم في المصائب: كلاهما أسلوب إلهي رحيم على قدر ما هو عنيف، يؤتي من القوة بمقدار ما يبتلي من الضعف، وينتهي إلى السعة في الروح كما يبتدئ بالضيق في الحاسة، وينشئ فينا مع النظرة المتألمة أو المتحزنة أو المتكسرة نظرات أخرى، منها النظرة المفكرة والشاعرة والمتحدثة في صمتها واسترسالها بأسرار عالية كانت معانيها من السمو الروحي؛ لأن لغتها من الأوجاع والأحزان!
ذلك الأسلوب القاهر لا يزال يتقصى بالوجيعة، ويتتبع بالشدة حتى يخرج من الإنسان الموهوب ما تخرج حبة الرمل من حيوان الصدف حين تندس بخشونتها في لينه، وتنغرز في لحمه إبرة حياة فإذا تاريخ ألم طويل حي لا يزال يستخرج ما يكونه حتى يلتف ويتغشى ويستكمل، ثم تكنز منه الطبيعة كنزها، فإذا أنت من حبة الرمل بحبة لؤلؤ ... •••
شاعرنا الفرنسي هذا يشبهك يا صديقي شبها تاما، حتى كأن التاريخ يعيده فيك، مملوء من كبرياء العقل وكبرياء الغضب على الحياة، فليس يراه أحد في وقت يكون فيه مع الأشياء ... إلا حسبه - لاهتياج نفسه وعنفوانه - كأنه خارج لتوه من عراك أو خصام ...!
لقد قلت لي يوما: إذا كلمتك عن خصومك والمفترين عليك من حاسديك، إن عداوة الأعداء مهما كثروا ينسيها حب حبيب واحد، ولكن عداوة حبيب واحد لا تنسيها صداقة الأصدقاء مهما كثروا.
فشاعرنا هذا ... دائما يرى كأنه به عداوة حبيب، ومذهبه هو مذهبك بعينه، هو أن الحب الذي هو في جملته أعلى الصداقة، هو في أشياء كثيرة إلف العداوة أيضا
2 ... •••
ولنرجع إلى الكتاب.
أتذكر إذ التقينا وليست بيننا شابكة، فجلسنا مع الجالسين لم نقل شيئا في أساليب الحديث، غير أننا قلنا ما شئنا بالأسلوب الخاص باثنين فيما بين قلبيهما؟
وشعرنا أول اللقاء بما لا يكون مثله إلا في التلاقي بعد فراق طويل، كأن في كلينا قلبا ينتظر قلبا من زمن بعيد؟
ولم تكد العين تكتحل بالعين
3
حتى أخذت كلتاهما أسلحتهما ... وأثبت اللقاء بشذوذه أنه لقاء الحب!
وقلت لي بعينيك: أنا ... وقلت لك بعيني: وأنا ... وتكاشفنا أن تكاتمنا!
وتعارفنا بأحزاننا كأن كلينا شكوى تهم أن تفيض ببثها؟
وجذبتني سحنتك الفكرية النبيلة التي تضع الحزن في نفس من يراها، فإذا هو إعجاب، فإذا هو إكبار، فإذا هو حب؟
وعودت عيني من تلك الساعة كيف تنظران إليك؟
وجعلت أراك تشعر بما حولك شعورا مضاعفا كأن فيه زيادة ولم يزد!
وكان الجو جو قلبينا.
وتكاشفنا مرة ثانية بأن تكاتمنا مرة ثانية ...! •••
آه! قلت: ولنرجع إلى الكتاب، ففي الكتاب قصة محب تبدأ هذه البدأة، وتجري في هذا المنزع، ثم تطرد وتنساق فلا يقرأها من عرف الحب إلا أحس كأن خيال ذلك المحب قد خرج من الكتاب ولزمه، لشدة ما تؤثر القصة في النفس، حتى لكأنها حادثة وقعت لمن يقرؤها، أو كأنه يرى القصة رأي عين.
رجل وقع من الحب بين لا، وليت، وهيهات ولات
4
بين التمني بأسلوبين، والبعد عما يتمنى بأسلوبين أيضا، فأحب ليتعذب، وتعذب ليتصل بمعنى نفسه، واتصل بنفسه؛ لينفذ منها إلى طرف من معنى الألوهية، وإن أردت الاختصار قلت لك: إنه أحب ليتأله!
هل تفعل بسمات الحبيبة كل هذا؟ ألا قل لي من أنت، فإن الكتاب لا يقول لي شيئا؛ وما كنت أقرؤه بل أقرؤك.
5
ماذا ترى في الابتسامات؟ أمر تسقط عليه بندى السماء في نشر الروض وعطره، أم تلذع قلبك بالخمر الضاحك الذي لا يقال فيه حين يشتعل إنه اشتعل، بل إنه، بل إنه تندى ... ذلك الجمر الذي يحرق من غير أن يتضرم، فلا يفني ما يحرقه ولا يأخذ منه، بل يصبح كلهيب الياقوت في الياقوت وديعة إلهية جميلة في شكل النار؟ •••
في كل صفحة من الكتاب كنت أراك فأرى المعاني شعاعا فكريا منبعثا من جبهتك السامية لا من الأسطر وأوراقها.
كأس الكتاب مملوءة بماء الشعر العذب؛ ولكن مؤلفه لم يناولني كأسا بل نقلني إلى الينبوع المتفجر؛ إذ نقلني إليك. أعطاني هو مادة القراءة، وهيأت لي أنت مادة الفكر فيما أقرأ فوضعني هو في الكتاب ووضعتني أنت في نفسي!
روحية الكلام المكتوب يا صديقي هي وحدها التي تجعل الكتاب عالما من العوالم يحمل دنيا مستقلة وإن كان هو يحمل في اليد، ولن يستطيع مؤلف أن يخلق في كتابه هذه الروحية، بل يبثها القارئ فيها يقرأ من ذات صدره أو ذات نفسه: فلا بد للمؤلف الناجح من ثلاث: نوع الكتابة، ونوع الأسلوب، ونوع القراءة؛ ومتى أصاب هذه الثلاث التأم قليله بالكثير، واجتمعت فصوله بالحوادث؛ وتلبست كلماته بالأعمال، ووجد من قرائه تفسيرا لكل ما يقول؛ فإذا هو قد ارتفعت به الحال فلم يعد كاتبا ينتظر قراءه بل نبيا ينتظر المؤمنين به؛ لأنه خارج من إحدى نواحي القلوب، وراجعا إلى القلوب من ناحية أخرى. •••
وقصص الحب متشابهة، ولكن لكل منها طعما ومذاقا وأثرا، كأن كل حب هو نفس جديدة، فهو بذلك قصة جديدة، وعلى هذا القياس يمكن أن نقول: إن الحب هو تجديد النفس.
هذه النفس تسأم الحياة فتريد أن تخرج منها وهي فيها، فلا يصنع لها هذه المعجزات إلا الحب.
والنفس قديمة، فتحاول أن تتوهم إنسانية جديدة خاصة بها فلا يأتيها بهذه المعجزة إلا الحب.
والنفس بين سماء وأرض لا بد لها منهما؛ فتنزع أحيانا إلى أن تكن بين سماوين رجاء أن يكمل إشراقها، فلا يخلق لها هذا الخلق المعجز غير الحب! •••
أنا الآن حزينة وقد حضرني بثي
6
فأطرقت إطراقة طويلة عند هذه الكلمة؛ إذ الجديد لا يبقى جديدا إلا مدة ما، فهل ترى يستمر الحب حبا؟
آه من سيل الزمن الطاغي العنيف المندفع دون رد على وجودنا بهذه القوة الماحقة المستأصلة، قوة ما لا ينتهي، تندفع لتكتسح في طريقها ما ينتهي!
أيها السيل الأزلي الذي لا يرحم ولا يبقي! من هذا الذي يستطيع أن يضع لك سواحل وشطآنا، ويقول لك: استقر هنا يا بحر الزمن؟
وأنت أيها الحب! من الذي يقيم عليك سواحلك وشطآنك، ويقول لك: استقر ولا تذهب في السيل ...؟
أيها الصديق! وأنت ...
رسالة الابتسامة
يدمدم الحب على قلبه
كأنه في نفسه ينهدم
1
برجفة حاملها لم يزل
ممزقا في القلب لا يلتئم •••
زلازل البركان لما دعت
أن سئمت بركانها المحتدم
أجابها الله الطفي وارجفي
من شفتي محبوبة تبتسم ...!
لا يمكن القلب أن يعانق القلب، ولكنهما يتوسلان إلى ذلك بنظرة تعانق نظرة، وابتسامة تضم ابتسامة.
تلك يا حبيبتي كلمة سماوية مخلوقة من الضوء في شفتيك الجميلتين تعبر عن كل شيء بحركة واحدة لا تتغير ولا تختلف، على حين أن معانيها في النفس دائبة في تغيرها واختلافها.
وفي عينيك الأحلام رهيبة غامضة، ولكن على شفتيك معاني الأحلام واضحة مفسرة: فابتسامك هو كلامك الذي لا تتكلمين به، وهو يختلج؛ لأنه حركة ظاهرة لفكرك في الحب، ولذلك هو دائم متنوع، دال على معنى ... وهو يضيء ليومئ بإشارة سماوية إلى سر المجهول الذي يتحجب في جمالك، ولكنه لا يكاد يومض حتى يطفئه هذا السر، فيعود فيستطير، ثم يعود فيختفي، ثم يعود ثم يعود.
أهناك نزاع على حقيقة خفية من الحقائق الجميلة لم تجد لها مخبأ إلا ثغرك الجميل؟
أم لك فكر شعوري موسيقي فهو يرقص دائما على وزن من ابتسامك؟
أم في قلبك مادة من النجوم فهي دائما تلمح لمحها في سماء وجهك النيرة فيسمون لمحها ابتساما؟
أم ثغرك يبتسم دائما؛ لأنه بطبيعة جمالك وظرفك يتهيأ دائما لقبلة؟ •••
يجد الطفل على كل حالة وفي كل مكان سرور نفسه، لسبب واحد وهو أن ابتسامه أبدا معه فهو لم يملك من الوجود شيئا بعد، ولكنه أغنى من عليها بهذا الكنز الذي خبأته السماء فيه فينفق منه فيما لا تباع كنوز الأرض ولا تشترى!
ولولا هذا الابتسام في هؤلاء الأطفال وأنه على أفواههم كالنبض في قلوبهم لما نفعتهم نافعة في تحصيل النمو للجسم، والصبر للطبيعة والاستقرار للعاطفة، والهدوء للنفس، والسعة للعقل، ولضغطت الحياة أجسامهم ونفوسهم اللينة في قوالب معانيها المحدودة الضيقة المصبوبة من الضجر والآلام والهموم، فما يكبر من بعدها على الأرض طفل أبدا، ولكن ابتسامهم من كل قيود المادة، هو أشعة إلهية تذيب ما حول القلب الصغير من المعاني الضاغطة عليه، ولو كان معنى روح جبل صخري من الهم!
ولا تزال الجنة مع الطفل، حتى إذا كبر قيل له كما قيل لآدم: اهبط منها ...!
أكل آدم من الشجرة، ولا شيء يضيع في الكون، فأين الحلاوة التي ذاقها في الجنة؟
هي في أفواه الأطفال ... •••
ويتبسم الطفل ويضحك، ونحسب ذلك على مقداره. كلا، إنه وإن يكن طفلا صغيرا في ملء جلده، وعلى وزن جملته، ولكن مادة ابتسامه على مقدار الطبيعة كلها؛ لأن عظمة الكون هي التي ترعاه بهذا الأسلوب الصغير.
هو لا يحيا في العالم، بل في معاني نفسه، وبذلك هو دائما فوق الدنيا.
ومن حياة الأطفال المنحصرة في معاني أنفسهم، ندرك، سر الحب وسر السعادة، فإن كل لذة الحب، وإن أروع ما في سحره، أنه لا يدعنا نحيا فيما حولنا من العالم، بل في شخص جميل ليس فيه إلا معاني أنفسنا الجميلة وحدها، ومن ثم يصلنا العشق من جمال الحبيب بجمال الكون، وينشئ لنا في هذا العمر الإنساني المحدود ساعات إلهية خالدة، تشعر المحب أن في نفسه القوة المالئة هذا الكون على سعته، فتمر النفس حينئذ في سبحات اللذة الروحية، من الجميل، إلى الجمال، إلى الطبيعة، إلى الله جل جلاله.
2 •••
إما ابتسامتك أنت ...
أنك حين تمنحين نظرتك وتتبعينها الابتسامة التي تفسرها أقول عندئذ في نفسي: لقد علم الله علمه في حكمته ورحمته، فلما خلق الحقيقة من قوته عابسة جافية، قابلها من رحمته بالحبيبة متبسمة رقيقة ... فلعل المرأة الجميلة أسلوب في الفرع الإنساني كأسلوب إنشاء الزهرة في ذات القوة الخشنة التي تنبت الشوك.
ولك ابتسامة يزيد سكون الطرف من غموضها، والأخرى يزيد استطلاق وجهك من صراحتها، والثالثة على استحياء كأن وعدا معلقا فيها.
ولك ابتسامة ملحنة كأنها نشيد وجد، يترقرق فيها صوتك الرخيم الذي هو أيضا تصوير الابتسامة بحروف ورنين. •••
المعنى الذي يتحول بغيره، يقابله المعنى الذي لا بد أن يحول غيره. إنها مشكلة عجيبة كأن حلها أعجب منها.
فما توجد امرأة هي جميلة فاتنة في وهم رجل، إلا انبعث من شخصها معنى ليس في أحد غيرها، كأن فيها وحدها ما لا يوجد في آدمي، وفي هذا السيال المعنوي يذوب كل شيء، وترى هذا الرجل يصغر للحب - ولا أقول يصغر به - فيرجع كالطفل تتولاه الطبيعة متمثلة في امرأة ... امرأة تعمل وحدها فيما يسوء، ويسر عمل الدنيا، وأكبر من عمل الدنيا!
لكل محب مع المخلوقات التي يعيش بينها مخلوقات من خواطره وآماله، وهذا برهان آخر على أن الشخص المحبوب أحد قوتين متقابلتين في الخلق.
3
وقد تهتم الحبيبة أن تكاشف محبها، ولكنها بابتسامة ظريفة ترد أفكارها الخطرة إلى أماكنها، وبهذه الابتسامة عينها تزعج في نفس محبها تلك الأفكار من أماكنها.
آه من تلك الابتسامة المرحلة الذاهلة! عليها لعيني المشتاق سمة من فتح ذراعيه، وضم وقبل! •••
في ابتسامة الحبيب يتنقل العاشق بروحه بين المعاني والخيالات الشعرية السماوية، وفي تلك النظرات منه يسافر بقلبه إلى أحلامه البعيدة كما يسافر الفلكي بعينه إلى النجوم في (التلسكوب).
يسمونه ابتساما، ولكن حين يظمأ النبات لا يقول للناس: أريد الماء، بل يقول للشمس وحدها. أريد من شعاعك البارد العذب يا حبيبتي!
الماء حين يبصر تحرق الإسفنج وقد جف وانكمش يقول: إن كل ثقب من هذه الثقوب نفس ظمأى.
كذلك أوحي إلي أن محبا قبل حبيبته في روضة عند شجرات من الورد، فأشارت إحداهن إلى شفتي الجميلة المضمومتين، وقالت لصواحبها أسمعتن قط أجمل همسا من هذه الورود الصغيرة وهي تتفتح ... •••
الزمن كله موسيقى عند المحب، ولماذا؟
لصوت حبيبته.
والزمن كله ربيع في رأي عينيه، والدليل؟
ورد خديها وشفتيها.
والزمن كله جمال في نفسه، والبرهان؟
كلها كلها ... •••
وهل أبدع الله الفهم الجميل المبتسم بهندسته وتقسيمه إلا ليبدع هو في ابتساماته فن الروح حين لا تستطيع أو لا تريد أن تتكلم فترتعش ...؟
كلام الفكر من اللسان، وكلام القلب من العينين، أما كلام الروح فهو هذه الحركة البليغة وحدها! وحدها!
أليس تألق الماسة هو وحده لغة معدنها النفيس؟
والألفاظ تجيء وفي نطقها معانيها، ولكن ابتسام الحبيبة هو يستخرج معناه من محبها!
واللغة رابطة بين النفس والمادة، وأما الابتسامة فرابطة بين الحس والقلب.
إنها الروح تأخذ عن روح أخرى في حالة من الحالات النفسية الخالقة، تحول كل شيء إلى لغة حتى اللحم والدم.
ورب ابتسامة على شفتي حبيبة هي خطاب لكل حواس محبها. •••
عندما تبتسمين أشعر بحرارة أفكارك في دمي ...
وفي تضرج وجنتيك لا أرى احمرارا، ولا خجلا ولا حياء، بل أرى قلبك يتكلم بلون خديك!
إن للقلب أربع لغات يتكلم بها: واحدة منهن بالألوان في الوجه والثانية بالدلال في الجسم، والثالثة في النظر بالمعاني، والأخيرة وهي أسهلهن وأبلغهن. يتكلم بكل ذلك في ابتسامة. •••
ومع ابتسامة الحب يأبى فم الحبيب أن يلفظ كلمة لا يقبلها فم حبيبه، يا لها فكرة ملائكية معلقة على فم ...!
جواب الزهرة الذابلة
«وتلقى منها ذات يوم كتابا، فلما فض غلافه لم يجد فيه إلا زهرة ذابلة، فكتب إليها»:
قرأت يا حبيبتي هذا الكتاب الذي لم تكتبيه ... ونسمت شفتاي ذلك السر الذي فيه، وكدت أقول إنها هي نسمات عطرها سحرتها في هذه الأوراق بسحرها، ولكني تأملت الأوراق الذابلة فخيل إلي من ذواها وطيبها، أنها أجسام قبلات حارة احترقت على شفتي حبيبها ...!
وفهمت من العطر أن الرسالة مكاشفة بالحب أو مناسمة: ولكني فهمت من الذبول أنها معاتبة في الحب أو مخاصمة! •••
وقالت لي الزهرة يا حبيبي: «بلى أنا كوكب عطر من يدها الجميلة في فلك زهري غض، ثم انتثرت من فلكي وذبلت؛ لأني انتثرت من فلكي ...!
وقد نشأت في روضتي على أملود ناعم ريان، فلما صرت في أناملها على أغصان اللحم والدم في روضة الجمال، أحسست أني بت قلبا يحب ويعشق، ومرضت لأني بت قلبا يحب ويعشق ...! «وكنت أنفح بالعطر والشذى الفياح، فلما لمستني شفتاها لمسة عدت أفوح بالحب، وهجرتني لأني عدت أفوح بالحب ... «وكنت تمثال النشوة والفرح: فلما رفت بي على خدها رفتين، صرت تمثال السكر والعربدة، واطرحتني لأني تمثال السكر والعربدة. «وكنت بملء النضرة أفيض منها على الكون، فلما وضعتني ساعة على صدرها التهبت كشعلة هوى، ونبذتني لما أحست بي على صدرها كشعلة هوى ...». •••
وقلت للزهرة يا حبيبتي:
إنما أنت كلمة أيتها الزهرة الذابلة، وما ذبولك إلا سحابة على نور معنى من المعاني.
أفمن لغة القبلة أنت، وقد جئت رسالة من شفتيها إلي فانكمشت من حياء وخفر؟
أم من لغة الابتسام، وقد جئت تحية من وجهها وفيك ذلك المعنى من غموض الدلال، فأنت موجهة إلي ولست موجهة إلي؟
أم أنت من لغة اللمس، وقد جئت سلاما من يدها، وهذا التجعيد فيك شدة حب وضغطة شوق؟
أم أنت من لغة النظر، وقد جئت ذابلة متناعسة؛ لأن فيك نظرة من غرامها تنظر ولا تنظر؟
أم أنت من مادة العناق، وقد جئت هالكة ضما من انطباق صدرين تحتها زلزلتا قلبين ترجفان؟
أم أنت ...! آه! أم أنت من لغة النسيان، وجئت رسالة هجر منها، وهذا الذبول الذي فيك هو مرض الجفاء ترسله إلى قلبي؟ •••
ولكن ماذا قلت أنت للزهرة يا حبيبتي؟
أما إنك قلت لها: إن كتابة العطر لا تقرأ ...؟
إن كلام النية لا يتكلم ...!
إني أضن عليه بكلمة ...!
يا للجلال
رسالة الجاذبية
آه لو أسطيع أن أخرجها
من زماني، إنني لا أستطيع
آه لو أسطيع أن أدخلها
في حياتي، إنني لا أستطيع
قدرت قدرتها في ... فلا
أستطيع قدرة لا أستطيع ... •••
كل من يكذب في الحب قدر
1
إن أطاق الحب - والله - غدر
وصحيح الحب حبه هدر
كل ما يسطيع أن لا يستطيع •••
في عينيك يا حبيبتي سحر ظاهر بمعانيه يلقي الحب على من ينظر إليه.
أهو سر الضرورة الذي يشعرنا من معانيك الرحيمة بمعانيك القاسية؟
أم هو روح اضطراب مجهول أودعتك القدرة إياه؛ ليخلق حولك العواطف القلبية؟
أم هو استبداد الجمال الذي خصصت به؛ ليكون قلبك وحده في قوة القلوب كلها؟
أم هو ذلك المعنى الخالق الذي يفيض على جمالك تمييز جملتك البديعة في شيء شيء وفي حسن حسن؟
أم أنت أنت، وذلك السر في عينيك معنى «أنت»؟ •••
دائما يضيف وجهك إلى كلامك بلاغة إلهية:
ولو نطقت بألفاظ القوة التي تشبه أجراسها صلصلة السلاح
2
لخرجت من شفتيك متنهدة.
ولو تكلمت بأشد ألفاظ القسوة؛ لذابت في حلاوة شفتيك، ومتى نطقت باسمي خرج من فمك سكران ...
أي سر هذا الذي يجعلك على كل أحوالك تفيضين بالقوة كأنما بنيت على شكل لا يزال يجمعها في نفسه ويبثها من نفسه؟
إنه ولا ريب طابع الجاذبية على القوة.
وأي إبداع هذا الذي يظهرك في محاسنك مظهر كون خلق كله من الزهر، وهو جميل في مجموعه بأجزائه وفي أجزائه بمجموعه!
إنه ولا ريب طابع الألوهية على المعجزة. •••
حولك ما نحسه ولا نعرف منه إلا أنه حولك وحسب، والجو الذي أنت فيه ينعكس عن جمالك في صورة سحرية، فلو أنني طفت العالم كله لرأيته من حولي أينما كنت، وأبصرت وجهك دائما أمام عيني كأني محدود بك في حدود مسحورة تدعك حيث أنت، وتمضي معي حيث أكون!
وما الوجود إلا انسياب قوى المادة بعضها في بعض، وفي هواك تنساب القوى من روحك إلى روحي، فالأصل الذي بني عليه الكون في منافعه بنيت أنت عليه في محاسنك، كأنما هو يعرض قوانينه التي تحس ولا ترى في صورة منك تحس وترى، وتزيد على الرؤية أنها آخر حدود العشق، وعلى العشق أنها أول حدود العبادة.
أما والله لو ناديتك بغير اسمك يا حبيبتي لما وضعت لك إلا اسما من معانيك، ولو سميتك بهذه المعاني لما ناديتك إلا بهذا الاسم العظيم: يا نسوية العالم ...! •••
نارية في غير نار! آه من يفهم هذا؟ ولكني أحسه منك حتى لا أرى جسمك إلا مضيئا مشتعلا بالشباب والجمال، وتالله إني لأحسبك في بعض سبحاتي نارا مدمرة كأنك تقذفين على قلبي منفجرة فيه: ويشتد بي الوجد وأضيق، فما أظن الحب إلا عداوة ساخرة تهزأ بالناس فتجيئهم متلطفة في غير أسلوبها، وعلى غير طريقتها ومن غير أهلها، من الحبيب ... من الحبيب على أنها عداوة ...!
أتلك تلك يا قلبي نار وتدمير وعداوة؟ أم أنها ترتجف من جاذبيتها على زلزلة لا تهدأ ولا تقر، ولا بد لها أن تتم عملها بطريقتها العنيفة؟ إن فيها حركة الجذب، وإن في حركة المقاومة، فأنا المتألم بطبيعتي؛ لأن انجذابي إليها إن هو إلا اصطدام معاني بمعانيها، واندفاع ما يتحطم إلى ما يحطمه، ولكن يا لها من عجيبة، إن هذه هي بعنيها لذة الحب؛ إذ كان تحطيمه فينا هو تغييره فينا، وبذلك يجدد الحياة، أيامها وأشياءها ومعانيها، ويضع في كل أمر غراما، ويجعل لكل شيء عينا كحيلة ...
وراءك يا حبيبتي فكرة مختفية كأنك أنت عملها على حين كأنما هي من عملك. أيكما يا ترى الخطر المستور بجماله؟
مع جاذبية الألوان والعطور في ثيابك وحلاك جاذبية أعطرك وأزهى في ملبس معانيك من العواطف، وفي ملبس روحك من الدلال، ولا يعدلك في هذه الفتنة الكاسية إلا السماء في فتنتها للرجال الإلهيين، حين تلبس حرائقها من شفق الصبح.
يا للجلال! إذ تفسر الطبيعة نفسها الغامضة بامرأة جميلة؛ لتحقق بها في النفس العاشقة وهم الكمال الإنساني المستحيل الذي يخيل لها اندماج الكون بجلاله العظيم في ذاتية إنسانية، ذاتية المحبوب المخلوقة على مساواة وتقدير من محبها لتجذبه وتفتنه، فتخرج به من حكم عقله فتنفذ أقدارها في أقداره، فتعقد على أطراف حياته بعقدة عاطفية واحدة تستطيع بها تلك المرأة أن تهزه من كل نواحيه بأيسر لمسة! ... •••
إنما الكون كهربائية، ولا بد في الكهربائية من سلب وإيجاب؛ فمن يدري لعل كل متحابين هما مظهر كهربائي لا يحوطهما إلا جو النفس المحترقة تشعل بالضحكات كما تلتهب بالدموع! لأن هذه وهذه مادة حب ساطعة في مظهرين! كاللهب؛ تكون فيه مرة شدة الانبعاث فكأنما يضحك، ومرة فترة الانطفاء فكأنما يبكي، ويقع الإيجاب في السلب فيحدث الحب، ويحدث فتكون الجاذبية، وتكون فإذا إنسان يعانيه قد احتل إنسانا في مادته فتفاعل أجزاؤهما، فلن يكون الحب والبغض منهما إلا فوق الاعتدال؛ إذ في واحد تتهارب أجزاء من أجزاء، وفي الآخر يفنى بعضها في بعضها.
إنما هي قوة تلبست الصورة؛ لتعمل بها عملا في نفسها، وتدل بها دلالة في غيرها، فحبي المخلص الشديد معناه فيك أنت الحسن الخالص الفاتن، وتفكيري في محاسنك معناه في أنا: خلق لغة الأشياء الجميلة ليتصل عقلي بحقيقتها.
وإحساسي بك وحدك معناه في الوجود إحساسي بجماله كله.
والآن وأنا أكتب إليك ... تتمثلين لي فأرى تقاسيم الحسن فيك فأقول: وما هذه التقاسيم البديعة؟
ألا رفقا بالقلب الذي أجابني إنها تركيب المغناطيس الغرامي، وتوزيعه في أماكنه على هندسة الجاذبية: رفقا بالقلب الذي تلمسينه من جاذبيتك بالنظرة والكلمة والفكرة كأنه حولك لأنك حوله ...! بالوحي، والخيال، والحسن ...
من أجل الإبداع، والسمو، والحب.
أنت في نفسك، وأنت في معانيك، وأنت في!
الأشواق
هأناذا يا حبيبتي أجلس لكتاب الشوق، وفي يدي القلم، ومعانيك مني قريبة تكاد تحس وتلمس على تباعد ما بيننا؛ لأن كل ما فيك هو في قلبي.
وهذه عينك الظاهرة دائما بمظهر استفهام عن شيء؛ لأن وراءها نفسا متعنتة تأبى أن ترضى. أو حائرة لا تكفيها معرفة، أو غامضة تريد أن لا تفسر، أو على الحقيقة؛ لأن وراءها نفسها فيها التعنت والحيرة والغموض، إذ عرفت أنها معشوقة.
هذه عينك من وراء البعد تلقي علي نظرات استفهامها فتدع كل ما حولي من الأشياء مسائل تطلب جوابها من حضورك ومرآك لا غير، وبذلك يهفو إليك القلب بأشواق لا تزال تتوافى، فلا تبرح تتجدد، فهي لا تهدأ ولا تسكن، وكأن غيابك سلب الأشياء في نفسي حالة عقلية كانت لها، كما سلبني أنا حالة قلبية.
وآه من تباريح الحب! إنها لوحوش من الأحزان ثائرة، فكل راجفة من رواجف الصدر
1
كأنها من حر الشوق ضربة مخلب على القلب.
الشوق؟ ما الشوق إلا صاعقة تنشئها كهرباء الحب في سحاب الدم يمور ويضطرب ويصدم بعضه بعضا من الغليان، فيرجف فيه حين الرعد القلبي يتردد صوته آه آه آه ...! •••
والآن يا حبيبتي ألقت عينك الساحرة علي نظرة استفهام أخرى بالصبابة ورقة الشوق، فأحسست بروحي كالغصن المخضر أثقله الزهر وقد طفقت أزهاره تتفتح وتسلم النسيم ودائع الجنة من نفحاتها وتسليماتها عليك.
وأشعر بالقلم في يدي، وكأن له شأنا مع الكلمات التي أكتبها إليك، فهو يخطها حرفا حرفا، ويقبلها كذلك حرفا حرفا! ... وكأنه الساعة ذو هيئة إنسانية (الريشة) التي فيه تمتد إلى الكلام امتداد الشفة الظمأى بالقبلات الكثيرة المخبوءة فيها!
وأشعر بالقرطاس وكأنه قد علم أن سيحمل أشواقي وأسرار قلبي، فلا يعد صحيفة ورق تموج بالألفاظ، بل صحيفة صدر ملأها جو من التنهد آه آه آه. •••
وبنظرة استفهام أخرى من عينك أشعر بحقيقتك النسوية من حولي حافة بي، فمرتجة في صدري، فملقية على قلبي المسكين من كل خطرة شوق لسعة ألم ...
نعم إنك يا حبيبتي ترسلين الأنوار في هذا القلب، غير أنها لم تكن أنوارا إلا من أنها شعل مضطرمة، والمحب الذي يضيئه عشقه ويظهر للجمال، وجوده الغرامي، إنما ينيره احتراقه وفناء وجوده الذاتي، كل قدر من النور بقدر مضاعف من الاحتراق.
وكذلك البطل العظيم في الحرب: تنهش من لحمه السيوف، ويثقب في عظامه الرصاص، وما مرقه الموت بهذه لا بتلك، ولكن مزقه مجده!
أما إنك يا حبيبتي لو ضربتني بسيف لقتلتني قتلة معطرة!
أما إنك يا حبيبتي لو ضربتني بسيف لما كنت قد زدت بسيفك وضربتك على أن تكوني خلقت الحسن في نظرة قاسية من نظرات عينيك.
وهكذا علمتني حقيقتك أن الحب إن هو إلا تفسير كل شيء في العالم تفسيرا من القلب! •••
أنت ممزوجة بالآمي، وآلامي منك هي أشواقي، وأشواقي إليك هي أفكاري، وأفكاري فيك هي معانيك في نفسي، ومعانيك هي الحب، ولكن ما هو الحب إلا أن يكون آلامي وأشواقي وأفكاري ومعانيك في نفسي؟
ولروحك أنفاس تناسمني
2
فأستنشقها مهما انصدعت المسافات بيننا، كأن ما ملأ النفس يملأ الكون، فمن شعوري الدائم بانسكاب روحك في روحي ينبعث غرامي، ويرصد بهواك لي في منفذ كل معنى إلى نفسي، ومن هذا تنبعث أشواقي الحزينة ما دمت لا أراك، وإذا كان الغرام هو سكر الروح بالروح، فما الشوق إلا التمرد العنيف من حواس الجسم المحب إذا حرم أن يسكر بالجسم الذي يحبه. •••
في بعدك لا أشعر بالزمن يفنى من الساعات والأيام، بل مني ومن حياتي، فأنا في بعدك أذوب، أذوب فناء، أي أذوب شوقا، وأفنى صبرا وعمرا بين كل ساعة وساعة!
وفي الحياة يفنى الوقت ذاهبا فيما نحن بسبيله من واجباتها وممكناتها، وتعبنا بها وقتا وراحتنا فيها وقتا آخر، فكأنه لا يمسنا نحن بل يمس أعمالنا، فنحمله بذلك ونطيقه على ذلك، ولا نحس أننا نموت فيه يوما بعد يوم، بل نشعر بالحياة تبدأ فينا ولا تزال تبدأ، أما في الحب على امتناع الحبيب أو هجره أو فراقه، فحاضرنا هو الماضي ويومنا هو أمس؛ إذ لا تزيد فيما يكون إلا مراجعة ما كان فيقع الزمن على قلوبنا، ويعتمل فيها، ويأخذ منها ولا نشعر به إلا موتا في صورة حياة ممتعة علينا، ومن ثم فلا يكون الشوق إلى الحبيب الممتنع أو الهاجر أو المفارق إلا لهفة ثائرة كلهفة الشوق إلى الحياة من مريض وقذه المرض ورس على جسده السقم
3
فمات أكثره، وبقيت منه البقية الذاهبة نفسا في نفس، ويشعر بالموت يبدأ فيه ولا يزال يبدأ!
يا رحمة للمشتاق حين يكون فيما حوله وهو بعيد عنه، وقد يتكلم بالكلمة وهو مسيرة شهر من معناها ...
4
ويعيش في سكوت ملأته أرواح ألفاظ محبوبة تريد بما وسعه أن تتكلم، ولا يمكن أن تتكلم؛ إذ الفم الجميل الذي ينطقها بعيد في وديعة النوى، ويروي أنه هو وحبيبه ناحية فكرية من نواحي الدنيا بعيدة عن الناس والأشياء، كأنهما معتكفان في عزلة، ومع ذلك فالحبيب عنه بعيد، فكأنما المسكين غريب في دنياه، وفكره معا، ويحس الآلام لا تنتهي؛ إذ كانت هي أشواقه الدائمة الحنين إلى من يهواه، فالألم دائما فيه يبدأ ولا يزال يبدأ!
ومن كل ذلك فأشواقي لك يا حبيبتي دائما تبدأ ولا تزال تبدأ، وأنا دائما في أولها! •••
آه ما هذه الأفكار الحزينة التي جاءت تبحث عن دموعي.
وما هذا المعنى الناري الذي يطير في دمي.
وما هذا الرعد القلبي الراجف يتردد صوته: آه آه آه ...؟
كتاب رضا
كتابها قد جاءني حاملا
لقلبي الخفاق قلبا خفق
والتمعت فيه نجوم المنى
في أسطر مثل سواد الغسق
وأعرف القبلة في موضع
يلوح لي كالزهر لا كالورق
وكم به سطر إلى آخر
كالصدر للصدر دنا فاعتنق!
وكم به معنى أنام الجوى
وكم به معنى أتى بالأرق! •••
سألته كيف رأى وجهها؟
فقال: جل الله فيما خلق
قلت: وذاك الخد لما استحى؟
فقال مثل الفجر فيه الشفق
قلت: وذاك الثغر ما أمره؟
فقال: لما ذكرتك «انطبق»
1 •••
يا ثغرها، فيك نسيم الندى
فكيف قلبي في نداك احترق؟
رواية القلم
أشعر أحيانا أيتها الحبيبة أن لقلمي علي خلافا، وكأن فيه عاطفة ترميه بنوازعها، فهو يجاذبني نفسه، لا يريد أن يكون في بناني ولا أن يقر معي، وهو الساعة مرتبك متبلد تمشي به يدي وكأنها الشيخ المتهدم الفاني يدعم على عصا
1
يراه الناظر إليه متزحزحا مترجرجا فيحسبه يرتعش ولا يمشي.
وإن يكن بهذا القلم شيء مني فما به إلا الضجر مما يمليه قلبي الذي يهابك في رسائله كما يهابك في حبه، فيقذف لقلمي بالكلمة من الكلام يكتبها عنه وإن القلب في ذات نفسه ليزمزم
2
بمعنى ليس في هذه الكلمة، بل في كلمة غيرها قد أخفاها وضمر عليها.
أحسب قلمي يا حبيبتي لا يتمنى إلا أن يكتب بغير يدي على أن لا تكون الرسالة يا ذات قلبي إلا من قلبي أنا، وهذا معنى لو كشفته لكان هكذا. يود قلمي أن يكون في يدك أنت ليكتب بيدك إلي ... كأنه يعقل ويتلو معي رسائلك، ويعرف أنك دائما هاربة فيها ... ويتلهف مثلي على كلمة مقبلة.
3 •••
وهبيه الآن في يدك الرخصة الناعمة التي أودع الله فيها سر ثمرة من أحلى وأنضر ثمار الجنة فتذاق منها حلاوة الجنة بالتقبيل، إنه يلمسك ... إنه تحت أنفاسك يرتقب كلام شفتيك ... وربما فكرت قليلا فأطرقت إطراقة فلمست به خديك، وربما أغمضت عينيك ليسعدك فكرك العميق بأسلوب مقلوب ... فإذا أنت في ذلك قد ألصقت القلم بشفتيك، ولبثت ساكنة ولبثت ساكنا ...!
ويك يا قلمي الخبيث! أتريد أن تدعني ... لكأنك والله نفس معلقة في أصابعي تحب وتشتاق! •••
وماذا عسى أن يكتب إلي قلمي وهو ذاهل في راحتك سكران من أنفاسك، مضعضع من لمسة خديك، مترفع على الوجود كله بموضعه من شفتيك، وهو كالميت من إفراط هذه الحياة كلها عليه؟
أحسبه يكتب إلي من يدك هذه الرسالة:
سيدي الأستاذ الفيلسوف ...
لم يخالجني الريب قط في أنك من نزعاتك الروحانية ومن ذهولك الرباني كأنك في جو كوكب ... لا في جسم إنسان، وكأن عناصرك المطهرة قد أنضجها اللهب القلبي الذي يحرق الإنسان ورغائبه وأهواءه في شعلة متقدة تفني منه شكله الأدنى؛ لتوجد منه شكله الأسمى، وتدعه ذؤابة نور ترتعش.
وإن الساعة التي قرأت كتابك فيها لتكاد تشعرني بأنها من غير هذا الزمن، فكأنها خلقت لي تأتيني مع بريد من الملائكة حين يوافي البريد بكتابك.
وتالله إن كتابك يا سيدي لزهرة من روحك تحيتها عندي في تأملها والإعجاب بها، أما بلاغته فبالله أحلف صادقة ما رأيت أكمل منك لسان قلم ... ولا أذكى مع هذا القلم ... قوة طبع، ولا أبلغ طبيعة نفس، ولكأن قلمك ... مهبط إشعاع تلتقي إليه سبحات روح الجمال المنبثة المالئة هذا الوجود مما بين أزهار الأرض، إلى كواكب الفلك إلى حدود الحور في مقاصير الخلد.
وسألتني اللقاء، ولكن قلمك ... ساحر قدير فهو يستطيع أن يحملك إلي دائما في رسائلك البليغة، ولو شاء هذا القلم الساحر ... لجعل من الصحيفة روضا يفرشه تحت أقدامنا نثار الورد
4
وقد جلسنا فيه تحت خيمة من الندى مطرزة بشقق عريضة من حرير الشمس، ونلتقي وإن كنا لم نلتق!
واها لقلمك ... يا سيدي واها ... وسلمت للمعجبة بآيات هذا القلم المعجز ... •••
على أن هذا القلم الخبيث لو استملى من نشوته وسكره هذا الكلام المعربد في قلبي، وركب ذلك الفن من الغيرة، وأخذته هذه الرجفة، وكتب إلي بيدك تلك الرسالة لقرأتها أنا هكذا:
يا من أنا سيدته!
لم يخالجني الريب قط في أنك - من حبك - نفس تحترق بذاتها كالكواكب، فعناصرك الملتهبة تلفنا معا في شعلة غرام تفني منا شكلين؛ لتوجدهما في الحب شكلا واحدا، وتدعه كذؤابتي نور معتنقتين.
وإن الساعة التي قرأت كتابك فيها لتكاد تشعرني أنها منك أنت لا من الزمن؛ لأحيا فيك وأنا أقرؤك .
وإن كتابك لمن روح أيها الحبيب لا من كلام؛ فإني لما نشرته في يدي أحسست كأنه غمز يدي.
أما بلاغته فبالله أحلف صادقة لقد نقل إلي الكلمة التي لم تكتبها، وسألتني اللقاء ...
آه ما بالك جمدت الآن أيها القلم الخبيث وقطع بك؟ فكأنك تغار حتى من موعد مزور ...! •••
هذه يا حبيبتي رواية قلمي فما رواية قلمك؟
إنك لتنظرين إلي نظرات ناعمة من ذلك النظر الرطب فأجد لها مسا كمس يد الحبيبة الفاتنة؛ فلماذا لا تكتبينها؟
وتبسمين أحيانا ابتسامات معنوية تهرب إلي فيها بعض قبلاتك، فلماذا لا تكتبينها؟
وأرى على نور قلبي أحرفا مختبئة في قلبك هي: ألف، حاء، باء، كاف فهل تكتبينها ...؟
نار الكلمة
تقولين في كتابك أيتها الحبيبة: ولعمري إني لأستحس وهجا من حرارة الجذوة التي في قلبك، أشعر به ومن بيني وبينك عرض المشرق
1
ولقد عرفت هذه النار، وآمنت بما قلته لي مرة من أنها اتصال الشعاع الأزلي بالقلب الإنساني ملطفا في وسيلة إنسانية، مخففا بجمال، مزخرفا بلذة، معابا برغبات كثيرة كيلا يمحق محقه الذي كان أخفه وأيسره أن تجلى للجبل فجعله دكاء،
2
ولكن أيها الصديق ...
ولكن بأية نار تشعل ألفاظ رسائلك؟ وكيف ينبض القلم في يدك هذه النبضات الحية المتمثلة حتى ما يخالجني شك في أنه لو وضع على كتابك ميزان الحرارة؛ لجاءت درجته في حرارة قلب. •••
أتجهلين ...؟ يا بعد ذلك!
أتعرفين ...؟ يا حب ذلك!
إنما تأتي رسائلي أيتها العزيزة من تحول الكهربائية التي في قلبي إلى ألفاظ؛ إذ يدفعها الشوق أن تكون عملا مني بعد أن كانت عملا منك وهي كالنور، لا يرى حتى يلبس ما يرى فيه، فتلبس الكهربائية ألفاظي وتتراءى.
وإنما تأتي المعاني التي أبدعها فيك من تلك العواطف التي تخلقينها أنت في، وكما لا ينطق فم الإنسان من شفة واحدة: فكذلك لا بد للحب من اثنين؛ ليتكلم فم الحقيقة بكلام الحب!
وما أكتب لك حرفا حتى أراك قبل في مرآة نفسي، وأتمثلني في مرآة نفسك، ثم أضع بيننا مرآة اللغة فتعكس مني ومنك أجزاء وصورا تكون هي كلماتي.
ولو رأيتني وأنا أتلو رسائلك؛ لرأيت أنك لا تكتبين لي كلاما، بل تزرعين في الورق زهر أنفاسك فيأتيني فأقرؤه. أي أقطفه ... وبهذه الطريقة أكتب كلماتي، أي أزرع تنهداتي يا حبيبتي.
والخائف من شيء يرى لاسمه بعض عمله من تأثير الخوف على أعصابه، فاسم الثعبان عند من لدغ مرة هو لفظ كالإبرة يمس مكان اللدغة؛ كلمة الذئب تعض ... وكلمات الحب يا حبيبتي تتألم. •••
لست أشعل ألفاظي ولا ينبض القلم في يدي نبضات حية، ولكن هذا وذلك غليان دمي على أربع نيران، هي خيالي، وغرامي، والفكر الناري الذي هو أنت والجمال الذي أحمي على شبابك حتى بلغ درجة الاحمرار في خديك وشفتيك!
هو الوجد، ذلك الوجد الذي يوحي لكل عاشق بأنه إن امتنع على الفم أن يلقي في القبلة أنفاسه الحرى على وجه الحبيب، فليقابل وجهه بألفاظه الحارة في رسالة ...
هو الجمال، ذلك الجمال الذي يريد التعبير عن نفسه تعبيرا صادقا حيا، فيتخذ العاشق هيأة فكر مثقلة بالآلام وتباريح الصبابة والشعر والخيال عاليا عاليا إلى الحكمة، أو نازلا نازلا إلى الرذيلة، أو هالكا هالكا إلى الجنون. •••
إنما أضرب على أوتار نفسك ألمسها بأفكاري ونظراتي وأشواقي، وبأفراح المعرفة الغرامية وآلامها، وأخرج من ذلك أنغام حبي التي هي رسائلي!
وإذا كنت أنا المتكلم فمعنى ذلك أنك أنت المتكلمة بي، وفنك يا موسيقى الجمال هو في تركيبك الجميل، وانطوائك به على أسرارك، ولكني فني إنما هو في لمساتي عنفا ورقة،
3
وكلماتي كالأزهار تخلق فيها مادة ألوانها وأعطارها وديباجها؛ لأن أرواح أغراسها تنسكب فيها، وحين يلقي الشعاع كلمته الغرامية في قلب كل شجرة من ذوات الزهر، تفكر الشجرة مدة ثم تزهر وتتفتح، أي تجيب بأسلوب نسائي في ظرف ورقة ولون وعطر وحرير وتبرج.
ولست أشك أن الجمال في هذا الوجود مظهر مؤنث، حتى إن معرفة الأسد
4
لتظهر كشعر امرأة ... ومن ذلك ما تبدو الأشياء الجميلة في خيال العاشق المتدله كأنما في كل نظرة أنثى ... أنثى جعلت قلبها نحوه.
5
إن لم تغلبني على الكون يا حبيبتي فقد غلبت على نظرتي إليه! فكل جمال في الكون هو رسالة منك إلي، وبذلك أصبحت للعالم خلقة أخرى في مخيلتي، عليها أثرك الغرامي، وكأنما نحن عنصران منبثان في كل ما حولنا فما نمس شيئا أو ننظر شيئا إلا وضعنا فيه روحانية القلب.
ولن يكون الحب عشقا ما لم يرتفع بالنفس عن ذاتها، ولا تسمو النفس عن ذاتها ما لم يعل نظرها إلى الأشياء، والنظر الإنساني لا يعلو بشيء إلا إذا ألبسه معناه الإلهي. •••
أيكون الحب تنقيحا في معاني الكون بالنفس وخيالاتها، أم في معاني النفس بالكون وحقائقه، أم كليهما؟
أم إني لأستروح أنفاسك وقد ناسمتني كرويحة الفجر عذبة باردة فما تزيدني إلا ضراما، كأنما تهب مني على جمرة ذاكية، ولا يكون الشعور بالحب ناريا ما لم يكن الحب نفسه مزجا للنفس العاشقة بالكهربائية السارية في الكون، المالئة لنواحيه وأطرافه، النابضة بكل ما فيه.
وإذا كان هو الشأن فالوجود مقفل حتى تفتحه للرجل امرأة ويفتحه للمرأة رجل، ولا تزال معاني جماله في قناعها، وزخارف حلاه في أستارها، كمتاع القصر من وراء باب القصر المقفل على ما فيه، حتى يدور في قفل الكون مفتاح الحب.
النهار يفتح بالشمس، والليل يفتح بالكواكب، أما الحب فلم يفتح إلا بوجهك يا حبيبتي.
والشمس والكواكب نار؛ ولكنها على الدنيا نور، أما وجهك فنور، ولكنه على قلبي نار!
أتجهلين ...؟
أتعرفين ...؟
المتوحشة ...!
«وكان يوما في مجلسها فامتد بينهما كلام قالت له في آخره: أنت (متوحش!) وقال لها: وأنت (متوحشة!)، فلما ندر من مجلسها ذهب فكتب إليها هذه الرسالة»:
ماذا أقول في (متوحشتي) الجميلة: وما ظهرت منها على عيب أعيبها به إلا رأيته عند نفسي شكلا جديدا من أشكال جمالها، أو فنا بدعا فيما حنيت عليه ضلوعي من هواها؛ إذ ليس بيني وبينها حدود تجعل منها ألفاظ النقد حدودا لمعانيها؛ بل كل ما فيها من أشياء قلبي، ولو قالت لي: «أكرهك» لما وقفت الكلمة عند هذا الحد؛ لأنها من أشياء قلبي، فيكون معناها: أكرهك لأني مكرهة أن أحبك، أكرهك لأنك أخضعتني، وجعلتني مكرهة أن أحبك، أكرهك لأن كلمة «أكرهك» هي التي أظن أنها تخفي أمام نفسك تواضعي لك في نفسي! •••
والله خالق الجنة والنار، لو كان في سواء الجحيم
1
غرفة من الجنة بنعيمها وزينتها، أو كان في سرارة الجنة
2
قاع من جهنم بعذابه وآلامه - لكانا معا أشبه بما أجد منك، فإن حبك لذة من لذات الجنة، ولكنه يتضرم فنونا على قلبي، وإن الشوق إليك عذاب كالنار ولكنه ينفض من الأمل على روحي: مثل الطل والندى.
إلا أنه ليس في الحب نصف حب أبدا، فليس في الحبيب أبدا إلا كل الجمال، فليس معاني الجميل إلا أنها كلها جميلة.
والوجه الذي نعشقه هو من كل ما خلق الله الوجه الموسيقي الذي لا ينسجم غيره ولا يتطابق مع فن الروح في عاشقه: فإن أطرب أو أشجى
3
فبلذة أشجى وبلذة أطرب.
وإن لمست يد الحبيب بأناملها لمسة حب، فهي يد الحبيب أفلا تكون هي بعينيها يد الحبيب. إن قرصت بأظافرها قرصة حب ...؟ •••
قلت أيتها الحبيبة إني (متوحش) فإني كذلك: وإني لمتسعر الدم من حبك بفظاعة تجعله كأنه دم وحش فائر تتنزى به نوازيه للوثبة، ولن يكون الحب القوي إلا متوحشا؛ لأنه ثورة قذفت في الدم الإنساني فيرتج فيه تاريخ القتال الوحشي الذي ينام في دمنا من إرث أجدانا، فإذا معركة مرسومة لامتلاك الحبيب لم يصنع فيها العاشق أكثر مما يصنع القائد إذا نشر خريطة حرب كانت عنده مطوية.
ومن العجب أن هذا الوحش النائم في الدم لا ينبهه إلا أجفى المعاني وأغلظها في سورة الغضب وجنون الغيظ، أو ألطف المعاني وأرقها في جمال الحب وخلاعة الجمال.
فالعاشق الرقيق على فرط رقته، هو لفرط رقته وحش في عاطفة الحب: ما منه فكر لو فتش إلا فتش عن معنى يفترس إذ يشعر بالحياة في نفسه لا غذاء لها إلا بمعاني حبيبته، فيأكلها حتى بالنظر، ويفترسها حتى بالخاطر!
ولو أننا تمثلنا أسدا غرثان يطوي البر أياما، وهو يهفو على أثر خيال من أخيلة جوفه، ولكنه لا يجد الفريسة، حتى إذا انصفق جنبه على جنبه الآخر من الجوع فتقت له الهواء رائحة ظبية من قريب، ثم تمثلنا مع هذه الصورة عاشقا مجفوا نالته نسمة من قبل حبيبته أو نفحته رويحة من عطرها، ثم ترجمنا ما أفز الأسد من معاني الظبية إلى ترجمة إنسانية، لكانت وحشية الليث في هذه الحالة هي بصورتها لهفة العاشق ولوعته، إلا أن ذلك معنى في وحش، وهذا معنى في إنسان.
ويخيل إلي أن محبا لو قبل حبيبته بتلك اللهفة، أي بتلك الوحشية؛ لجاز لها أن تتهمه قانونا بتهمة الشروع في أكلها.
4 •••
وقلت لك: أنت (متوحشة)، وإنك لعلى ذلك، فإن جمالك لهو أرق الوحشية وأدقها وأخفاها، ولا برهان لي عليك إلا أنك دائما تساورينني في قلبي مساورة ظهرت في قلبي جراحاتها ... وعلى كبدي منها الصوادع.
5
ولك صولة على وحشية وأنت بها غالبة أبدا، حتى لا أستطيع في مغالبتك أكثر من أن أجعل خضوعي أحيانا في صورة مقاومة ...!
والحياة تدل بالوحش على أنها آكلة هاجمة مصممة غير رحيمة، وأنها الشدة تحت مس لين، وأنها القوة الغازية معبأة في إهاب، وأنها أسلحة قاطعة من اللحم والدم، فيا ليت شعري عنك، هل دلت الحياة بجمالك الفتان إلا على رقة قاتلة، ولين مهلك، ولطف معذب، ومعان كالأسلحة في لحمي ودمي؟
لا أثبت لك حبي إلا لتثبتي لي كبرياءك، ولا تقوم هذه الكبرياء ولا تثبت إلا بتعذيبي، والأساليب التي تخفين وراءها حبك بطبيعة الاحتراس الغريزية فيك، هي بعينها التي تعذبني بطبيعة الجرأة التي في، وما قالت امرأة مثلك عمن تهواه: إني أحبه! إلا وكأنها قالت: إني أعذبه!
ولقد تركتني وما أظفر منك بساعة رضا إلا رأيت في يدي معجزة، وكأني أمسكت من الزمن ساعة كانت هاربة في الأبدية!
يا حرة قلبي منك!
6
ويا رحمتاه لكل من عشقوا.
إن الحبيبة على أنها سرور محبها، وليس له عندها مذهب إلى متاع أو لذة في كل ما وسعت الدنيا، فإن سرورها هي بالمحب لا يهنئها إلا أن تراه بها معذبا ولها صبا وفيها مدلها
7
وقد أحرقه الوجد وأضناه التيم
8
وأهلكه حزن الهوى؛ إذ لا تكون عند نفسها معذبته إلا من أنها حبيبته، ولا تثبت لنفسها القدرة عليه إلا بمحق المقاومة فيه، ولا تتم كبرياء أنوثتها إلا بتمام الدل عليه، ولا يتأله فيها الجمال يعذب ويثيب إلا بتحقيق العبودية فيه تخاف وتطمع، فتبدع ما تبدع في إيلامه وتعذيبه ولو تتابعت له بالسوء؛ لأن ذلك هو عمل كبريائها وسرورها.
وقد تعذبه في بعض دلالها أشد العذاب، وهي تحبه حبا ليس عليه صبر، كما كانت تفعل لو أنها كانت تبغضه بغضا ليس فيه مبالاة، وبذلك تجمع عليه الشبهة والحقيقة، وما أمر عذاب من وجد الضروري له مستحيلا عليه.
فأوجاع المحب وأحزانه كآلام الفريسة وأوجاعها، كلاهما بالغة السلبية في الحبيبة والمفترس: وصف كامل لسطوة وحش ...
وإني لأحسب طبيعة الفرار التي ركبت في المرأة
9
قد خلقت فيك أنت على الضعف، حتى لأراك دائما كالهاربة عني وإن كنت إلى جانبي، وحتى إن معاني كلماتك في الحب لتفر من كلماتك، وكأنك تحترسين بغريزة وحشية بالغة في وحشيتها.
10
وإن حقيقتك لا تزال وراء آلاف وآلاف من ظنوني، كأنما لها هي أيضا معنى اختباء الوحش في ألفاف الغابة وأشجارها فإذا أنت رضيت فأيسر ما توصفين به أنك جذابة إلى حد فظيع في التأثير، بل متوحشة في الجاذبية والسحر والفتنة.
وإذا أنت هجرت فأحق الكلام الذي توصفين به أنك في الهجر بلا رحمة ولا شفقة، متوحشة ... متوحشة ...!
أما قبل
«كتبها إليها بعد أول مجلس كان لهما يصف ذلك المجلس»:
لم يقولوا في لغتنا (أما قبل) كما أقول أنا يا حبيبتي، ولم تخطر لأحد قط، ولا يصححها وجه ولا تعليل، ولكني أضعها من أجلك، وما أشك أنها ستكون عبارة معشوقة من أثرك وأثر الحب عليها: وأقولها لك ولا أرتاب في أن ألسنة المحبين سترمي بها في كل زمن مراميها عند كل حبيبة ...
إنها كلمة حنانة، فيها الحب والذكرى، وفيها من نفسي ومن اللغة ومنك، وهي غريبة باللغة الغرابة؛ لأني صنعتها صنعة قلب لا صنعة لسان، ففيها الفن أي سر الحسن، أي حروف التصوير، أي المجلس الذي كان لنا أمس.
ويد المصور الملهم الحاذق لا تمر على الصورة بحركات الرسم وخطوطه، بل بحركات الفكر والقلب، ورعشات اللذة والألم، مستفيضة بالوحي الذي من لغته الخطوط والأبعاد والظلال والألوان. فما الرسم إلا الوجه الممكن لاتصال الإنساني من الفكر بالإلهي في الأشياء لخلقها مرة ثانية، وكذلك ليست (أما قبل) إلا الوجه الممكن عندي لاتصالي بأمس، وانتقال قطعة كانت من وجودنا في وقت إلى وجودنا في كل وقت، وخلق ما كان من قبل خلقا تصويريا في كلمة.
قالوا (أما بعد) وسموها فصل الخطاب
1
وأنا أقول (أما قبل) وأسميها وصل الماضي؛ وبها نجعل لما فاتنا مما نحبه أو نؤثره لسانا، ونعيد إليه الصوت، ونفتح له باب الساعة التي نكون فيها، ونخترع للمحبين لفظا سحريا لم تستطع حواء بجنة خلد أن توحيه لآدم، وأوحيته أنت لي بمجلس حبك في لحظة! ••• «وأما قبل» ... فبماذا أصف مكانا للحب كأنما مر به سر الخلود فإذا الوقت فيه لا يشبه نقصانا من العمر بل زيادة عليه، وكانت يا حبيبتي كل دقيقة وثانيتها في مجلسك الساحر كأنما بعض الفكر والحس لا بعض الزمان والمكان؟
بماذا أصف الوقت الغض الذي كان ينبت لساعته رطبا نديا كأنما انبثق من قبلتين؛ لأنه مر بهواء حجرتك التي أنت فيها، ثم جعلني أعرف بعد أن فارقتك ولقيت الناس أن الزمن قد يكون من جدبه في أنفاس الناس حطبا يابسا وهشيما؟
وبماذا أصف ما لا يوصف ولا يوجد بيانه في اللسان مع أنه حي قائم في العين والضمير: إذ أشعر بك في ذلك المجلس وكأن أكثر معانيك الإنسانية تتهارب من حوله؛ لتسبغ عليك من اللطف معاني ملائكية سامية تتكلم بوجهك كلاما هو شعر الحب؟
وإذا أشعر من شدة ما وجدت بك ووطأة حبك على قلبي أنه لو حل في كرسيك شخص من معانيك لما كان إلا ملكا موترا في إحدى يديه قوسا محنية من صاعقة وفي يده الأخرى سنان يمور كالشعلة، وهو يرمي ويطعن وما يرمي ويطعن إلا لحظا وابتساما؟
بل بماذا أصف ما لا يوصف إذا أردت بلاغتي أن تكون على مقدارك وأنت تلجين على قلبي من كل جوارحي، وأراك أمام عيني تحولا مستمرا في خواطري ومعاني، فلا أملك أن أفكر في شيء ثابت، كأن دلالك قد سلبني حتى قوة التحديد، ويأتي لك أن يخضع لي منك شيء ولو بالمعنى للفظ في الذاكرة ...؟ ••• «وأما قبل» ... فلقد كنت وما أحسن منك في جملة ما أرى إلا أن الجمال الرائع في معانيه الإنسانية إنما هو قدرة في بعض النساء على اختراع أمثلة أرضية من الجنة.
وكنت وما أشعر من سحرك إلا أني بإزاء سر وضعني في ساعة من غير الدنيا وحصرني فيك وحدك، حتى ليس لك من نظرة ولا كلمة ولا حركة إلا خيل لي أنها لم تكن في امرأة من قبل حتى ولا فيك أنت، وشتى بعد ذلك فرق بينهما فيك وفي كل امرأة؛ إذ لا تواسمك في الحسن امرأة!
وهاجمتني من يقظتي، واقتحمت علي من حذري، وتركت بعض أفكاري من بعض كالمجروح يمشي على المقتول في معركة، ورمتني بما لا أجد له اسما إلا أنه زلزال روحي عنيف كان في قلبي أو كان يدا امتدت إلى قلبي فنالته فضغطته!
وخليتني وعينيك، وخليتني وما كتب علي.
وضاعفتك رهبتك في نفسي فكثرت وكثرت، وضاعفتني أيضا فزدت وزدت، حتى إن مع كل قوة في عادت فكرة حبك قوة أخرى.
واتسعت روحي لتشملك! فما كنت تتكلمين ولا تضحكين ولا تخطرين في غرفتك ولكن في داخل نفسي!
وكان نور الكهرباء وهو يشع في وجهك يغمغم أيضا بكلمات من النور لتلك الشعل التي اضطرمت في قلبي. •••
وملأت حياتي بك وعرفتني من ذلك أني كنت من قبل حيا من الأحياء الفارغة ...
وأشعرتني أجمل السعادة، سعادة نسيان الوقت، كأني في هنيهة خلقت لي وحدي تجري بي وبك فوق المقادير.
ثم دفعت بي إلى ما وراء السعادة، إلى منطقة الأحلام التي لا يكاد يصدق الإنسان فيها أن الحقيقي حقيقي!
ثم رفعتني إلى حس خالق، فإذا أنا أرى كيف تخلقين في خلق معانيك؛ لتعود معانيك فتخلقك كما أحب وأهوى
2
وتحقق بجمالك فن عواطفي، وتنشئ بعواطفي غرامي. ••• «وأما قبل» فقد كانت موجودة معي ولكنك ضائعة في؛ إذ كنا من وراء الشكل الإنساني كالعطر والنسمة الطائفة به.
وكنت أمامي ولكني أحتويك، وما أدري كيف كنت مملوءا بك وأنت أمامي؟
وكنا نتكلم ولكن ألفاظنا تتعانق أمامنا، ويلئم بعضها بعضا من حيث لا تراها إلا عيناي وعيناك.
وكنت أقطف الحياة بالتنسم من هواء شفتيك، وكأن هذه الأنفاس هي فرع ممدود من شعاع الشمس في روحي.
وتراءت النفسان فملأنا المكان بأفراح الفكر، واستفاض السرور على جمالك بمعنى كلون الزهرة النضرة، هو عطرها للنظر.
وقلت لي بجملتك: أنا ...، وقلت لك بجملتي وأنا ...! ••• «وأما قبل» ... فقد رأيت عندك الفجر، وأخذت منه نهارا أحمله في روحي لا يظلم أبدا.
وخالطت عندك الربيع، وانتزعت منه حديقة خالدة النضرة في نفسي لا تذبل أبدا!
وجالست عندك الشباب، وترك في قلبي من لحظاته ما لا يهرم أبدا!
واجتمعت عندك بالحب، وكشف لي عن مخلوقات الكون الشعري الذي تملؤه ذاتي فلا ينقص أبدا!
ورأيتك يا فجري، وربيعي وشبابي، وحبي فلن أنساك أبدا ...! و«أما قبل ...».
جواب غريب
حدثنا الصديق قال: لما بعثت إليها برسالة (أما قبل) لم يكن جوابها غير أن أهدت إلي كتابا مطبوعا، ولم تزد على أن كتبت على غلافه هذه الكلمة «أما بعد، فإليك يا صديق جواب: أما قبل، والسلام!».
1
قال صاحبنا: فقرأت الكتاب سطوره وبين سطوره ... وأعنت نفسي في تأويل كل عبارة وتعرف سببها الذي أتخيله، وتبين موقعها الذي أتمثله، وجعلت أتوجه بالكلام مستقيما تارة وملتويا، ثم لا أجد الكلمة التي هي من جوارحي، ولا التي يقف عندها قلبي، ولا التي تقول لي أنا من لغتها، ولا الأخرى التي عليها أثر عينيها ... وكنت في كل ذلك أرى الكتاب كأنه بين يدي يموت ويحيا من كثرة ما أقول: ليست هذه بل هذه، ولكن هذه ... وجعلت لا أكاد آنس بكلمة حتى أجد الوحشة في التي إلى جانبها، وقدرت أن الجواب ربما كان جملة قصيرة أو كلمة مفردة، فصدعني ذلك تصديعا ذا فنون وكأن مؤلفة الكتب كانت تعلم من علم الغيب أنها ستضرب بكتابها يوما هذه الضربات على قلب إنسان من الناس، فكانت في تأليف كلامها تصد وتعرض، وفي ترتيب مقالاتها كأنها ترتيب ثورة غيظ من سببها إلى اهتياجها نشأتها إلى عنفوانها.
قال الصديق: ثم كأني كنت دائما في ليل طويل وطلعت على وجهي الشمس ضاحية، فإذا أنا كنت أجتهد في غير طائل، وإذا الجواب في آخر الكتاب صفحات متلاحقة، فضلا عن صفحة، فضلا عن جملة، فضلا عن كلمة؛ فكان هذا من ظرفها ومكرها معا، انتهى.
وهذا نص الجواب:
2
لقد التقينا وسط جماعات المتفقين فيما بينهم للضحك من سواهم حينا، والضحك بعضهم من بعضهم أحيانا.
أنا منهم وإياك غير أن شبهك بهم يسوؤني؛ لأني إنما أقلدهم لأريك وجها مني جديدا؛ وأنت، أتجاريهم بمثل قصدي أم الهزؤ والاستخفاف فيك طوية وسجية؟
ولكن رغم انقباضي للنكتة منك والظرف؛ ورغم امتعاضي للتغافل منك والحبور، أراني وإياك على تفاهم صامت مستديم يتخلله تفاهم آخر يظهر في لحظات الكتمان والعبوس والتأثر.
بنظرك النافذ الهادئ تذوقت غبطة من له عين ترقبه وتهتم به، فصرت ما ذكرت إلا ارتدت نفسي بثوب فضفاض من الصلاح والنبل والكرم، متمنية أن أنثر الخير والسعاة على جميع الخلائق. •••
لي بك ثقة موثقة، وقلبي الفتي يفيض دموعا: سأفزع إلى رحمتك عند إخفاق الأماني، وأبثك شكوى أحزاني، أنا التي تراني طروبة طيارة، وأحصي لك الأثقال التي قوست كتفي، وحنت رأسي منذ فجر أيامي، أنا أسير محفوفة بجناحين متوجة بأكاليل!
وسأدعوك أبي وأمي، متهيبة فيك سطوة الكبير وتأثير الآمر، وسأدعوك قومي وعشيرتي، أنا التي أعلم أن هؤلاء ليسوا دواما بالمحبين، وسأدعوك أخي وصديقي، أنا التي لا أخ لي ولا صديق، وسأطلعك على ضعفي، واحتياجي إلى المعونة، أنا التي تتخيل في قوة الأبطال ومناعة الصناديد!
وسأبين لك افتقاري إلى العطف والحنان، ثم أبكي أمامك وأنت لا تدري، وسأطلب منك الرأي والنصيحة عند ارتباك فكري واشتباك السبل، وإذ أسيء التصرف وأرتكب ذنبا، سأسير إليك متواضعة واجفة في انتظار التعنيف والعقوبة، وقد أتعمد الخطأ لأفوز بسخطك علي فأتوب على يدك وأمتثل لأمرك! ... وسأصلح تحت رقابتك المعنوية مقدمة لك عن أعمالي حسابا؛ لأحصل التحبيذ منك أو الاستنكار فأسعد في الحالين، سأوقفك على حقيقة ما ينسب إلي من آثام فتكون لي وحدك الحكم المنصف.
وما يحسبه الناس لي فضلا وحسنات فسأبسطه أمامك فتنبهني إلى الغلط فيه والسهو والنقصان.
ستقومني وتسامحني وتشجعني، وتحتقر المتحاملين والمتطاولين؛ لأنك تقرأ الحقيقة منقوشة على لوح جناني: كما أكذب أنا وشاية منافسيك وبهتان حاسديك، ولا أصدق سوى نظرتي فيك وهي أبر شاهد. كل ذلك وأنت لا تعلم.
3 •••
سأستعيد ذكرك متكلما في خلوتي، لأسمع منك حكاية غمومك وأطماعك وآمالك، حكاية البشر المجمعة في فرد واحد، وسأتسمع إلى جميع الأصوات علي أعثر فيها على لهجة صوتك، وأشرح جميع الأفكار، وأمتدح الصائب من الآراء؛ ليتعاظم تقديري لآرائك وأفكاري، وسأتبين في جميع الوجوه صور التعبير والمعنى لأعلم كم هي شاحبة تافهة؛ لأنها ليست صورة تعبيرك ومعناك، وسأبتسم في المرآة ابتسامتك في حضورك، وسأتحول عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك!
سأتصورك عليلا لأشفيك، مصابا لأعزيك، مطرودا مرذولا؛ لأكون لك وطنا وأهل وطن، سجينا لأشهدك بأي تهور يجازف الإخلاص، ثم أبصرك متوقا فريدا؛ لأفاخر بك، وأركن إليك.
وأتخيل ألف ألف مرة كيف أنت تطرب، وكيف تشتاق، وكيف تحزن، وكيف تتغلب على عادي الانفعال برزانة وشهامة؛ لتستسلم ببسالة وحرارة إلى الانفعال النبيل؟ وسأتخيل ألف ألف مرة إلى أي درجة تستطيع أنت أن تقسو، وإلى أي درجة تستطيع أنت أن ترفق؛ لأعرف إلى أي درجة تستطيع أنت أن تحب!
وفي أعماق نفسي يتصاعد الشكر لك بخورا؛ لأنك أوحيت إلي ما عجز دونه الآخرون.
أتعلم ذلك، أنت الذي لا تعلم؟ أتعلم ذلك، أنت الذي لا أريد أن تعلم ...؟ •••
هناك في تلك الزاوية الضائفة، حيث أقام القدر من دواهيه على صدري جدران الحديد ومعاقل الرصاص، وهنالك قرب حلول الشفق، برزت فجأة أمامي، وأخذت تتكلم عن معان اختفت طي المعاني؛ وأشياء توارت في الأشياء، وممكنات حجبت في المستحيلات ... وكانت يدك تتحرك متريثة متأنية فبدت الإشارات سحرية ساهية، كأنما هي انعكاس إشارات خفية على المرايا المتبحرة في مهجور القصر، وضاء الجو حولي بلألاء الشرف والأبهة والسؤدد، ومشى نظرك توا إلي يكتشف في جديد العوالم!
نظرت فعلمتني إعزاز الوجود، وأدركت أني ما تخيلت أجلي عند حينه إلا لأتشدد وأتحفز لوثبة كبيرة، كما يتنفس المتسابقون منتعشين متجددين قبيل خطير الأشواط.
فارتدت الحوائط قليلا قليلا، وتنحت الحصون مسفرة عن المروج والرياض، واتشحت الكائنات بنقاب وسيم لا تنسجه سوى يد الوجود على زعيم المتيمين! ولكن، أنى جاء الوجد؟
أنت لم تكن تهتم بي وأنا لم أكن أهتم بك، ولكن علام تشل أوصال روحي للدنو من مكان حللته؟
وعلام اضطرابك وارتعاش يديك إذ تلمح خيالي عن بعد؟
أنت لم تكن تنظر إلي، وأنا لم أكن أنظر إليك، ولكن لماذا كانت تتبلبل خواطري، وأهرب عند قدومك؟
وأنت إن لم تستطع السكوت فلماذا يخرج صوتك متقطعا متهدجا كأنك تجاهد لتقهر تأثرا ما؟
أنت لم تكن تعبأ بوجودي، وأنا لم أكن أعبأ بوجودك ... ولكن لماذا كنت أخاشنك متعملة الإعراض وعدم الانتباه؟ لماذا وأنت مثال الوداعة والتهذيب، كنت تكفر لحضوري وتنقبض كمن يود أن يتجنى علي أو كمن يخشى أن يرمي بالبشاشة والمجاملة، ثم يعود نظرك في المرة التالية يستصفحني عن زلته؟ أنا التي كنت أغتفر لك وأتناسى قبل أن تحدث نفسك بالاستغفار!
أنت لم تكن تفكر في، وأنا لم أكن أفكر فيك، ولكن لماذا كنت أحيد عن طريقك لئلا ألتقي بك، وأنا التي أود أن أبحث عنك في كل مكان؟ ولماذا كنت تتقن خطواتك إذ تعلم أني أراقبها؟ وتنغم نبرات صوتك وتنوعها إذ تعلم أنها واصلة إلي؟
أنت لم تكن لي شيئا، وأنا لم أكن لك شيئا، ولكن وجوه القائمين حولك كنت أراها متألقة بنورك ، وأنت كانت تدهشك كل حركة مني كأنها لم يأتها قبلي إنسان!
أنت لم تكن لي شيئا، وأنا لم أكن لك شيئا، ولكن أليس أن إرادتك حلقت فوق خواطري كيد آمرة، فتقت لأجلها إلى الطاعة والخضوع؟ أوليس أنك كنت تحاول إرضائي وإثارة إعجابي حتى ارتفعت بذلك فوق ذاتك المألوفة فتجليت بهيا عظيما؟
من أنت؟ وماذا كنت؟ أكنت وحيا من فيض شاعريتي المكتظة، وطيفا من أطياف شوقي وعذابي؟ أم أنت حقيقة محسوسة مرت في أفق حياتي مرور السفن في البحر إلى الشواطئ النائية؟ ...
لقد كنت وحيا من فيض شاعريتي المكتظة، وكنت طيفا من أطياف شوقي وعذابي، أنت حقيقة محسوسة مرت في أفق حياتي مرور السفن في البحر إلى الشواطئ النائية.
يا مهذبي ...!
كذب مصور
يا حبيبا إذا حننت إليه
حن في رقتي عليه حنيني
1
أنت شخصان في الفؤاد. فشخص
عند ظني، وآخر في يقيني
واحد كيف شئت أنت، وثان
كيفما شئته أنا وظنوني
لا بهذا رحمتني أو بهذا
بل بعقلي عذبتني وجنوني! •••
أملي فيك كالخيال على المرآ
ة كذب مصور للعيون
لماذا ... لماذا؟
وكتب إليها:
1
قرأت كتابك وهو أسطر قليلة، ولكنها إما ساحرة أو مسحورة. فلقد خيل إلي أنها تنتهي، إذ كنت فيها كأني أطارد معنى فارا مذعورا لا تمسكه الألفاظ فلا يبرح فوق السطور، إذا بلغ آخرها وثب إلى أولها فإذا كان في أولها عاد إلى آخرها، دواليك بدءا وعودا
2
ويتلجلج مثل ذلك في صدري فلا ينتهي حتى ينتهي عنه.
تقولين يا حبيبتي: أي شيء عندك هو جديد في؟ ولماذا لا تراني رؤيتك غيري؟ وكيف بعدت في نظرك المسافة بين وجه امرأة ووجه امرأة أخرى؟ وهل في وجوه النساء طريق متشعبة تذهب برجل يمينا وتلتوي بغيره شمالا، وتتوافى إلى غاية وتتفرق عن غاية؟ ثم ما الذي جعلني عندك لغزا لا تفسير له، وجعل النساء من دوني واضحات مفسرات كألفاظ الحياة الجارية في العادة والواقع، المبذولة بمعانيها لمداولة الأخذ والعطاء، على حين تزعم أني كالعبارة العقلية التي يضرب فيها الظن على وجوه شتى، وأني كما تقول: كلمة بسرها؟
لا أكاد أفهم يا صديقي معنى «كلمة بسرها»! ولا معنى قولك الذي قلته لي: إن الحب فيك أنت كعتيق الخمر: يضيف إليها الوقت كل يوم أسرارا وقوى وخيالا وعملا وسطوة ورقة، وأراه في سواك كتعتيق الماء ...
3
لماذا لماذا ليس عندي جواب كلامك وإنما هو عندك، إذ تجاوز قدر معرفتي يا صديقي، فلماذا لماذا؟ ••• «وأما قبل» ... يا صديقي، فلا أزال أقول لك ما قلته: إن من النساء في مقابلة أشعة النفوس معاني؛ فمعنى كحائط، ومعنى كمرآة: وواحدة تمسخ ظلا طامسا أراني فيها تحت الشعاع كأني ظل ممدود على التراب، والأخرى تبرق وتتلألأ، وأراني فيها سويا كاملا كأنما خلقت في ضوئها.
ومن النساء في مقابلة أهواء القلوب معان؛ فمعنى كالقفر، ومعنى كالحديقة، وواحدة يكون وجودها حول فراغها ... والأخرى وجودها القلب فهو حولها. «لماذا لماذا» لأن الإنسان غامض وتفسيره ليس فيه، ولا بد من تفسيره وإلا كان كل شيء عبثا. إن الوجود كله مفسر للطفل تفسيرا صغيرا مثله في حب أمه وحنانها، وقد يكون ثدي الأم مثالا مصغرا من الكون كالمثال المصغر من كرة الأرض في تعليم الجغرافيا، بل الأم تفسير على قدر العقل لرحمة الألوهية نفسها.
وكذلك تبدأ الحياة من أول أنفاسها بالحب، ولعل أول قبلة على وجه الطفل من أمه ساعة ينفصل منها إنما هي استقبال الحب لهذا الإنسان الجديد، ومسه من شفتي أمه بالطابع الذي لو قرئ نقشه لكان هكذا: أنت وحدك.
فإذا كبر الوليد فلا بد من تغيير في أسلوب التفسير حالا بعد حال، ولا يزال كذلك تغيره الأشياء والحوادث حتى يبلغ أسلوب الفلسفة العليا إذا انتهى إلى العشق، وحينئذ تكون قبلة الحبيبة إنما هي استقبال الحب لهذا الإنسان المتجدد، ومسه من شفتي حبيبته بالطابع الذي لو قرئ نقشه لكان هكذا «أنا وحدي ...».
لذلك أنت يا حبيبتي الفلسفة العليا، وأنت «كلمة بسرها»، أما غيرك من النساء فجمالها عندي: جمال الشكل لا جمال السر.
ومن ثم فهي مفسرة واضحة، إذ لا يرى قلبي فيها ما يعسر فهمه، ولا ما يبحث عن تفسيره، ولا ما يفسر لي شيئا من المعاني.
ومن ذلك فليس الجمال المعشوق إلا انطواء الجميل على أسرار مبهمة، وبذلك فكل نظر في المرأة لا يرجع إلا بزيادة الوضوح فيما يعلو منها وما ينزل،
4
على حين كل ما في الحبيبة يزيد على تكرار النظر غموضا كأنه شيء جديد، ودائما شيء جديد، ويأبى جمالها أن يفسر، إذا كان تفسير الشيء إنما هو إضافته إلى ما فرغت النفس منه، وبهذا وذاك فما دام الحب قائما فكل ما في الحبيبة من تكوينها وأوضاع جسمها وشمائلها ومعانيها إنما هو (مضاعفات) للمرض بها. «ولماذا لماذا؟» لأن الحب يريد أن يثبت أنه الحب، وأنه تحقيق كل إنسان روحانيته في غيره؛ ليشعر بما هو أسمى من شعوره الإنساني، وأنه امتلاء حياة بحياة؛ لتدرك معنى الكمال، فلا يكون في الحب إلا كمال الوجود الإنساني لشخص ما في وقت ما بمعنى ما.
ومتى حققت الروح وجودها في روح محبوبة، وامتلأت حياة بحياة صار لها عالمها الخاص بها، وعادت قوانين عالمنا هذا لغوا هناك، وارتفع الحب عن أن يكون صلة أو اعتبارا - كما يقع بين الناس في الوجود الإنساني الذي يسع الخلق جميعا - إلى أن يصير حقيقة وحياة يعملان بقوانينهما في الوجود القلبي الذي لا يسع إلا اثنين من الخلق. •••
إن جمالك أيتها الحبيبة ليس جمالك كما تظنين، وإلا فقد شركتك الحسان فيه: لكنه بكلمة واحة فن قلبي أنا!
والحياة التي تفيض عليك تملؤك وتملؤني معا، ولذلك فكل معنى منك له معنى آخر في.
وأنا لا أعرف الحب إلا أن أفيض من وراء حدودي فأنفذ بروحي إلى جمالك ومعانيك، وأنفذ من معانيك وجمالك إلى كل ما يتلقاني في هذا العالم بجمال أو معنى، فكأنك أنت السر، وكأن جمال الوجود ليس شيئا من ناحيته إلا معرفة أن لكل صورة معناها، فإذا هو جاء من ناحيتك فلكل صورة معناها، ومعنى زائد فيها كما أراها بنظر الحب، وبهذا يرجع العالم، وإنه في نفسي عالم تعبير فتتسع به ذاتي، وتتطور الإنسانية فيها وتدنو من أصلها الإلهي، وأكون قد أحببت والمعنى أني استضأت بالقبس الأزلي الذي أضرم الشمس والكواكب، وأصبح دمي لا يجري بل يشتعل ويتوهج، وعاد قلبي لا ينبض؛ بل يرتج ارتجاج الأفلاك في مداراتها.
وأكون بالحب قد وجدتك، والمعنى أني وجدتني؛ إذ كانت نفسي تنقصها المرآة التي أراها بها رؤية قلب، وأكون قد عشقت، والمعنى أنك أدخلت على قلبي حاسة تشيع السكون كله في أو تشيعني أنا فيه، حتى لا أفرح ولا أحزن إلا بمقدار يملأ الوجود، حين بك وحدك أفرح وأحزن! «لماذا لماذا؟» لأن الحياة في هذه الأرض الثقيلة المستوخمة هي مثلها مادة، مهما تتنوع بقي لها أصلها الجاف الثقيل، كالشجر: مهما يكن عمله من تحويل التراب فيلبس منه الأخضر والأبيض والأحمر وغيرها من الألوان، ويثمر بالحلو والمر، فإن جذوره على ذلك لا تعرف الأخضر ولا الأحمر، وليس لها إلا شيئان، ترابها وعفن الأرض ... فلا بد لهذا المنجم الترابي الإنساني، مما يغلي قيمته ويشعره أن فيه ألماسا أو ذهبا أو فلذة من أفلاذ الجمال كائنة ما كانت، وهنا عمل الحب موضعه سحره فهو يأتي بالمعشوق، ويمكن لمعانيه في القلب، وببضع ابتسامات ولحظات وكلمات وحركات يكشف من قلب العاشق عن كنز عظيم من الأحلام الجميلة التي تخفق بها خوافق السماوات والأرض
5
فإذا القطعة البشرية العادية من النساء والرجال قد تحولت بالحب إلى قطعة فنية نادرة لا نظير لها في جمال الكون، وعلى ما يصف الواصف لا يبلغ ما هي أهله في رأي محبها؛ إذ هي تخلق في نظره ضوءا لها خاصة يرفعها فوق المادة وفوق الحقيقة، فكل ما تبصره العين الإنسانية فإنما تراه للفكر أو للعاطفة وحسب، أما هذه فتراها عين محبها للفكر والعاطفة، ثم للجمال والفن، ثم للشهوات والآمال، فلو أن جنة الله تحيا على الأرض في امرأة ما عدتها.
بل يرى المحب كأن سر الحياة أخذ يتجلى له، ويعمل أعماله على عينه، فكل شيء من الحبيب جديد مع أنه هو هو من قبل، وكل ما يصدر منه ففيه روح وخلق ينبثق لساعته؛ إذ كان سر الحياة هو الذي يتحرك في كل هذا، ويستعلن به للنظر العاشق.
ومن هذا تتغير الطبيعة نفسها في أعين المحبين؛ إذ لا يكونون منها في الحقيقة - بعمل ذلك السر - إلا بإزاء قصة عشق ممثلة في الطبيعة، ولها ممثلون وممثلات من الأنهار والأطيار والأشجار والأزهار والألوان والأصوات والنجوم والشمس والقمر وما في السماء وما في الأرض، على حين ليس في الطبيعة لغير المحبين إلا مناظرها!
ألا أنه بالحب وحده يحيا الإنسان أكثر من حياة إنسان، وتكون الطبيعة أكثر مما هي، ويزيد كل شيء في حس العاشق؛ لأنه هو زاد بحبيبه.
تسألينني «لماذا لماذا» لأنك، لأنك ... يا حبيبتي!؟
كتاب لم تكتبه ...
«وانقطعت كتبها عنه مدة، فرأى أن يجري في طريقه بعض الأساليب السياسية التي تخلق الواقع متى شاءت كما تشاء، فتوهم أنها كتبت إليه كما يجب ... ثم رد على رسالتها». •••
وصل كتابك أسرع ... مما قدرت، فعلمت أن قلبك أشفق علي وخشي أن أتألم إذا انتظرت، وتناولته فأحسسته فياضا بمعانيه إذ كان في يدي كأنه لهفة قلب مجسمة، حتى ما شككت أن كل كلماته كانت خفقات.
وفضضته فطالعتني منه صحيفة تضطرب بأشواقها كأنها رجة صدر عاشق أمسكت في زفراتها وطويت، وختم عليها وجعلت رسالة! ونظرته فإذا هو ترجمة شخصك في حسنه وجماله وظرفه، وابتدرتني منه جملة باسمة أمطرتها لثما؛ إذ خيل إلي إنها ترجمة عن شفتيك.
وقرأته بفكري كما أقرأ نظراتك وابتساماتك ورجفات الدلال على جسمك حين تتناثر أفكاري عليه فإذا في موقع كل فكر على هذا الجسم الفاتن خطرة دلال أو اختلاجة صبابة أو انثناءة تيه أو هزة نشوة، وإذا معاني الجسم تجوب معاني الفكر، وإذا روح الجمال ترتعش بك من لمسات الحب.
وفهمته كما أفهم حسنك الذي جعله الحب من أسرار قلبي، فجعله القلب من أسرار روحي، فجعلته روحي من أسرار الكون، فأظهره الكون كأنه ومضة من النور القدسي أحبت أن ترى رؤية وله وعبادة فكان سطوعها فيك أنت، وكان الخشوع لها في قلبي أنا، وذهبت بي كل مذهب تقديسا وخضوعا ومحبة.
ووقف الهوى بي عند قولك ... وهو كلام كما أرهفته لحاظك تفتحت له جراح قلبي، وانصب يكلمها فتجاوبه ألما ودما.
وعند قولك ... وهو كلام كما عرفت عليه أنفاسك، احتر إليه صدري الهائم فأقبل يتخطفه بتنفسه يقطف منه الحياة.
وعند قولك ... وهو كلام كما رنت فيه ضحكاتك طربت له روحي فاهتزت له هزة حسبتها تناولت الكون أو تناولها.
وعند قولك ... وهو كلام كما غردت فيه نغماتك انسرقت له حواسي
1
فكدت أظن أن فرحة من الخلد لم تجد على الأرض إلا هذه النغمة من صوتك تحملها دون أن يتغير مدار تأثيرها السماوي.
ثم انتهيت يا حبيبتي إلى قولك ... وهو كلام لم أجدك فيه
2
كأنه كان بدء اليقظة من حلم الكتابة إلى محبك، وأول تباشير البياض الذي ينتهي عنده سواد الأسطر.
وعجبت يا حبيبتي من قولك ... وهو كلام إن كانت ألفاظه وجدت فمعانيه غير موجودة، وإن كانت في هذه الأرض من له روح تفتح وتغلق
3
فهو أنت، ولقد جعلت كلمتك الأخيرة كأنها باب أقفل في وجهي ...
ولكن لما بلغت اسمك يا حبيبتي ارتدت عنه ألحاظي مكرهة من قوة في نفسي، وبهذه القوة التي أغمضت عيني قرأت اسمك بشفتي.
ثم لم أملك نفسي أن قبلت الكتاب ألفا وألفا، حتى خيل إلي أني أكلته وشربته، ولما نظرت فلم أر في يدي شيئا تيقنت أني أكلته وشربته ... وأطيب ما كان فني.
4 •••
يحاول لي ولخيالك! إنما أنا معه كالسياسي إذ يقبل سياسيا بعد معاهدة بينهما، فيمسه بشفته مسة ليس لها إلا طعم ورقة مكتوبة ...
وآه كم تتمثلين لي وكأنك لا تزالين في ذلك الموقف ... تحاولين بدلالك وألفاظك أن تدخلي إلى نفسي من غير أن تدخلي، وأراك وما أراك إلا روحي الخارجة عني، فأحاول بأساليب الحب الكثيرة أن أردها إلي، وهي لا بد لها أن تبقى خارجا؛ لأنها جسم آخر! وأنا لا بد لي أن تكون في لأنها روحي الأخرى.
خلد على قلبي ذلك الموقف منك، فلا بد لك ولا بد لي، وبينهما لا بد ثالثة، لا بد من تألمي وعذابي!
قالت وقلت
«هذه رسالة تجمع من كلامها وكلامه مما كان يتساقط به الحديث بينهما، وقد دونها هو في مجالس شتى، وكل فصل من هذه الفصول كان يصلح أن تبنى عليه رسالة طالت أو قصرت». •••
في بعض القصص أن لإحدى الغابات ملكا يحكمها، وكان من شريعتها أن لا يبتوأ عرشها إلا من يذبح الجالس عليه ... فالملك فيها أبدا يقظان منتبه عيناه من سلاحه، ولا يزال السيف في يده مصلتا ولو أن في كل إصبع من أصابعه سيفا قاطعا ثم غفلت عيناه غفلة لما نفعته عشرة أسياف، ولكانت إغماضته الموت لا محالة، ومع هذا الشقاء الحي فإنه يأتي إليه من يذبحه ليجلس في موضعه، أي ليتهيأ للذبح!
أما والله إن عاشق بعض النساء ... لكالجالس على هذا العرش كل لذته من بلائه أنه لم يذبح بعد ...! •••
الموت ينتزع الروح، والهجر يترك الروح كأنها منتزعة، فهو موت لا ينتهي!
أيكون الحب في الحقيقة هو قدرة شخص جميل على تزوير نفسه، وتزوير الكون في نظر شخص آخر؟ •••
قالت له: لم أعدك شيئا!
قال: نعم، لم تعديني بلسانك، ولكن وعدت بما فيك من الشفقة ما ترين في من الاضطرار! •••
لو أني سميت النهار ليلا والليل نهارا لانتقل السواد والبياض إلى اللفظ بسهولة، ثم لا يكون ليل الله ولا نهار الله، فاجعلي لي منك دقيقة واحدة واقعة على زمنها، وخذي الثلاثمائة والستين يوما كلاميا، دقيقة إنجاز ولا ولا سنة مواعيد. •••
أأنت تخطئين؟ أما إنك لو تكلمت خطأ صرفا لكان وجهك وحده برهانا وحجة! •••
ألم أر مثل هذا الفم الجميل: إذا افتر افتر عن ابتسامة، وإذا انطبق انطبق على هيئة ابتسامة، هو دائما إشارة أو تعبير، هو دائما تعبير أو إشارة. •••
عندما أراك لا أتمالك أن أطرب وأهتز، أفهناك ألحان من جمالك تنطلق في. •••
قالت له: كلماتي لا تتم بمعانيها، ولكن بفهمك أنت لمعانيها! •••
وقالت: إن ساعة كتابتي إليك هي ساعة من الحياة معك وإن كنا على بعد! •••
ليست المسكرات ولا المخدرات هي ما يعدونه من كذا وكذا، بل ومنها النظر إلى بعض الوجوه، والفكر في بعض الناس ...! •••
إنك تتكلمين ولا تعرفين أن وجهك ينقح في معاني كلامك. •••
في الحب درجة من درجات الملائكة يرتفع إليها من قدر أن ينسى من حبيبه المادة الإنسانية وهي مالئة عينيه وحواسه، آه ما أشق أن يتحول العاشق في حبه إلى شريعة، ولكن ما ألذ أن يتحول! •••
من العجيب ألا يكون المحزن في الحب إلا وسيلة لزيادة جمال الحبيب باهتياج محبه والتياعه، فهموم الغرام أشبه (بعمليات) جراحية في العواطف لترقيقها وإرهافها، كيما ترى أحسن مما كانت ترى، وتحس أكثر مما كانت تحس! •••
هل الطبيعة الإنسانية بتأليفها بين حبيبين تضرب المثل على إمكان هذا الائتلاف بين الجميع؟ أم على استحالة إمكان التآلف الصحيح إلا بين اثنين فقط من الجميع ...؟ •••
العقل يدل على نفسه بالنظر في الكون ويعبر عن ذلك بأفكاره، والقلب يدل على نفسه بالنظر في الحبيب ويعبر عن ذلك بأشواقه. •••
كل كلمة فيها معناها، وحين تكون الكلمة منك يكون فيها من معناها ومنك ...! •••
قالت: أنا في نفسي كما أنا، ولكني في حبك كما أرى، فأنا اكتشف نفسي الجميلة فيك، وبهذا أجد حبك من عظمتي وسروري! •••
إن مواعيدك من الكلام الذي يموت دائما بمرض النسيان! •••
قالت: ينصح علماء القوة والرياضة للرجل القوي ألا يغضب فيذهب على الأقل نصف قوته، وأنا أنصح لك أن تغضب فتزيد قوتك على الأقل بقدر نصفها ...! •••
أساس الحب شيء خاص لا يعرف إلا بالشخص الذي هو فيه، وحينئذ فليس في الوجود كله مثل الشخص الذي هو فيه. •••
كمال لذة الحب حين تتآخى الإرادة مع الإرادة ... لا حين تتنافر أو تتعادى. •••
ليس في الحب مسافات، فالمتحابان مجتمعان دائما في فكرة وإن كان أحدهما في المشرق والآخر في المغرب. •••
قالت له: إذا كنت تريدني سماء تستوحيها وتستنزل منها ملائكة معانيك فلماذا تنكر علي أن يكون لي مع أنواري سحاب وظلمة ورعد وبرق؟ •••
من تأله الجمال أن الحبيبة لا تريد الحقائق من الطبيعة إليها بل من الطبيعة إلى محبها أول، ثم من المحب إليها بعد ...، تريد في حقائق الكون شعور تقديس الله، وشعورا آخر بتقديسها هي أيضا ...! دولة ضعيفة: ولهذا لا يكون معه أبدا إلا كالمستعمرة ...
الغضبى1
تحير قلبي وهو ممتلئ بها
كما يملأ المرآة ناظرها ظلا
بأي مكان فيه قد حل شخصها
وأي مكان شخصها فيه ما حلا؟
لقد غضبت وكر هجرها على وصلها، وانشق لزمن زمنين، أحدهما مثلها غضبان مبتعد وكأنما كان لها خاصة، فلما ذهبت لحق بها.
إنه الحب يخلق بها خلقا في وبزمنها خلقا في زمني؛ ليشعرنا بهذا التغيير الخالق المتصرف أننا لا نتحاب في ذات نفسينا، بل في الجلال الأعظم الذي منه نفسنا ونفسي، فإذا تغاضبنا وقسمتنا أهواؤنا رجعنا قطعتين من المادة ليس في كلتيهما إلا قانون الثقل ... وزادت عواطفنا وزنا جديدا من الغيظ!
أين زمنها؟ لقد فرغ وقتي منه حتى يخيل إلي أن اليوم الذي هو أربع وعشرون ساعة لا يكمل لي بعدها عشرين وأربعا ... وأنظر في ساعتي فإذا كانت السابعة مساء والتي إليها والتاسعة التي معهما
2
شبه لي وغم علي، وحسبت أن في هذه الساعة منطقة خارجة عن الزمن تخطاها العقرب ولا يشير إليها. •••
وإني لأحمل في غضبها من الهم ما لا أرهق بأوجع منه لو عاداني كل من معي وجفاني كل ما حولي، ولكانت والله قد هانت لو أنها غضبة عدو، ولكنها غضبة حبيب هو بحبه فيها.
يا ظلام القمر كيف تكون ظلاما وقد تعلقت بمخلوق النور؟
3 •••
كلا كلا! لقد غضبت لتزيد في أسرار حبها سر الماضي، ولتمر على أيامها اللينة بمسحة من القسوة تخلق فيها إلى جمال الحقيقة جمال الذكرى.
وكانت ... وتريد أن تأتي في الحب من وراء ما كانت فذهبت، وهذا في فلسفتها هو المجيء من وراء ما كان. فما غضبت إلا لتعطيني الرضا من بعد.
الفرح بالجمال لذة تقتل نفسها، ولا يمسك على الجمال روح النعمة خالدة في القلب إلا الحزن به أحيانا: كيوم الغيم، ترى في سمائه قطعا كأنها الهاربة من الليل، تختبئ الشمس فيها، ثم تسطع من بعد سطوعا يخيل إليك أنها ما توارت في خيمة الغمائم إلا لتنضو غلائلها الشفافة وتتعرى.
يريد الجمال المعشوق أن يثبت فينا فيغيب عنا؛ إذ كان بذله يفني منه على قدر ما يعطي فإذا هو امتنع وعز مناله كان جمالا في نفسه بمعانيه وجمالا فينا، بالمعاني التي هي فينا، وكان له من اجتماع الحالتين حالة جمال ثالث هي في ألم الرغبة المستمرة أو ألم الغيظ المجنون، ومتى خلق لنا الجمال من قصر الزمن طول الزمن، ومن المتاع بالحسن العذاب بتمنيه، ومن الحبيبة الراضية حبيبة هاجرة، ومن الحاضرة غائبة، فقد ارتفع عن إنسانيتنا، وجاءنا من ناحية سره الإلهي. •••
كلا كلا! لقد غضبت لأحبها صورة مبهمة ليس فيها إنسانة بل حب إنسانة، وانتزعت نفسها مني بعد أن انتزعت لنفسي كل معانيها التي جعلتها ما هي.
4
ألا يا ثمرة أفرغت في قلبي عصيرها الحلو! لئن بقيت ثمرة في لغة نفسك فإنك القشرة في لغتي أنا ... •••
إنه ليس معي إلا ظلالها، ولكنها ظلال حية تروح وتجيء في ذاكرتي، وكل ما كان ومضى هو في هذه الظلال الحية كائن لا يفنى، وكما يرى الشاعر الملهم كلام الطبيعة بأسره مترجما إلى لغة عينيه أصبحت أراها في هجرها طبيعة حسن فاتن مترجمة بجملتها إلى لغة فكري.
كان لها في نفسي الجمال ومعه حماقة الرجاء وجنونه، ثم خضوعي لها خضوعا لا ينفعني ... فبدلني الهجر منها مظهر الجلال ومعه وقار اليأس وعقله، ثم خضوعها لخيالي خضوعا لا يضرها.
وما أريد من الحب إلا الفن فإن جاء من الهجر فن فهو الحب ... •••
كلما ابتعدت في صدها خطوتين رجع إلى صوابي خطوة ...! •••
كلا كلا! فلا صواب مع مادة الفتنة، وهل يفتتن الإنسان إلا حين يظهر مجنونا بأسمى ما فيه من العقل؟
أنا عاشق أضم الطبيعة في مهجتي مصغرة فأنا الأكبر ... إن هذا لجنون ولكنه عقل ... وأنا عاشق أفسر الطبيعة في هذه الحبيبة الجميلة فهي الأجمل ... إن هذه لعقل ولكنه جنون!
وقد كانت لهذه الحبيبة نظرة معنوية هي مفتاحها في قلبي، وها هي ذي غضبى نافرة لا أراها ولا تراني، ولكن المفتاح لا يزال يدور في قفله ... أجنون هذا أم عقل؟ ...
وهي الحبيبة ولكنها كالعدو: صورة من أقسى ما في الطبيعة جاءت تمضي في قانونا من عقوباتها؛ أعقل هذا أم جنون؟
لن يقال في الذي تحمله عاصفة وتطير به: إنه مسافر في طيارة ...
ولا في الذي رأى صورة دينار في مرآة فحطم المرآة ليأخذ الدينار: إنه وجد شيئا ...
ولكن يقال في الذي دلهه الجمال وشفه الحب:
5
إنه في نعيم الهوى.
وفي المحب الذي يحطم قلبه على امرأة إنه وجد الحب ...! •••
كلا كلا يا قلبي! إن الغضب يجمع جنون الحب من شخصين في شخص واحد: هأنذا يحوطني الآن هدوء الأشياء، وابتسام الجمال الأزلي المفتر عن نور الدنيا: أنا في كل ذلك، ولست في هدأة ولا ابتسامة غريق في البحر ولا يبتل ...!
لعمري لو غضب قاع الأقيانوس غضبة حب لانتفخ به الغيظ حتى يعلو فوق الماء جزيرة جافة فلا يتندى ولا يرق ولا يعود إلا خلقة غيظ!
6
فليكن ما طاوع مني هو الذي يأبى، وما أحب هو الذي يبغض، ولتأت على الحب غابرة الدهر وآخرة الليالي
7
ولو ترامى بها غضبها إلى قتلي لوعة وكمدا!
لقد أصبحت أرى ألين العطف في أقسى الهجر، ولن أرضى بالأمر الذي ليس بالرضى، ولن يحسن عندي ما لا يحسن، ولن أطلب إلا في عصيان الحب! ... أريدها غضبى، فهذا جمال يلائم طبيعتي الشديدة، وحب يناسب كبريائي، ودع جرحي يترشش دما، فهذه لعمري قوة الجسم الذي ينبت ثمر العضل وشوك المخلب، وما هي بقوة فيك إن لم تقو أول شيء على الألم ...
أريدها لا تعرفني ولا أعرفها، لا من شيء إلا لأنها تعرفني وأعرفها ... تتكلم ساكنة وأرد عليها بسكوتي. صمت ضائع كالعبث ولكن له في القلبين عمل كلام طويل ...
أما والله ما أدري أحاجتي في حبها كانت إلى عزيمة أم إلى صبر أم نسيان أم خضوع؟
يا رواجف صدري! كل ذلك ليست منه فائدة ترجى، فإن حاجتي ألا أكون عرفتها من قبل!
ويا قلبي ، ما هي المعجزة التي يمكن أن تمنع الأمر الذي وقع بعد ما وقع ... •••
كلا كلا! ما ذهب الحب، وإن الذي يكذب حبه بإظهار غيظه من الحبيب ليكذبه الغيظ، وإذا انتهى أمر من الأمر وبقي في نفسك حيا فما انتهى.
كلا كلا! ما استوفيتك يا رسالة الغضب، فما أكثرك عندي فنونا، وما أوسعك معاني في نفسي.
كلا كلا! فلو أني كتبتك ملء ليل مظلم طال على محموم. ثم اطلعت هي عليك فأغضبتها ثم جاءت ... جاءت تسألني ... تسألني. أأنت كتبت هذه؟
آه، تالله إن أجبتها إلا؛ كلا كلا ...
ولست أطيل في زينتك يا رسالة الغضب، فإنك كالنعش: لا يزينه قوم إلا ولهم ميت! ... كلا كلا!
هدية شتم ...
نشرت مرة في بعض المجلات الفرنسية مقالا فهم منه القراء كلمات نبيلة، وفهم هو منه كلمات شتم فكتب هذه الرسالة:
1
في الحب يتكلم قلب المرأة العاشقة بمنطق فصيح من أعمالها، فأعمالها عندها على طريق اللغة والتعبير قبل أن تكون لعلة أخرى من العلل، فإذا أنت حملتها على ظاهرها وكنت المقصود بها فقد جزت بها عن طريقها وأخطأت سحرها وجمالها، بل تكون قد أهنتها، وابتذلت المعنى السامي المخبوء لك فيها ليكون لك وحدهك.
قد تشتمك من تحبها؛ لأنها تحبك وتعزك، ويأبى لها شعورها بكبرياء الحب إلا أن تنبذ لك بلفظة متكبرة وهي قد وثقت أنها تخصك منها بمعنى ما ... وقد تعرض عنك من دون الباقين؛ لأنك وحدك الآمر الناهي المتسلط عليها، فهي تخصك من إعراضها بهدية ... وقد تعالنك بأشد البغض، وتدع قلبك يشبهها لك مراغمة جافية متعسرة غليظة الكبد، لا من بغضة ولا جفاء ولا معاسرة ولا غلظة، بل من أنك أذللتها بهواك، فكل ما تشتمك به إنما تتأوه فيه ... والكلمة التي تفصل عن المرأة في مثل هذه الحالة من سرها المجروح: لا تراد لتكشف عن معنى يكون فيها، بل لتغطي على معنى يكون في غيرها ...
وهي كلمة وتاريخ وشعور في وقت معا ، وهي كالموجة: تحتها التيار وفوقها الريح، وشرحها وأسبابها في هذين لا فيها، تشتمك لتقول لك إني أعلم أني أحبك أحبك، فإياك أن تظن أني أحبك ... •••
وما أشبهها بالشمس وهذه المسبة منها كالغيم أثقله الماء فإذا الشعاع على قطراته رأيت فن الشمس لا فن الغيم، وإذا قوس قزح في سبعة ألوان جميلة زاهية يذوب بعضها في بعض تبرا ولجينا وجواهر شتى.
وكلمة الشتم من العدو تنزل من القلب منزلة الدمل يأكل موضعه ويتسع ليأكل مواضع أخرى، ولكنها من الحبيبة تضاف إلى دواعيها في القلب، فإذا هي كالورقة الجافة في شجرة خضراء ذوت هي ومنبتها حي، فما أسرع ما ترف في مكانها ورقة أخرى أزهى وأنضر. •••
الآن أذكر قولها إذ سألتني مرة: هل ترى قيمة الدينار في يد ملك أو أمير أكثر منها في يد مفلوك
2
أو صعلوك؟ وأذكر جوابي إذ أجبتها: إن الدينار في نفسه ملك يحكم الملوك والفقراء، فهذا من رعيته، وهذا من رعيته، وهو فوقهما فلا يعلو به من يعلو ولا ينزل به من ينزل، وكذلك دينار شتمها: هو على كل حال في يدي كما هو في يدها، ولو أنها جعلت قيمته في يوم غضبها مئة لعنة لما منعني ذلك أن أصرفه منها هي في يوم رضاها مئة قبلة! •••
أصحيح أن شتمها كلمة حب محترقة، وأنها عبارة ذات تأويل قبل أن تكون عملا ذا صراحة، وأنها من باب قول المرأة لمن تحبه: ابعد عني! إياك أن تصدقني وتبتعد ...!؟
ذلك صحيح لا ريب فيه، ولقد قالت لي مرة في أمر سبق إلى قلبي منه شيء فعاتبتها: إنها مسألة لا تهم.
فقلت لها: نعم لا تهم، ولكنها تدل ...!
فقالت: نعم تدل، ولكن معها الحب فلا تهم ولا تدل ...!
عندها أن الحب يغير كل شيء، وقد فهمنا من قبل أنه يغير المرأة المحبوبة في نظر محبها؛ لأنها زائدة على النساء رغباته وأوهامه، ويغير الرجل العاشق في نظر حبيبته إذ هو زائد على الناس إما برغباتها وإما بحمقه وجنونه وغفلته، ويغير الطبيعة في نظر العاشق؛ لأنها مع الحب لا ترى إلا زائدة لون النفس، والآن فهمنا أنه يغير الكلام أيضا إذا صار الكلام زائدا تفسير الحبيبة المتكلمة، وانضاف إلى ظاهره مكتمها.
وذلك صحيح؛ لأن هذه الشاعرة الفيلسوفة تشعرني في كلمتها الجافية بأثر من الرقة والظرف يدل على أن قلبها مر في بعض مواضع من مقالتها، وخفق على موضع وأن في موضع.
ذلك صحيح بلا ريب، والحب كالحرية: هذه تأتي أهلها بالثورة المدمرة وفيها أسباب من الحياة لها ما بعدها، وذاك يهدي الشتم وفيه أسباب من الدلال ولها ما بعدها!
يا صباحا أهدى الضبابة دكناء. فغطى الضياء منك
3
ظلالك أنت أهديتها، وأنت أذبت الطل منها، فتم منها جمالك ...!
متى يا حبيب القلب
ألا يا نسيم الفجر سلم على فجري
فقد غاب في الليل الطويل من الهجر
تضيء الليالي بالنجوم وبدرها
وليل الجفا من غير نجم ولا بدر
وقفت وماذا أستطيع بوقفتي
حسيرا، وأقدار الغرام بنا تجري؟
أدور بعيني نحو كل شعاعة
على الأفق في نجم، أو الأرض في زهر
فيا ويح قلبي! ما له حن كلما
تراءى له شبه انتسام على ثغر؟
متى يا حبيب القلب هجرك ينتهي
ومن أول الأيام فيه انتهى (صبري)؟
1 •••
ألا يا نسيم الفجر إن جزت في الربى
خفيا كتسليم الحبيبة في سر ...
وقامت عذاراها للقياك تنثني
دلالا وتيها في غلائلها الخضر ...
وفتح نوار الغصون جفونه
وفيها البقايا الناعسات من السحر ...
وأصبحت كالسلوى ترفرف نازلا
سلاما على قلب الغدير أو النهر ... ... فجئني بسر الزهر والماء والندى
لعلي بها أطفي جوى الحب في صدري
صلاة في المحراب الأخضر
شجراتي «ولما غضبت ويبس ما بينهما، ضاق بهجرها، فانصرف إلى شجرات كان يخلو إلى نفسه في ظلها ونضرتها ونسيمها وما فيها وما حولها، وظن أنها تنبت شيئا في جدب الهوى أو ترمي بظل على رمضاء القلب فكان في وهمه كالذي يحاول أن يجد نساء من الشجر ... وهناك كتب هذه الرسالة في الربيع، ثم التي بعدها في الشتاء».
لي صديقات من الشجر أعرفهن ويعرفنني منذ سنوات، وهن ينزلن مني بعض الأحيان منزلة الحب؛ لأن فيها شيئا من دلال النساء الخفرات أجد أثره في قلبي، ولا أجد برهانه في لساني، فإذا هممت أن أبين عنه وأبتغيه بالعبارة أخفته العبارة حتى لا يزيده البيان إلا غموضا وسوء معرض، ولكن إذا مضيت أفكر فيه تبينته أشد تبين فأحسست في ظلهن المستحي ونسيمهن المتنهد وغصونهن المنثنية - شمائل حبيبة إلى نفسي، ورأيت لها معاني لا تقع إلا في القلب، ثم لا تقع منه إلا في الموضع الذي مسته يوما نفحة أو قبلة أو تنهد.
وإنما قيمة الأشياء بما فيها من أثر القلب أو بما لها في القلب من الأثر، ولرب شيء تافه لا خطر له ولا غناء فيه، ثم يكون في يد محب من حبيبه النائي أو الممتنع الهاجر فإذا هو قد تحول بموقعه من القلب إلى غير حقيقته، فأطلعه الهوى من مطلع آخر ليس في الطبيعة، فيرتفع ثم يرتفع، حتى كأنه عند صاحبه ليس شيئا في الدنيا بل الدنيا شيء فيه، ويكون ما هو كائن، ومع ذلك تنبعث منه روح ذات جلال أقل ما فيه أنه فوق الجلال الإنساني.
هذه صغائر الحياة متى خالطها أثر القلب أصبحت في الحياة أكبر كبائرها، كأن قلب كل إنسان هو النقطة المحدودة له من الكون، والكون كله مبعثر من حوله، فلا بداية لشيء ولا نهاية لشيء، ولا قرب ولا بعد، ولا صغر ولا كبر، ما يكن له قياس إلى القلب، والحب قدرة إنسان على قلب إنسان فهو من ثم قدرة على الكون المتصل بالعاشق، وهو بهذه القدرة أشبه بألوهية لو ساغ في الظن أن توجد ألوهية عاجزة عن كل شيء، إلا عن التصرف في مخلوق واحد، وهو بكل ذلك إما حقيقة كبرى وإما سخرية كبرى. •••
تقوم شجراتي على مسيل من الماء في قاصية بعيدة عن المدينة، وتراهن فوق الماء صفا إحداهن إلى إحداهن كأن هناك بقعة من الجنة قامت فيها قصور الزمرد على طريق أرضها من الفضة البيضاء المجلوة.
وأراهن كل سنة يتجردن من الأوراق؛ ليكتسين أوراقا مثلها لا تخلفها في شيء من الهيئة، ولا تباينها في معنى الطبيعة، ولكن بين ما يخلعن وما يلبسن تزيد فيهن الحياة، وتشب الروح، وتتجدد القوة فتلقي الشجرة أوراقها، وتستقبل الشتاء مقشعرة جرداء؛ لتظهر في الربيع كاسية: جميلة جديدة في حسنها، تتبرج بروحها قبل ثيابها، كالحسناء الفاتنة أو ما يتحرك في دمها الحب ...
كذلك لا تتبرج الروح إلا خارجة من شقاء أو مقبلة على شقاء، وما أشبه الحب في الناس بهذا الربيع في الشجر: هو الطريق الأخضر يمتد إما إلى الجدب واليبس والألم، وإما إلى غاية منسية مهملة في الجفاء أو السلوة!
وذهبت في ضحوة النهار إلى صديقاتي أحييهن كعهدي بين حين وحين، وما أكرمه عهدا لمن لا يختلفن من ملل، ولا يتغيرن من كذب، ولا يتبدلن من خيانة، فلما جئتهن تحفين بي وتناولني قلبي يمسحنه ويتحببن إليه، وأقبلن يغازلنه، ويأخذن فيه مأخذ من تحب فيمن يحبها، حتى لم أشعر منه إلا ما أشعر من زهرة فيها أرجها العاطر، أو ثمرة فيها ماؤها الحلو، أو نبتة فيها لونها الأخضر ... ... ونبهن فيه برفقهن هذه القوة المتواضعة المظلومة التي تتوجه بالإنسان إلى ربه فتكون عبادة، وإلى الناس فتكون رحمة، وإلى «بعض الناس» فتكون الحب، فإني لتحت ظلالهن الوارفة، وكأنني من السموت تحت أجنحة الملائكة، وإني لمع أغصانهن النضرة وكأني من السرور أداعب أطفالا صغارا تبسم لي، وإني لبين أنفاسهن وكأني من النشوة مع الخيال الذي أتخيل ...
تجلت علي القوة التي تحول الشعاع إلى ظل، والهواء إلى نسيم، والزمن إلى ربيع، والنظر إلى حب، فكنت في الشجر الصامت شجرة متكلمة، وانسللت من طبيعة إلى طبيعة غيرها، ووقفت بين عفو الله وعافيته في هذا المحراب الأخضر؛ ومن قلبي المتألم أرسلت إلى السماء هذه التسابيح ذاهبة مع تغريد الطير. •••
يا من غرسني في الحياة كهذا الغراس بين الماء والنور، ولكنه جعل جذوري كلها مستقرة مثله في الطين!
يا من لا يؤتيني معنى شريفا ساميا على هذه الأرض إلا إذا عرفت بإزائه معنى وضيعا سافلا، ولا ينضج ثماري ويحليها إلا بعد أن تنبت فجة مرة لا تذاق!
يا من خلقني إنسانا، ولكنه قضى علي أن أقطع الحياة كلها أتعلم كيف أكون إنسانا، كالبذرة: تقضي عمرها في إخراج شجرتها ونموها حتى إذا اكتملت الشجرة قطعت لأغراض أخرى غير التي من أجلها نبتت.
يا من وهب عبادة العقل بين هذه النواميس التي لا تعقل، حتى لا يتم أبدا عقل إنسان، ولا تكمل أبدا حكمة حكيم، فيظل باب الخطإ مفتوحا لأكبر العقول وأصغرها، وتكون الحيرة قاعدة من قواعد العقل؛ ليخرج من ذلك أن يكون التسليم قاعدة من قواعد القلب!
يا من جعل في شفائنا بالعلم داء آخر من العلم، حتى لا يرتفع المضر من الأرض ولو صار أهل الأرض كلهم علماء!
يا من جعل الناس في الحياة كأوراق الشجر، من اليابسة التي تتقصف إلى جانب الخضراء التي ترف، ثم إذا الناس جميعا كالأوراق جميعا. يبست فارفتت
1
فطارت بها الريح تذروها فلا يعلم مستقرها ومستودعها إلا هو!
ويا من خصني بهذا القلب العاشق الذي يتألم ويضطرب حتى عندما ألمس كتابا أعرف أن فيه قصة حب، وهو مع ذلك يتكبر على كل آلامه ولا يخضع أبدا إلا جوابا على خضوع آخر، فكأنه لا يدنيني ممن أحبهم إلا لأعرف ما أكرهه فيهم، وكأنه من فرط رقته آلة إحساس جامدة لا قلب حي.
ويا من جعل هذا القلب في كجناح الطائر: لا يطير ولا يرتفع ولا يسمو ولا يتقاذف إلا إذا نشر هو وجناحه الآخر، فلا أبحث عن الحب لأجد الحبيبة وجمالها وحبها، بل قوتي وسموي وكبريائي.
يا إلهي! تقدست وتباركت! إني لا أنكر حكمة آلامي، فما أنا إلا كالنجم: إن يسخط فليسخط ما شاء إلا ظلمة ليله التي تشب لونه
2
وتجلوه، ولولاها لما رأت الأعين شعاعة تلمع فيه.
لم تعطني يا رب ما أشتهي كما أشتهيه ولا بمقدار مني، وجعلت حظي من آمالي الواسعة كالمصباح في مطلعه من النجوم التي لا عدد لها ولكن سبحانك اللهم، لك الحمد بقدر ما لم تعط وما أعطيت، لك الحمد أن هديتني إلى الحكمة، وجعلتني أرى أن المصباح الضئيل الذي يضيء جوانب بيتي هو أكثر نورا في داخل البيت من كل النجوم التي ترى على السطح وإن ملأت الفضاء!
سبحانك اللهم! إن هذا الشجر ليتجرد ويذوي ثم لا يمنع ذلك أن يكون حيا يتماسك ويشب، وإنه ليخضر ويورق، ثم لا يعصمه ذلك أن يعود إلى تجرده ويبسه، فما السعادة أن نجد الزينة الطارئة، ولا الشقاء أن نفقدها، وما الشجرة إلا حكمة منك لعبادك تعلمهم أن الحياة والسعادة والقوة ليست على الأرض إلا في شيء واحد، هو نضرة القلب!
سبحانك! إن الساخط على الحياة والحياة منك، ليس إلا كورقة في شجرة قد بدا لها، فسخطت شجرتها وعملها ونظامها ولونها، فانتزعت نفسها، وهوت في التراب؛ لتخلق أوهامها، وتخرج من نفسها على ما تحب شجرة جمال ولون وثمر، فإذا هي أهون على الأرض والسماء من أن تكون إلا ورقة يابسة قد هلكت حمقاء، وارفتت رغما وهوانا، وضاعت فيما يضيع!
سبحانك سبحانك! اللهم لا تجعل ما يرفعني يقذفني، ولا ما يمسكني يرميني، ولا ما ينضرني يجفو بي! •••
ولما فرغت من ابتهالي، اتكأت إلى حبيبة منهن، وجعلت أفكر وأنا أحس كأن كل شجرة تضع قبلة ندية على قلبي، أو كأن غصنا مطلولا ينفض طل الصباح قطرات في دمي.
وسألت نفسي: لم لا يكتسي الشجر كل عام جنسا من الورق، فإذا اخضر هذا العام احمر من قابل، ثم يصفر في الذي بعده، ثم يكتسي من الوشي الأزرق في الذي يتلوه، ثم يطلع في الديباج الأسود، وهلم إلى عدد الألوان خالصة أو متمازجة؟
أذلك لأن الطبيعة عاجزة عن التفنن، أم لأنها شحيحة مقتصدة؟ أم لأن تركيب العالم قائم على أن تبقى الحقيقة كما هي لا تتغير؟ أم لأن كل شيء يستمر على وتيرة واحدة؛ ليظهر جانبا معينا من حكمة الله؟ فينشئ جانبا معينا من ذوق الإنسان وفكره، أم العالم كله كلمات صريحة تقول لهذا الإنسان: إنك أنت وحدك المتقلب المتلون ...؟ •••
ثم مددت يدي فهصرت غصنا من تلك الأماليد الناعمة اللينة، فإذا هو ريان تجد مس الماء في قلبه، ولكنه أقبل في يدي بعد قليل على الموت، وأنشأ يذوي مضمحلا، فجعلت أتأمله فلم أر جزعا ولا خورا ولا إشفاقا من أمر يأتي ولا حنينا إلى شيء مضى، فعلمت أن القوة كل القوة ألا يجزع الحي فإذا هو لم يجزع يجبن، وإذا أمن الجبن لم يستذله شيء، ولم يكن الشقاء في رأيه شقاء بل مصادمة بالحياة لبعض نواميس الحياة، ومضى كما هو جزءا على وضعه من الكل الذي هو فيه، فتساوق مع الكل وبقوة هذا الكل، فأمن المنافرة، واتقى على نفسه آلامها، فإن لم ينعم بشيء فقد نعم بأنه راض مطمئن، وما في المهنا أكثر من الرضا!
قال لي ذلك الغصن الأملد، وهو يموت في يدي ويعالج سكراته: أيها الإنسان الضعيف! هأنت ذا تراني رؤية عين، وتعرف بي سرعة انقطاع الحياة، وتستيقن مني أن ما يجيء بطيئا يذهب حين يذهب سريعا، وأن طرفة عين من ساعة الموت تمسح السنين الطويلة والعمر المتقادم، وتقفل الباب على هذا العالم كله، فكن غصنا في شجرة الحياة، ولكن اعلم مثلي أن الشجرة لا تعرفك مثبتا فيها بالمسامير، ولا مشدودا إليها بقوة أزلية: فلك منها المنبت على أن تكون قابلا للكسر، ولك منها الزينة على أن تكون قابلا للتجرد، وإنما أنت فيها كما أنت؛ لتظهر فيك حقيقتها كما هي، فليس لك أنت حقيقة.
أيها الإنسان! إن للشجرة تماثيل يرفعها الله في كل مكان يوجد الإنسان فيه؛ لتقول له: كن دائما ذا فروع؛ لتظلل بأبنائك موضعك من التاريخ، كريما في حياتك تعطي مما تأخذ، كن طاهرا تعرف كيف تستمد من كل شيء شيئا واحدا يعيش عليك، كن مع جنسك مختلف الظاهر على جرثومتك وموضعك؛ فذو ثمر أو زهر أو شوك - ولكن ابق في داخلك وعنصرك مع غيرك من الناس على قانون واحد. •••
يا شجراتي! ما أنتن إلا من بعض صور الحب، ولكن حبكن من النعمة والعافية؛ إذ لا تنتهي في النفس معاني شهواتها، بل معاني لذاتها فقط ...
أنتن المثل الهنيء الذي لا بؤس فيه ولا حظ، كالمعبد الذي تحمل إليه الآلام والأوجاع؛ لتنسى فيه هنيهة من الزمن، ولهذا يقبل عليكن الحكماء وأهل النفوس الحاسة والطباع الرقيقة، يأتون بالأنفس الذابلة والقلوب المتوهجة في ضعفة وسأم؛ ليرجعوا في هذه وهذه باللون الأخضر، وبروح النسيم في قوة وعزيمة. •••
لا بؤس ولا حظ في القاعدة المطردة التي تجري على وتيرة واحدة، ولكن حين تختار الحكمة الإلهية شخصا بعينه؛ لتجري عليه حكم الشاذ من القاعدة، وتهيئ له الأحوال الشاذة، فهناك إما حقيقة البؤس وإما حقيقة الحظ، وما أصل الهم والشقاء في الناس إلا أن كل إنسان يتمنى لنفسه أن يشذ من قاعدة ما ...!
شجرات الشتاء
يممتهن اليوم فإذا هن ذابلات عليهن الضحى عريانا، وكن من ورقهن في حلل الظل، وفيهن انكسار ذي العارية، وكان يتجمل بعاريته، ثم ردها فما يتوارى إلا من الأعين التي كان يتعرض لها من قبل ... ويحس كأنه أصبح لحنا من خطأ فاحش في لغة النعمة واليسار، لا يكاد يظهر نفسه إلا قيل له: يا غلطة تحتاج إلى من يصححها ...
ورأيتهن واقفات في مثل ذلك الحزن النسائي الغرامي الذي يخلط المرارة في حلاوة المرأة الجميلة فتبدي عن عاطفة مسكينة لا يصورها لك إلا أن ... أن تتخيل جزع لؤلؤة تخشى أن تتحول إلى حصاة.
ذليلات ذليلات كأنهن مطلقات الربيع ...! •••
وقالت لي صديقة منهن: لقد كنت في جانب منا، أفمنحرف أنت إلى الجانب الآخر؟ وكان لك فينا من رأي الحب ما يكسونا مع كسوتنا، أفيكون لك من رأي البغض ما يجردنا مع كسوتنا، أفيكون لك من رأي البغض ما يجردنا مع تجريدنا؟ أم ستقول: طاووس انسل ريشه الجميل فرده القبح دجاجة، وشجرة سلبت زينتها فعادت كأن لم يخلقها الله، ولكن أقامها النجار ... أما أنت رادنا إلى المسخ فمجر علينا حكم الرجل على المرأة: متى قبحت في عينه قبحت في قلبه؛ إذ لا يطلب إلا معنى فيها تحت الرونق لمعنى فيه هو تحت الدم، فإذا هي لم تعد من إيمانه ... كفى ذلك وحده أن يجعلها من كفره ...
أظالمني أنت فتعرف لي ذلا بعد عزة، وتصف لي خضوعا بعد كبرياء، ولا تضع بإزائي في ميزان قلبك إلا المعاني الثقيلة التي تلقيها تزن بها ما تكره؛ لكي تملأ نفسك منه بغضا وكراهة؟ •••
كلا يا صديقتي! إنما تتحولين لأجد منك معنى جديدا في نفسي. فكأنك تخرجين مني رجلا في الربيع ورجلا في الشتاء، وكأني أعرف بك كيف أتحول في بعض معاني الحياة من نسيم إلى عاصفة. أنت كالحبيبة المخلصة حين تبالغ في إصفاء الود، فتمتنع وتهجر لتهب محبها الفكر في جمالها كما وهبته النعمة بجمالها، فيصيب اللذة ومعناها، ثم يجد الشوق الذي يضاعف معناها. فإني رأيت الذي لا يفكر في معاني الجمال حين يمتنع ويبعد، لا يدرك كل معانيه حين يمكن ويدنو.
ومن امتلأ من فقد السرور، كان حقيقا أن يكون هو الذي يمتلئ من وجوده، فاللذة لذة واحدة بنفسها، ولكنها تتعدد بموقعها وبحالتها، وبمقدار فهمها، وبقوة الشوق إليها، وما أشبه النفس في هذا المعنى بقصر العروس. إن لم تتقدم العروس معانيها فتزين القصر وتزخرفه وتكسوه، وتجعل في كل مكان منه جمالا يومئ إليها، وزينة تشاكلها، وحسنا يتمها أو يفسر منها - لم تكن العروس على القصر إلا أرملة ...
كلا يا شجراتي، فلست ظالما فأجري عليكن حكم المرأة في شتاء حبها، فإن المرأة متى بردت ... ظهرت كالسحب الثقيلة المطبقة بأرجائها السوداء: لها في سمائها لون الوحل قبل أن تستوحل بها الأرض ... وبها من الظلمة ملء ليل طويل يموت فيه النهار الطالع وشمسه معا، ويكلح بها وجه الحب، ويبرد ويظلم؛ لتكون في بلائها مادة إنسانية تقع منها صاعقة ...!
آه لو أن شجرة لم تحمل كل أغصانها إلا من قشور الثمر المطروحة في الطريق؛ لكانت هذه المرأة أسخف منها، ولو أن شجرة حين أورقت لم تورق من جذعها إلى بواسقها وأعاليها إلا بأجنحة الذباب ... ليتقذرها صاحبها، لأشبهتها هذه المرأة!
كلا يا شجراتي، فقد ذهب ربيعي مثلكن، ولم يكن ربيعا في قلبي، فسأقضي شتائي، وأنتظر أنا وجذوري. إنه عهد ليس أشقى منه لوعة، ولا أسعد منه ذكرى إذا جعلنا نحن إلى حياة ليست في حياتنا، بل ذهبت عنا بحبيب نأى أو حبيب هجر. •••
عجبا! ماذا يحدث في الحياة من هنات وهنات؟ تمرض الشجرة فصلا من سنتها، وتشرف على الموت فصلا آخر،
1
ثم يطير فيها لهب الشمس فإذا هي تغلي بالشعاع، وعليها ضبابة خضراء من غليان ألوان الشمس في جوفها،
2
فليس من جمال إلا وبعض مادته في أصلها من القبح كما ترى، يظهر لك في الطبيعة الجميلة؛ لأنها عدوة التصنع، ويخفى في النساء الجميلات؛ لأنهن عدوات الطبع، حتى أجمل ما في المرأة الجميلة، لا تراه بعيدا من أقبح ما فيها حتى دلال المرأة التي تحبها، فهو بعينها لو حققت، هو معنى ظريف رقيق من ... من ... من وقاحتها ... •••
أين الجزاء المسكر في الكأس إلا مع غير المسكر فيها؟ وأين المرأة الجميلة إلا مع مكروهاتها يغرك منها ما يغر؟
لهفى لأشجار المحبة
مر فصل ربيعها
جد الهوى في عرسها
ليجد في تقطيعها ...! •••
كل الفتوق لها الرقاع
ترم من تصديعها
وإذا تمزقت المحبة
حرت في تريقعها ...!
رسالة الطيف1
ألم بي طيفها بالأمس، فاقتحم بناء النسيان الذي رفعته بيني وبينها، وألقيت كبريائي في أساسه حتى لا يرجف ولا يتصدع، وأعليته بهمومي منها، وشددته بعزائمي وثقتي، وجعلته بإزائها كالمعبد من الزنديق: إن يكن لا يسخر من ذلك إلا هذا فما يلعن هذا إلا في ذاك ...!
ولم ينكشف الليل حتى رأيت معبدي أطلالا دارسة قد خلعتها روح السماء فلبستها روح الأرض، فتحول كما يتحول الزاهد في سمته ووقاره وتعففه إلى الشحاذ في تبذله وحرصه وإلحافه وتصدع فنونا، وتبدل أشكالا، وسرى طيفها في نيتي مسرى الزلزلة الراجفة في بقعتها من أرضها: تشق في الأرض والصخر والجبل ما يشق المقراض في سرقة من الحرير
2
بل أسرع وأقطع وأمضى، ولو حدث بعد الذي فعل طيفها أن مدفعا من المدافع ألقى ظله على الأرض فانفجرت من ظله القنابل تخرب وتدمر وتأتي على ما تناله والمدفع ذاته قار ساكت - لقلت عسى ولعله، وأمر قريب، ولعل المدفع كان امرأة. •••
ولكن تحت أطلال نسياني، وما تخرب من عزيمتي ... انكشف لي كنز من الخيال دخلته وملكته، ولم أر فيه الدر والجوهر والماس والياقوت في جسم الأرض؛ بل رأيت فيه الحبيبة تسطع من جسمها البديع، حقائق كل هذه الجواهر الكريمة، حتى لكأنها والله في غرابة الحلم حسناء من در وماس وجوهر وأشعة تتلألأ، وما شئت أن أرى صفاء ولا جمالا ولا حسنا ولا فتنة إلا رأيت فيها.
ولكم كنت أتخيل إذ أجلس معها وأقلب عيني في محاسنها ومفاتنا - أن أظافرها المصقولة الملتمعة إن هي إلا لؤلؤ من جوهر جسمها، وأن الحلي على هذا الجسم الجميل إن هو إلا شعل تتوهج من ضوء لحمها، وتورد دمها لا من ذهبها وجوهرها.
غير أني في كنز الخيال رأيت ذلك هو الحقيقة بعينها، وعلمت أنه لمعنى جميل تنجذب الحسان إلى الحلي والجوهر؛ إذ كانت من طبيعة أجسامهن.
طيف جاء الروح المهجورة بالحبيبة، فاستنشتها كأنما هي نسمة طائفة على روضة من الورود؛ ومر بروحي التي جفتها هي وجرحتها مرورا أنعم من لمس الشفة للشفة، وغمرها بمحاسن تملؤها ذوقا وطيبا، وتحول هو معها روح قبلة مشتهاة على انتظار طويل، ففيه مسها ولذتها وحلاوتها.
وفي الحلم يتجلى الحبيب لمحبه كما هو داخل في نظام عقله، وكما هو مستقر في أمانيه؛ فيكون على ذلك كأنه من خلق النفس وتصويرها، فتفتن به أشد الفتنة، وكأنها لم تر معانيه في أحد قط ولا فيه هو نفسه، ومن هذا قلما ناجى الحبيب حبيبه في رؤياه، أو طارحه الهوى أو الحديث، أو نوله مما يشتهي إلا انتبه المحب، وكأنه لم يلم به من هذا كله شيء؛ بل ذاب هذا كله في دمه حلاوة روح لها طعم ومذاق! •••
يا للرحمة من طيف يعذب العاشق بالرحمة ... إذ ينقل الحبيب كله إلا الحبيب نفسه ... ويحقق للمحب أمانيه إلا بهذه الأماني ... ويخيم على ظلمة الصد بألوان من نهار يموت قبل النهار ... وفي عالم معذب من الهواجس والخيالات العاشقة المستلبة إرادتها، ينصب عالم نعيم من الهواجس والخيالات المعشوقة مستلب الإرادة أيضا، فكأنها سخرية النفس من جنون صاحبها ... يا للرحمة ...! •••
وتحت أطلال نسياني، وما تخرب من عزيمتي ... ظفرت بمقصورة كأنها من مقاصير الجنة لها جو عبق نافج مليء من الإحساس الخالد والشعور الطروب، كما ملئ بالأسرار والألغاز، ترف عليه معاني الضحكات والنظرات والابتسامات: تمازجه تعابير الصوت والموسيقى والثياب الحريرية والروائح العطرة، يسبح في كل ذلك جلال الحب وجمال المحبوب وروحي العاشقة!
وارتفعت حقيقتنا كلينا إلى عالم من الكنايات والمجازات والاستعارات، فكان الحب ثمة يتخذ شكله السماوي فيتسع بالإدراك في كل شيء؛ إذ يجعل الحاسية كأنها من حواس الخلود، فلا نهاية لمسرة تتصل بها، ولا نهاية للذة تخالطها، ومن ذلك لا نهاية لأفراح قلبي في الحلم ...
وكانت هي كل تقاسيمها تعبيرات معنوية، حتى لكأنها صورة متجسمة من أوصاف بارعة في الحب والجمال خصصت بعلمها أنا وحدي؛ إذ لا يمكن أن يهتدي إليها إلا فيها وحدي، وكنت مع طيفها كأني ملقى في حالة من حالات الوحي لا في ساعة من ساعات الكرى.
ورأيت حبا رائعا معبودا أشعرني إذ ملكته في تلك الخطرات أن الإنسان قد يملك من الجنة نفسها ملكا وهو على الأرض في دار الشقاء إذا هو احتوى بين ذراعيه من يهواه! •••
وقالت نفسها لنفسي: هلمي يا حبيبتي في غفلة هذين العقلين العدوين نهدم عليهما المنطق الذي يعذبنا بأقيسته وقضاياه، وإنما نحن روحان فوق الأقيسة والقضايا.
هلمي إلى حكم الحب في رقدة الفلسفة العنيدة القائمة بصاحبينا قيام محكمة بقاضيين جاهلين معا مكابرين معا، فلا يرى كلاهما إلا أن صاحبه هو الجاهل، وبذلك تتضاعف البلية منهما متى حكما!
هلمي، من وراء هذين المتغاضبين إلى شريعة الرضا، فليست إحدانا من الأخرى إلا كالصدى يجيب على الكلمة بالكلمة نفسها؛ إذ ليست إحدانا إلا الأخرى.
هلمي، فما منا إلا من ضاقت وأعيت بحمق هذين الأحمقين، أحدهما من أحدهما كالصخرة التي تريد أن تبتلع الجبل وهي قطعة منه!
هلمي نتكاشف بالابتسامتين المخبوءتين تحت عبوسهما: الكاذب المنافق، فإن كذب العبوس متى لبس وجه الممثل والممثلة ... لم يعد نهاية فيهما بل في الرواية، ورواية هذين هي رواية العناد والتعنت التي تمتد من نفسها؛ لأن كل كلمة فيها إنما هي بين متقاذفين، فلا ترمي إلا ارتدت، ثم لا ترتد إلا لتعود فترمي ...
هلمي يا حبيبتي، فإننا تحت هذا الليل نهار مع نهار في عالم بعيد عن الأشياء، وبعيد حتى عنهما ...
هلمي، فإننا الآن في جسدين روحيين لا تحدنا الحدود، وهذان الجسدان النائمان هما هم التراب الذي كنا فيه، وهما قذى المادة، وهما الخصمان، لا نحن، فهلمي يا حبيبتي ... •••
وقالت نفسي لنفسها: وهلمي يا حبيبتي، فاجعليني في روح شبابك الذي ألبسني الضنى على أنه لو نقل إلى الأجسام لأحيا الموتى.
هلمي فضعيني في أشعة الخلود من نظرات الرضا التي في عينيك؛ لأقوى على هذا الفناء الماحق من هجرك، فإن قربك ليس قربا بل هو إعطاء، وبعدك ليس بعدا بل هو سلب!
هلمي فارفعيني بقوة منك على قوتك الأخرى التي تهلكني بالخضوع والصبر.
هلمي فلنصالح بين الكلمة ومعناها، فإن هجرك هذا فرق بين ألفاظ الحب وأرواحها، فمسخها كما هي في كلام، وأنا أريدها كما هي في الحياة، وهل تحيا كلمة القبلة في القاموس أم في شفتيك؟
هلمي يا حبيبتي، نرتفع فوق دنيا الحزن والألم ولو ساعة ليست في ليل ولا في نهار، بل في وفيك: ساعة ليس فيها ستون دقيقة في كل دقيقة ستون ثانية، بل فيها ستون عناقا في كل عناق ستون قبلة، فهلمي يا حبيبتي ... •••
عاد الحب أكبر من كلمة، ورجع الرضا أكثر من ابتسام الشفتين، وصارت الأذرع حدودا
3
بعد أن كانت على فضاء وفراغ، وحيا طيفها وسلم.
حيا وسلم ثم صافح تاركا
يده على الكبد التي أدماها
وأتى ليعتذر الغزال، ولجلجت
كلمات فيه،
4
ففي فمي أخفاها
ودنا ليغترف الهوى، فتهالكت
أسراره، فرمت به فرماها ...
قلب الحبيب متى تكلم لم تجد
كلما، ولكن أذرعا وشفاها ... •••
وانتهى حلم الصلح لتوه لحظة شعرت أنه ابتدأ ... فلم يكن هذا الحلم إلا «عملية» حب جراحية مؤلمة في القلب الذي كاد يبرأ وينسى ...
كانما طفئت من الهجر مكواة كانت محماة على كبدي، فجاء طيفها بما معه؛ ليضع مكواة غيرها ...!
وأصبحت - والله - أعتقد أن الشيطان لي خلق مضاعفا لما خلق إلا امرأة معشوقة ...!
في العتاب
«وكتب إليها مرة كتاب هوى، فتفترت في الرد عليه تريد أن يطول به الانتظار فيؤلمه، أو تريد أن تزيد به الشوق فيؤلمه، أو كأنها تطمعه بألا تطمعه ليتألم»!
فلما انتهى فيه دلالها إلى الضجر، كتب إليها هذه الرسالة يؤلمها بها، وجعلها على طريقة السجع التي كان يتراسل بها فحول الكتاب في القرن الرابع للهجرة وما بعده؛ لأنها هي تكره هذه الطريقة، وتجد لها ألما في نفسها، ولذلك مضى بها مسجوعة إلى آخرها؛ ليبالغ في إيلامها، والتهكم بها وبلفسفتها، وردت في الرسائل بكل ذلك إرادته على إرادتها، وهذه هي الرسالة»:
1
كتبت إليك من أيام يشفع لها قربك من نفسي فلا أقول إنها بعيدة وتمر قديمة، ولكن ما في النفس منها ومن آلامها يجعلها دائما جديدة وكأنها تجري بي إلى الفناء فهي تطول إلى غير حد، وتأخذ معنى اليأس الذي يمضي به الأمس فتلقي به في معنى الأمل الذي يأتي به الغد، والأيام تعد بالأرقام، ولكنك أنت جعلت هذه الأيام تعد بأنها لا تعد ...
وانتظرت رد كتابي، أو ورقة من شجرة عتابي، فما زالت تتقطع الساعة من الساعة، ويلتقي اليوم باليوم، ويذهب اللوم إلى العتاب، ويجيء العتاب إلى اللوم، وكتابك على ذلك كأنه مغمى عليه لا هو في يقظة ولا هو في نوم ...
فسبحان من علم آدم الأسماء كلها لينطق بها، وعلمك أنت من دون أبنائه وبناته السكوت ...، والسلام عليك في أزلية جفائك التي لا تنتهي. أما أنا فالسلام علي يوم ولدت ويوم أموت!
ما هذا يا سيدتي، وليس خيط عمري في إبرتك، ولا ما يتمزق من أيامي تصلحه «ماكينة الخياطة» بقدرتك، وإن كنت أنا أقل من (أنا) فلست أنت بأكثر من (أنت)، وما علمنا أنك مع القدر تحركت، ولا مع القدر سكنت!
أتحسبينك لما خفت (المحاكم)، في قتلي جعلت تقتلين بهجرك أيامي، ولما عرفت أنك من أشد سروري أردت أن أعرف كذلك أنك من أشد آلامي؟ أم أنت في نورك وظلامك تريدين أن تنقصي من الأعمار، كما ينقص منها الليل والنهار؟ أم تحسبيننا خلقنا بهذه الرقة؛ لنعرف بها كيف يتحجر قلبك ويجمد، وأنبتنا الله في مزرعة العمر؛ ليجيئنا منك صاحب المزرعة فيحصد؟ أم أنت خلقت في يد الله إرادة ماضية وخلقنا عليك اتكالا، وجئنا على الطاعة شكلا واحدا وجئت أنت من يد الله في الكبرياء أشكالا ...؟
فإن كان قلبك يا سيدتي غير القلوب فما نحن شيئا غير الناس، وإن كنت هندسة وحدها في بناء الحب فما خلقت أعمارنا في هندستك للقياس، وهبي قلبك خلق «مربعا» أفلا يسعنا «ضلع» من أضلاعه، أو «مدورا» أفلا يمسكنا «محيطه» في «نقطة» من انخفاضه أو ارتفاعه، وهبيه «مثلثا» فاجعلينا منه بقية في «الزاوية» أو «مستطيلا» فدعينا نمتد معه ولو إلى ناحية ...!
ما بال كتابنا يمضي «سؤالا» من القلب فيبقى عندك بلا «جواب» و«نبنيه» نحن على «حركة» قلوبنا فتجعلينه أنت «مبنيا على السكون» ثم «لا محل له من الإعراب» ... وما بالنا نقطع في انتظار الرد مسافة من هجرك لو طار فيها البريد؛ لانتهى بكتب الحسنات والسيئات إلى السماء، ولو طاف الأرض؛ لتقدم حتى لا يبقى في الأرض أمام، وتأخر حتى لا يبقى من الأرض وراء، فإن كنت تضنين أن توجهي إلينا من عرشك خطابا، أو تنزلي علينا من سمائك كتابا، فقد أقفل باب النبوة من قبلنا فما هذا الباب، واحتجب الوحي من زمن بعيد، فيا سيدتي ما هذا الحجاب؟
لعلك تخشين إذا جاءني كتابك الكريم أن يزعم الناس أن «جبريل» أصبح في الأرض من سعاة البريد، وأن السماء عادت تشرع لأهل الأرض فجاءت فلانا من فلانة بكتاب جديد، ... أم لعلك تخافين إن تحرك في يدك القلم الأعلى أن يتحرك به القدر العاجل فلا يحتمل التأجيل، ثم يجيئني كتابك فتقوم قيامة العالم المسيحي؛ لأن هذا الكتاب صفحة ناقصة من الأناجيل ... .
2 •••
لقد هممت أن أعاقب القلم الذي كتبت به إليك فأحطم سنه، وأجعله من ناحيتي في خبر (كان) حتى لا يبقى من ناحيتك في خبر (إنه)، وقلت: كف - ويحك - سودت وجه صحيفتي بما هو في سواده مداد مع المداد، وفي نفسه سواد أقبح من السواد؟ فقال: وهل أنا في (نغمات) حبك إلا «عود»، وهل صورت إلا حركات وجدك من قيام وقعود، وسل الدواة من أمدها، والصحيفة من أعدها، وسل أناملك كيف كانت تضغط علي كأنها تسلم على الحبيبة سلاما، ولا تخط إليها كلاما، وسل نفسك كيف كانت في حركتي تضطرب، وقلبك كيف كان من كلمة يبتعد وفي كلمة يقترب؟
فما ندري يا سيدتي وقد أحببناك أنعدك في ذنوب الزمان أم في أعذاره، وهل نأخذك في الحب من وقائعه أم في الجفاء من أخباره؟ فإن أبيت أن تكوني منا إلا كالسماء من أرضها، وأن نكون منك إلا كالسنة من فرضها، وأبيت وأنت «مفرد» الحسن إلا أن نعدك أنت وكبرياءك «مثنى» بألف ونون، وإلا أن تكوني على غير ما نريده، ثم لا نكون إلا كما أردت أن نكون، فإذا خاطبناك قلنا يا فلانتان ... ويا أيتها الحبيبتان، ويا غضباوان وراضيتان، وأنشدنا في هواك: «ولو كان هما واحدا ... ولكنه هم وثان ...»
3
وإن أبيت إلا ما نأبى، ولم ترضي مع صدقنا في حبك إلا كذبا، قلنا لك بلغة اليأس منك: لشد ما أصاب الزمان فينا وأخطأ، فليصب بك أو فليخطئ، وكثيرا ما أعطانا الدهر وأخذ، فلتكوني فيما يأخذ أو يعطي، ونقول: مع الذكر نسيان، وما عسى أن ينقص العالم بإنسانة أو إنسان، ومن ظن «بصرفنا» عن نفسه أنه كبير، جعلناه من «نحونا» في باب «التصغير»، ومثلنا لا يتكلم إلا بفائدة، ولا يسكت إلا بفائدة. فإن أخطأنا معك في واحدة أصلحناها واحدة، وما أكثر ما يجد الكاتب إذا عز عليه أن يعاتب، وفي ذكائك لا محالة، بقية الرسالة.
ولعلنا ولعلك ... والسلام!
في الأحلام
نصبت لي في الكرى حباله
اصطاد صيدا من الصور
رأيت جسمي انتهى لحاله
تضيء كالشمس والقمر •••
فطرت في النور أجتليه
محاسنا تملأ السما
ولا ضوء بلا شبيه
إلا حبيبي تبسما
فقلت: هل بي يا قلب فيه
لعلني أطفئ الظما •••
ناجيت قلبي بذي المقاله
فدمدم الأفق بالشرر
صرخت: ما للفضاء ما له
فقال: في قلبك الخطر •••
يا أفق هل خفت من شراره
تحت الضلوع اسمها الفؤاد
أم سعر الهجر فيك ناره
توقد من يابس الوداد ...
أم يوم حب قضى نهاره
وحل من بعد السواد ...؟ •••
فقال: وجه نرى خياله
في قلبك الحامل الضرر
ارجع فلو أن ذي «الغزاله»
تغازل النجم لانفجر
في معاني التنهدات1
تسكن قلبي رغبة ما أراها تتحقق له فيتخلى عنها.
ولا هو يتخلى عنها إذ لا تتحق قله.
هي بعض الممكنات الخيالية التي لا تخرج أبدا من القلب، وكيف تخرج منه، ولا مكان لها في الواقع؟
القلب وحده مكان المستحيل! •••
رغبتي كأنها حكم من أحكام الشوق النافذة على قلبي.
حكم عليه بأن يظل أبدا يريد ويشتهي.
أي حكم عليه بأن يطلب ولا ينال ...
يبحث في الموجود عن غير الموجود.
يراك، ولكنه فيك أنت يبحث عنك أنت.
وأنت كسبيكة الذهب: ليس فيها موضع أحسن من موضع.
ولكن قلبي مع ذلك يظل يبحث عن الأحسن.
قلبي المسكين محكوم عليه، لا بالأشغال الشاقة، ولكن بالأماني الشاقة ... •••
رغبتي ستبقى دائما بين معاني التنهدات.
في مكان من القلب لا تتحرك فيه كلمات الأمل إلا تحركت معها كلمة آه ...!
أتدري أيها الحبيب ما هي رغبتي؟
هي أن أراك حين تتلقى رسالتي وتتلوها.
لأرى حقيقتك كيف تكون، وليس أمامك إلا حقيقتي.
ولأرى بنفسي كيف ترى نفسي مكتوبة.
ولأعرف برأي العين: أنا أرسل إليك كلماتي أم خفقات قلبي.
ولأنظر كيف تخرج لك أسرار الكلمات من الكلمات؟ لأرى، وأعرف، وأنظر ... •••
ولكن يا صديقي، لو رأيتك حينئذ؛ لكنت أنت رسالة إلي، فلا تكون وقتي إلا ورقة،
ويشغلني عن رؤيتها أني أراك،
ويصرفني عنها أني منصرفة إليك،
ويكون عقلك قد استولى على عقلي،
وتذهلني أسرار عن أسرار،
فلا أرى، ولا أعرف، ولا أنظر ... •••
ومع ذلك أتمنى أن أراك جين تتلقى رسالتي وتتلوها،
لأرى كيف تتلقاني من خيالك حين ليس معك إلا خيالي؟
ولأعرف رأي العين أن هو أي جزء منك،
وأن كلماتي هي لمسات من قلبي لقلبك،
ولأنظر كيف أكون لديك في صورة رسالة؟
وأضحك من رؤيتك الورقة وجها له فم تقبله ...
لأرى، وأعرف، وأنظر ... •••
ولكن يا صديقي، لو رأيتك حينئذ؛ لكنت أنت رسالة إلي،
فلا تكون ورقتي إلا ورقة،
وينسيني إياها أنك حاضر معي،
وتموت الكلمة المكتوبة كلها في كلمة واحدة تنطق أنت بها،
وتحول معرفة دون معرفة،
فلا أرى، ولا أعرف، ولا أنظر ... •••
إذن فرغبتي ستبقى دائما بين معاني التنهدات،
وقد تحركت الآن بكلمات الأمل،
ولكنه الأمل الخائب الذي تأتي دائما في آخر كلماته: آه. آه ...!
أليس كذلك
نظرة حب إلى الكون
إن شيئين هما أروع ما نعرف وما نجهل؛ أحدهما: ذلك المجهول الأعظم المنبسط وراء العقل يترامى قفرا في قفر إلى ما لا نعقل من أسرار اللانهاية، والثاني: ذلك المعروف الأعظم المختبئ وراء القلب يتعمد صفة في صفة إلى ما لا ندرك من أسرار النفس.
وفي ذلك التعقيد السماوي تلتمس الروح وضوح الألوهية ونعيم الجنة الخالد، وفي هذا التعقيد النفسي يلتمسون وضوح الحب ونعيم الحبيب المعشوق.
أليس كذلك يا حبيبتي؟!
كل ما في الكون هو من الضرورات لوجود الكون؛ لأنه ممتلئ لا ينقص، وما كان ضروريا فهو مذهب واحد ليس فيه ما هو أكبر ضرورة ولا ما هو أصغر، الكبير الكبير: كالصغيرة الصغيرة، ولو أن مكانا ليس فيه نفس واحد من الهواء؛ لقتل الحي كما يقتله انتزاع كرة الجو كلها من مخارق هذا الفضاء.
1
وكل ما في الحبيب هو من ضرورات عشقه إن صح العشق، فكأنما هو يتجه أيضا مع الكون إلى اللانهاية؛ بل كأن كل حبيب في خيال محبه إنما هو الوسيلة التي استطاع الكون أن يعبر بها عن جماله لإنسان في إنسان ببلاغة تختلف مع الأذواق كما تختلف البلاغة الإنسانية، هذه يقولون في تعريفها: إنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وتلك يقول الكون نفسه في تعريفها: إنها مطابقة الشكل الجميل لمقتضى الإحساس.
يضيق هذا الكون ثم يضيق حتى كأنما يجتمع عند العاشق في المعشوق وحده، وبهذا لا تجد حبيبا إلا بلغ عند محبه ما تناهى إليه الحسن في أرضه وسمائه، حتى لهو الشمس والقمر، وكل ما جرت فيه أشعتهما من ذهب الجمال وفضته؛ وبذلك جمعت اللغات أحسن ما في الكون وأجرته في تشبيهات الحبيب، وألفت من ألفاظه لغة الحب.
فهل يكون في العقل من هذا ومن ذاك إلا أن الكون قد تناول النفس العاشقة حين ضاق ثم ضاق، فوسعها ثم وسعها حتى أفاضها من معاني الحبيب على المعاني الأزلية، وجعل عهدها بالحب أياما في لذتها، أو نكدها كأنها ليست من أيام هذه الدنيا؟
لعمري لو أمكن أن تأتي إلى الأرض رسالة من إحدى الحور العين في السماء لما أمكن أن يتلقاها إلا عاشق على شفتي حبيبته أو خدها، ولو بعثت الجحيم برسالة من زفيرها وشهيقها؛ لما وقعت إلا في صدر عاشق يتلهف من هجران حبيبته أو صدها!
أليس كذلك يا حبيبتي؟ •••
في السكون حياة أبدية فياضة لا تفتأ تعمل بالسلب والإيجاب، كان هذا الكون العظيم يتحول في كل لحظة ليخلق، فهو في كل لحظة صورة جديدة، وما كان فيه سلبا فهو الذي يجذب في مذاهبه وتصاريفه، وهو مبعث القوة المبدعة، وهو الذي يحقق أشكال الحكمة في جلالها.
وفي المعشوق حياة فياضة تخيل لمحبه أبدية وهي إلى وقت، ولا تزال كذلك تعمل في خيال محبه، بالسلب والإيجاب، وهي السر في بقاء الحبيب طريفا جديدا ما بقي حبه، كأنما يتحول في كل يوم ليخلق، فهو في كل يوم صورة غير صورة أمس، وهو دائما معشوق الساعة، وقد خلدت عليه النظرة الأولى، وكل ما تكرر منه من ضحكة أو كلمة أو نظرة أو ما إليها جاء لوقته كأن فيه حياة.
وكأنه مولود لا مصنوع، ولدته رغبتك ولم يصنعه هو، فأنت تتلقاه كما يتلقى الأب أو الأم أولاده وقطع كبده؛ لا يزال عليهم كل يوم طابع قلبه.
وما كان في الحبيب سلبا فهو الذي يفتن في دلاله وامتناعه، وهو مبعث سحر الجاذبية، وهو الذي يحقق من جماله الخيالي أشكالا تتلهف عليها الروح لهفة الظمآن الضائع في القفر على تموج السراب وصبغة الرمل الجاف الملتهب بلون الماء البارد الصافي.
يمنعك الحبيب ما تشتهي منه، فإذا هو قد منحك الخيال ولذته وسحره، وإذا هو قد جعلك بالسلب كالمرآة لا تتلقى إلا لتعكس - فأنت للحب والشوق، ولكنك أيضا للتفسير والتعبير، وتجد في قلبك من أثر ذلك النقص تكامل الحياة، ويصبح عندك فهم الجمال جزءا من الخلق والفكر، كما هو فيك جزء من الحاسة والعاطفة، فإذا نار قلبك تحرق المعاني، وإذا كل شيء يتفجر لك عن ضوء أو شعلة، ويحقق لك الحب: أن الله نور السموات والأرض ...
يا حبيبتي، أليس كذلك؟ •••
إذا لم يكن ما نعده بغيضا شيئا مفصولا عن الكون فهو - ولا ريب - من ضروراته، وهو بهذا من أجمل جماله في معنى التكوين والإبداع، غير أننا لا ننظر منه إلى هذا المعنى، ولا نعتبر صلته بالوجود؛ بل ننظر إليه بمعنى التكوين الذي فينا، ونعتبر صلته بنا، فلا يكون من هذا إلا أنه قبح وسمج من قبحنا لا من قبحه.
فالكون بما فيه من أثر الخالق هو اتساق واحد منسجم لا شذوذ فيه ولا تنافر ولا قبح ولا بغض، ولكننا نحن بما فينا من قوة الخلق،
2
نتمرد على الانسجام والاتساق؛ إذ لا نملك من ضعفنا إلا خلق هذا التمرد، وتتطلع شهواتنا ورغباتنا إلى شيء ما فيكون جميلا وحبيبا، وتنصرف عن شيء ما فيكون قبيحا وبغيضا.
ومن هذا فليس في الكون إلا الحب والجمال والخير؛ إذ سقطت الشهوات، إذ كل شيء حينئذ يكون مقصورا على حقيقته التي لم نفسدها بتغييرها، ولأن قبح شيء من الأشياء إنما هو صورة انحرافنا عن إدراك لا حقيقة، وجهلنا بناحية اندماجه في قانون الاتساق الإلهي.
أفليس بذلك يكون المشوق الجميل كأنه تهذيب علمي لروح من يهواه، وتدريب له على الاندماج بفكره وعاطفته في جمال الخليقة؟
أليس بذلك يكون المعشوق الجميل هو الوسيلة التي يتعلم بها العاشق علم قلبه. أي فن الارتفاع بالأشياء الجميلة عن سذاجتها الفطرية، وإكسابها في روحه الإشراق الإلهي؟
أليس بذلك يعمل العاشق في جمال العالم، ويكون الجزاء الإلهي فيه هو الذي تحرك للحب؛ لينكشف حبيبه بمعانيه السامية، ويشهد جمال ذاته في الصورة الجميلة التي يهواها، حتى ليستطيع أن يقول لحبيبه: يا نفسي، ويا روحي! وهو يحس أنه على الحقيقة نفسه وروحه؛ إذ يرى أنه متعلق به تعلق الطفل بروحه الكبيرة في أمه وأبيه؟
وهل غير الحب علم الإنسان كيف ينادي روحه ونفسه في غيره؟
أليس كذلك يا نفسي، ويا روحي ...؟
النجوى
وبي زهرة في جانب النيل قد نمت
فرف عليها إذ يروح وإذ يغدو
لطافته في طبعها الحب والرضا
وتياره في طبعها الهجر والصد
ويحكي وفاء النيل فيض وعودها
ويا شد ما ينحط من بعدها الوعد
وفي زمن تصفو علي كما صفا
وفي زمن ما من «تكدرها» بد
ووالله ثم الله، إن حلاوة
من النيل للعينين في فمها تبدو
وإني وإياها على ظمإ الهوى
أنا الفم هذا الهوى وهي الخد •••
آه! وأنا حين أقول: آه، أحسبها شعلة تتلوى ذاهبة ممتدة في قلبي!
آه! وأنا حين أقول: آه، أشعر أن قلبي يمدها طويلا طويلا لتصل إلى قلب آخر!
آه! وأنا حين أقول: آه، أراني كأن روحي طارت إلى آخر مدها ووقعت! •••
وكنا في يوم من أيام الربيع، وكل شيء حولنا يتكلم بلغة الشمس في لمعة وضوء وجمال، وفي الأزهار معانيها الغزلية التي بها وحدها تظهر الطبيعة في رقة امرأة عاشقة.
وفي الهواء نسمات بليلة متعطرة قد خيمت فيها روح قبلة متعرضة
1
كأن الرياض في نشرها الذكي
2
مصانع يقلد فيها الربيع صنعة أنفاس الحبيبات.
وفي الزمن ذاتية واضحة أشعرتني أن كل ما حولي هو تعبير يهم أن يتكلم.
وكأنما سقط قوس قزح من السماء، وماجت ألوانه بعضها في بعض فغطى الأرض ألوانا شتى بأزهارها وأعشابها.
وكأن السماء مازجت قلبي في تلك الساعة فأضاءته بنور الفجر الندي العبق بالنسيم ، الملون بالشفق، المتحرك بالسحاب.
وكنا في صباح جميل يشعرنا بكل ما فيه أن شمسه طلعت لنا وحدنا.
وكان كل شيء يرف ويزهو كأنه طبع بقبلة من شفتيها.
وبدا الصباح عليها بمعاني الرياض، وعلى الرياض بمعانيها هي، فاجتمع نشاط الكون ونشاط قلبي، وتقتلت كما تتقتل
3 ... وقالت ضاحكة: لا أحبك!
قلت: إن فيها «أحبك» وهذا يكفي!
قالت، وزادت في ضحكها: أعني أبغضك!
قلت: ولكنه بغض من تضحك كما أرى ...!
قالت، وزوت من وجهها وتكلفت العبوس قليلا: أعني ...
فابتدرتها أقول: إن تكلف وجهك ينطق بأنه لا يعني ...!
فذهب بها الضحك مذهبا ظريفا، وقالت: الآن قطع بك،
4
فلقد كنت أريد أن أقول «أعني أحبك» فنفيتها أنت فانتفت!
قلت: بل الآن وصل بي ... ما دمت قد قلت «أعني أحبك» وأثبتها أنت فثبتت ...
قالت، واستطلق وجهها: إني والله أجد من سروري أن أعجزك، ولكنك داهية لا تعجز، ولا يزال في لسانك جواب ما أقوله وما لم أقله!
فقلت: وأنا والله أجد من سروري أن أقدر، ولكن هل أقدر على ما هو مقدر؟ إن بعض كلماتك هي الآن كلمات، ولقد تكون غدا حوادث!
فاعترضتني قائلة: أنت تنظر في نور من خيالك مع نور الطبيعة، فترى أشياء كثيرة غير الأشياء.
قلت: ولكنه هو النور الذي يقيد الطبيعة كلها بمنظر واحد ...
قالت: أهو منظر جميل؟
قلت: بل الجمال بعضه ...
قالت: وما عسى أن يكون باقيه إذا لم يكن الجمال إلا بعضه؟
قلت: إن في قلبي كلاما يسمع من غير أن أتكلم به، وفيه جواب سؤالك!
فاستضحكت، وقالت: وعلى هذا فهمت من غير أن أفهم ... ألا قل لي، لماذا تكون لغتك هكذا؟
فقلت: لأن الحب يجعل كل سهل واضح في الأشياء غامضا معقدا في النفس، وهذا هو سره، وبهذا يرتفع عن الإنسانية، ويجنح إلى التأله، وبسره وتألهه يخلق كل ما يمسه في صورة ثانية مع صورته التي تقوم به، فيجعله بصورتيه من الكون، ومن النفس العاشقة أيضا، وليس من شيء خلق مرتين، ولكن أشياء الحب كلها كذلك خلق ثم خلق .
ليت شعري، أيعذب العاشق المسكين بهذا التأله الخيالي فيكون عقابا شديدا بطريقة غير أرضية؟ أم ينعم به فهو ثواب عظيم بطريقة غير أرضية كذلك؟
إنه لسر عجيب رائع في قلب من تيمه الحب، يدل عليه أنه ما من عاشق إلا وهو يرى أن رضاه عن جمال حبيبته، وتكوين أوضاعها وتناسقها ومشاكلة بعضها بعضا، كرضا الصانع عن صنعته، وافتنانه بما أبدع واخترع، وبما أتقن وأحكم، كأنه هو قدر وسوى، وسوى وخلق، ولو جاز أن يهبه الله القوة على أن يذرأ ويبرأ، ثم أمره أن يخلق لنفسه امرأة، لما صنع إلا هذه التي أحبها بكل ما يحبه فيها، وإن لم يستطع الحب أن يخلق إنسانا فهو يخلق إنسانية.
بذلك لا يفهم هذا الحب إلا في أسلوب ملتو؛ لأن له طرفا غائبا وراء النفس، كالعود من الأعواد غمس أسفله في الماء فلا يتراءى للعين في صفحة الماء إلا ملتويا متثنيا، لا بعمل من ذات نفسه، بل بموضعه، وبتأثير أحكام الضوء في موضعه.
والحب يشبه ألوهية دون حدها، فهو بهذا مفهوم غير مفهوم، ويشبه إنسانية فوق حدها، وهو بهذا أيضا مفهوم غير مفهوم، ولا نراه أبدا إلا مصرحا غامضا. إن صرح من جهة الحاسة غمض من ناحية الفكرة، وكل دونه هو في النفس يأتي من بعده في الموضع والقيمة والاعتبار؛ لأن في الحب وحده المعنى الأكبر للحياة في وهم المحب، على حين كل ما في الحياة هو في الواقع أكبر منه، ولن يعيش من لا يأكل ولا يشرب، على أن من لا يحب نراه يعيش.
5
قالت، وضحكت: بذلك لا يفهم الحب، وبذلك استطعت أن تجعل لغتك هكذا ...
قلت: وبذلك أيضا استطعت أنت أن تجدي مخابئ لغوية كثيرة تخبئين فيها الكلمة التي تريدين النطق بها ولا تنطقينها، فصارت لغتك عندي تفسر من معجمات كثيرة: من نظرة والتفاتة وخطرة وحركة، ومن شيء ومن لا شيء، وتقولين الكلمة بما شاء دلالك من أساليبه الكثيرة، إلا بأسلوب النطق كأنها تراغمك على أن تظهر وتراغمينها على أن تختفي. أتعلمين أنك كالدولة من الدول العظمى، حاشدة كل وسائل الحرب، معدة لها في كل وقت، فهي بذلك ظافرة غالبة من غير حرب، كأن وسائل الحرب تقاتل من غير أن تقاتل؟
6
قالت: يا ويحك! فإذا قبلت منك أني دولة عظمى، فكيف أقبل أني «أكاديمية» عظمى ... حتى تجعل لي معجمات كثيرة؟ وترى ما الذي يمكنك أن تفسره من معجماتي؟
قلت: يا ويح غيرك!
7
أمكنني يا جبارة المستحيلات ما أمكن الغزال من جبار الممكنات ...
قالت: أسألك عن مستحيلاتي، ولكن ما هي ممكنات غزالك؟
قلت: إن غزالي هذا كان فيلسوفا لا يصدق إلا ما يقره، ولا يقر ما لا يمتحنه، على طريقة الفيلسوف (كانت)
8 ... ولم يكن رأى سبعا قط، وهولوا عليه في أوصافه ورهبته وسطوته، فلم يصدق شيئا من ذلك إلا أن يراه ويدرسه درسا تحليليا، كما تسمين أنت كلامك وفلسفتك. قالوا: فأطال الغزال الفكرة في ذلك، ودبر أن يلقى الأسد ويدرسه. ثم إنه قسم الدرس إلى أعمال خمسة على هذا النسق: فالأول: أن يتجسس مخالب السبع، ثم يعجمها، ويدق عليها بحجر؛ ليعرف مبلغ صلابتها، ويقف على سر تركيبها ... والثاني: ألا يكتفي بمثل هذا الصنيع في الأنياب؛ بل قرر أن يحطم واحدا منها ... ليعلم ما سر قوتها ومضائها، والثالث: أن يتناول عضلات الأسد في زوره ورقبته وأعضاده فيغمزها غمزا شديدا؛ لعلها من ورم أو شحم وما يدري الناس، والرابع: أن يجيء بالموسى فيحلق لبدة الأسد فيكشف عما تحتها، ويرى منظره وقد عري منها، فلعلها من شعوذته في القوة واحتياله على مظهرها ورهبتها، والخامس: أنه متى فرغ من كل ذلك حملق في عيني الأسد، ودرس ذلك اللمح المخيف من شعاعهما، فإن لم يبلغ من ذلك ما أراد علمه وفلسفته اقتلع إحداهما وأسالها، وبحث فيها ما شاء!
قالوا: ولما جاء العرين، وأصبح من الأسد بمرصد، وهبت رائحة لحمان أجداده ... قال: النجاة النجاة! ما هذا بالذي خلقت له فلسفة رأسي، ولكنه الذي خلق له عدو ساقي ... ووثب يشتد مع الريح.
9
ولكن آه من تعقيد الحب، إن الفيلسوف المتهزم الآن هو الأسد بلبدته وأنيابه ومخالبه، وبكل ما هو به أسد، والمنتصر هو الغزال بلينه ونعومته وبعينه الكحيلة، وبكل ما هو به غزال!
قالت: آه! ولم تزد. •••
قلت: آه! أنت يا حبيبتي في، وأشعر بك دائمة الاندفاق والانصباب في نفسي، كأنك جمال لا ينتهي، وكأني عشق لا يمتلئ، وأنت خارجة عني وبي شوق دائم النزوع إليك، يخيل إلي والله أنه ملء الكون لا ملء صدري: وأنه لا يزال شاردا متسحبا على الوجود كله لا يجد ما يستقر عليه، مع أنه واجدك، ومع أنه حائم عليك، وما ذلك إلا لأنك دائمة الدلال، أي دائمة الانحراف عن لمسات قلبي، أي دائمة الاهتزاز بمعانيك الجميلة، كيلا تثبت صفة منك على صفة مني، كيلا نتعانق حتى ولا في المعاني.
أنت اثنتان عندي، وليس في يدي من واحدة شيء، وإذا كثرت الآمال؛ لتكثر حسرات الإخفاق عليها، فلماذا لا تقول إن الأمل هو الاسم الصحيح للخيبة؟
إنك لي كالرؤيا من الرؤى السماوية، فالتي هي أنت ليست في التي هي أنت، وبذلك فالتي أحبها فيك لا يمكن أن أجدها فيك،
10
كأنما نتلاقى في عالم بعيد من وراء ظواهرنا.
كأنما قامت منا في الحب حدود دولتي، فلن يتقدم حد منهما إلى حد ويكون بينهما سلم، ولا سلم إلا في هذه الوقفة الثابتة، ولا إخلاص ولا محبة ولا ثقة إلا أن يدق مسمار الزمن في كليهما فإذا هو من الآخر بعيد على قرب قريب على بعد!
11
كأننا نعيش في أمس، يجيء يلبس كل يوم من أيامنا لا قوة تناله فتنزعه، ولا قوة تناله فتبليه، فما تزال تتجدد من تحته أيام الحب في سر منا، ونعطي كل يوم عالمنا، ولا نأخذه، ولا نتلقاه!
كأننا في يوم هجر خالد علينا، فكل ما يأتي بعده من الأيام ميت فيه لا محالة؛ إذ أيام الحب إنما هي بنسبتها إلى الحبيب لا إلى الزمن.
كأن هذا الحب قد ضرب بيننا وبين الحقائق بسور ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبلة العذاب، فكل ما رأيناه رأي العين من فرح الأشياء ولذاتها، علمناه في علم أنفسنا أوجاع مكابدة وآلام حرمان ...! •••
فأضجرت فلسفتها هذه الفسلفة، فقالت وابتسامتها ظاهرة على قولها: وأما قبل؟
12
قلت: وأما قبل فكأنما أنا المكان الحي الذي تئن فيه الأشياء أنينها الباكي، وتبتغي فيه موسيقى الحب من أوتار متقطعة متبعثرة إن جاءت بشيء فبأنغام موتى أو مرضى، وإني لأحسب الدنيا كلها تصدح من حولك تلقين فيها النغم، ثم لا تحبسين الصمت إلا لي أنا وحدي.
قالت: أف للشاعر من الشاعر نفسه! أنت كما تريد من الحياة مسرة لابتسامك تريد منا آلاما لعبوسك الشعري، وإذا لم تجد الألم أوجدته واخترعته، كأنه لا بد لمن يصنع شعرا أن يصنع مقادير يفرح بها ويحزن!
ما أراني أفهم عنك حين تقول: السماء والطبيعة وهي، والشمس والقمر وهي، والخير والشر وهي: فأنت وحدك تفهم هذا؛ لأن للشعراء شياطينهم، فلك مثلهم شيطان يحدثك وتحدثه، وترى ما اسمه.
قلت: اسمه «هي» ...
وكأنما كان الشيطان غائبا في سفر طويل، ورجع عند ذكر اسمه، فلما رآها هي اسمه ألقى فيها سحرا من سحره فإذا على ثغرها برهان ثغرها ... وقالت: اسكت!
قلت: لقد عرفنا الشيطان باسمه ...
قالت: اسكت!
قلت: ما يسكتني ولا الشيطان نفسه.
فمدت إلي نظرة طويلة كلها براهين على قوة هذا الشيطان الفاتن، وقالت: اسكت اسكت!
ثم لا أدري ما الذي أسكتني حينئذ ... أحسب أن الشيطان سد فمي بفمه! ... •••
آه! وأنا حين أقول آه! أحسبها شعلة تتلوى ذاهبة ممتدة في قلبي!
آه! وأنا حين أقول آه، أشعر أن قلبي يمدها طويلا طويلا؛ لتصل إلى قلب آخر!
آه! وأنا حين أقول آه، أراني بعدها كأن روحي طارت إلى آخر مدها ووقعت، آه!
هل أخطأت ...؟
قالت له يوما في أمر من الأمور: «قد أخطأت!» وغضبت أو تغضبت ... فكتب إليها هذه الرسالة:
لقد قلت يا حبيبتي إني أخطأت، ورميتني بها كلمة مقفلة لا منفذ منها ولا مخرج، ولا أدري والله كيف أخطأت، ولكنك لما قلتها وتغضبت فيها وتعتبت لها أثبت في الكلمة معناها ...
ولو أني راجعتك في ذلك مئة مرة، ولكل مرة برهان، ومع كل برهان اقتناع، لما استطعت أن أنتزع دلالك أو نعتك من هذه الكلمة. فأنا بدلالك أخطأت لا بعملي، وبرغبتك في الإساءة إلي قد صرت مخطئا لا بإساءتي، والتهمة ثابتة عندك لا بواقعة ولا دليل، ولكن بثبوت حبي لك ...!
ولقد نظرت إليك حين قلتها ونظرت إلي، فكانت شفتاك تتهمان، وعيناك تعتذران، وكان لساني يعتذر، وعيني تتهم، وكانت الكلمة نفسها تكاد تقول: ما جئتك لأدل على معنى وقع منك أنت؛ بل على معنى وقع فيها هي ...
وقد اعتدت منك في بعض حالات قلبك أن لا تضعي المعنى في اللفظ الذي هو تعبيره، بل في الذي هو تعبير ما بيني وبينك، فمعنى قولك إني أخطأت، يجيء في تعبير آخر كأنك تقولين: تذلل لي. •••
لا تزال الكلمة كلمة من اللغة حتى تقوليها أنت، فإذا هي كلمة من الفن؛ وإذا فيها ذاتية وحياة ولها تاريخ؛ ولو بمرورها من شفتيك!
أنا أخطأت لأني لم أخطئ ... فهي كلمة حب من معناك أنت لا من معنى الخطأ اللغوي، ولذلك أقرها، فإذا قلت لك، نعم تجيء هكذا: هل ترضيني؟ نعم أرضيك! ألست تطيعني؟ بلى أطيع! هل تتذلل؟ نعم أتذلل! هل أخطأت ... نعم أخطأت!
وأرضيك، وأطيع، وأتذلل: كلها بمعنى أحبك أحبك أحبك!
فما رميتني بخطأ، ولا أجبت بإقرار، ولا بقيت للكلمة عقدة تمسكها في معناها، ولو رأينا لرأينا الحب يضحك في هذه اللفظة بمقدار ما تعبس فيها اللغة! •••
وكلمات الحب كلمات يتغير عليها الحس فتفهم على أوجه مختلفة، وتشاكلها معان كثيرة؛ وكأن طريقة قولها تخلق فهمها، فما هي من عالم اللغة بل هي من خاصها؛ إذ اللغة بين أهلها جميعا، وهذه بين اثنين خاصة، واللغة ألفاظ مفسرة بما تلبسه، وهذه تفسر بما يلبسها، واللغة تشير إلى الموجود؛ إذ لا يراد بها إلا التعبير للفهم، وهذه تشير إلى غير الموجود أيضا؛ إذ تريد مع الفهم العاطفة، ولا بد أن يعطى فيها القلب إرادة.
ورب كلمة ينبذها إنسان لإنسان فإذا هي على قلبه كالريح السافية تعقد في الظهرة ضبابا خانقا من تراب الأرض ... فإذا ما لفظها حبيب لحبيبه نسمت على قلبه كرويحة الفجر في ضباب من الطل والندى، على حديقة ملتفة؛ إذ كانت هناك في منطقة اللسان، وكانت هنا في منطقة القلب، وكانت ثمة في جو من عداوة قائلها، وكانت هنا في جو من حب قائلها! •••
أنت علمتني بحبك أن هذا الكون على اتساعه موضع خاص بقلبي وحده، فمهما اتسعت اللغة في مذهب تعبيرها ففي قولك إني أخطأت معنى خاص بي وحدي يا حبيبتي ...
وأنت أريتني أن الجمال هو تصوير الحياة بك، فكلامك لي هو تصوير اللغة بك وحدك أيضا يا حبيبتي ...
وإذا ابتسمت وقلت إني أخطأت، فتلك ألفاظ متبسمة من دلالها، وإذا عبست وقلت إني أخطأت، فتلك ألفاظ متعنتة من دلالها، إذن فاعلمي أن في كلمات غضبك معنى كذلك أراه لي وحدي يا حبيبتي ...
وكلام الكبير مع الطفل يكون بلغة واحدة وهو في الحقيقة بلغتين لمعنى عاجز في الطفل،
1
وكلام الحبيب مع المحب بلغة واحدة هو كذلك بلغتين لمعنى قادر في المحب. فالمعنى المفهوم من إحدى اللغتين في قولك إني أخطأت، هو يا حبيبتي لي وحدي، وكما أفهمه أنا وحدي ...
وإدلالك علي برهان خاصيتك مني، فلم لا يكون اتهامك إياي برهان خاصيتي منك؟
سأتذلل لك يا حبيبتي، وسأرضيك وسأطيعك و ... سأخطئ ...!
قلت وقالت1
قطرات الماء القليلة جدا إذا أصابها الظمآن الذي بلغ به الظمأ جفاف الروح، تحولت في تسعير خياله والتضرم على كبده قطرات من اللهب الأبيض ... وكذلك في ظمأ الحب، فإن القليل جدا مما يداوى به الحبيب، هو الكثير جدا مما يمرض به المحب ...! •••
قالت له: اغضب ما وسعك من الغضب وما وسعت منه، فإن غضبك هو نفسه من مقاييس الرضا! ألم تر إلى الحريق في البرق، وإلى الصواعق في الرعد، أذاك من امتلاء السحاب بالنار أم من امتلائه بالماء؟ •••
الحب أن يخيم جو موسيقي على بعض أيام العمر؛ ليتم فيه الانسجام بين نفس عاشقة وصورة جميلة، إذ لا بد لانسجام الجمال في الحب من أن يكون المعشوق عند محبه في مثل تناسق اللحن الفني لا يخرج منه شيء عن الوزن والطرب، فإذا كانت العمر صفحات مكتوبة فأيام الحب الصفحة المكتوبة بعلامات النغم، لا يقرأ شيء فيها إلا لحن ورن ورجع وصلصل.
2 •••
وتعاتبا مرة فغضبت، فقال لها: فلنفترق، فما في الغضب من شيء إلا أنه عناد الموقف، إن الموقف بين متكلمين أو متساجلين هو موقف حي، فما أسرع ما يثب القلب إلى القلب في لفظة غاضبة، فإذا اللفظة من ذلك كأنما ملأها الدم، ومثلتها الحياة فأصبحت شخصا غير الاثنين لا يبالي بهما نفعا ولا ضرا!
فاستضحكت لهذه الفلسفة، وفكهت لكلامه - وما يعجبها شيء ما تعجبها المعاني - ثم قالت: إذن يمكن الاتفاق، وتقرير الأمر مع الكلمة. أي مع الشخص اللفظي الغضبان لا معك أنت ...! •••
وقالت له في أمر: أنا راضية بحكمك فاحكم.
قال: قد عرفت الحكم ولم أنطق به ...
قالت: فهل الحكم عطر في منديلك أعرفه من الهواء؟
قال: بل عرفته بنفسك الرقيقة الملهمة: وأما والله يا حبيبي لو كنت محامية؛ لسرقت من أدمغة القضاة أحكامهم ...
قالت: منزلة رفيعة، ولكنها على سرقة وتلصص.
قال: يا عزيزتي، يلذ لي أنها سرقة؛ لأتخيل لها قانونا ومحكمة وقضاة.
قالت: ثم ماذا بعد قانونها ومحكمتها وقضاتهم؟
قال: أرافعك إلى تلك المحكمة، وأتهمك بتهمة سرقة قلب ...! •••
الحب طفولتنا الكبيرة كل ما تملكه أن تبكي وتضحك وتمكر وتنافق، ومعنى ذلك كله أريد أريد! ولو أمكن أن يكبر الطفل، ويبقى طفلا؛ لكان هو العاشق بذاته، ولكان حبه لأمه وأبيه مضاعفا عند السنين التي كبر فيها - هو العشق بعينه! •••
الدموع أوهى من أن تهدم شيئا، ولكنها تهدم صاحبها! •••
الدموع هي روح المحيط السماوي، ألا ترى أنها لا تسيل إلا مع الأقدار؟ متى نزل القدر نزل الدمع. •••
المعنى الذي يكون في النفس أكبر من الكلام في الحزن، والفرح هو وحده تعبر عنه النفس بدموعها. •••
سألها مرة: ماذا يقول البحر لو سقطت فيه دمعة من مهجور؟
فقالت إنه يقول: إنسان أحمق أو مخبول يحاول أن يجعل له بحرا من قطرتين ...
قال: أراك يا فيلسوفتي لا تفهمين لغة الوجود!
قالت: فما ترى أنت؟
قال: إنه يقول عندئذ: تباركت يا رب! أنا الجبار المالئ ثلاثة أرباع الأرض، قد آلمتني دمعة محب متألم؛ فهل هو يحمل ثلاثة أرباع الهم في الأرض! •••
في نوح اللحن الشجي صورة الدموع التي في أعيننا، وإذا حن كانت فيه شهوة نفس، وإذا جنح إلى الطرب كانت فيه رغبة واقعة، وليس في الكون ما يجمع هذه الألحان الثلاثة المتباينة في صوت واحد إلا زفرة الحب يأسى العاشق ويحن ويطرب فيقول: آه ... •••
لو سألتني: من أعظم أهل الفنون على وجه الأرض؟ لقلت لك: كل حبيب جميل هو في عين محبه أعظم أهل الفنون؛ لأنه في نظر هذه العين هو وحده الذي يخلق الجمال الحي الرائع، ويضع معناه في كل ما يتصل به، حتى لكأن جماله تفرق على أجزاء العالم، أو كأن أجزاء العالم التفت على جماله. •••
وقالت له: أنا لا أشفق على آلامك! وهل تراني أكره لك النبوغ والعبقرية؟ إن الألم في رجل الفن العبقري إنما هو (عملية) التصوير والطبع في مخيلته؛ فمواهبة الحساسة تحزن الوجود في، وكلما رأى جمالا أو قبحا أو سرورا أو حزنا غمرته؛ ليتألم بمعنى ما رأى، وحكمة ما أبصر؛ لأن جهة الفن في كل شيء هي معناه وحكمته، فيتألم، فينطبع المعنى، فيكون في المخيلة مادة من مواد العمل الفني حين يعمل، فذلك ليس ألما في إنسان كما ترى، بل هو أداء طبيعي في أداة حية متخذة لهذا العمل خاصة، ميسرة له بكل حوادثها؛ ومن هنا فلا رحمة ولا مهاونة فيما يؤلم رجال الفن؛ إذ لا تعرف منهم الحكمة التي خلقتهم إلا آلات، آلات يجب أن تعمل حتى تتلف أو تتحطم ...
تزداد الجميلة إشراقا وجمالا بالحب؛ لأن أثر نظرات محبها يلازمها، حتى إنها لتحس في غيبته كأن نظره واقع عليها من عينه لا من فكرها، وبذلك تتجرد معانيها النسائية علمها الفني وتدأب عليه، فلا تزال تجعل وتحسن ما دامت محبوبة معشوقة. •••
الحب إيمان النفس بكائن طاهر، والدين إيمانها بكائن خفي، ألا يكون ذلك أسلوبا في الطبيعة؛ لحفظ الإيمان في الإنسانية؟
3 •••
أشعر أحيانا كأنه ما من رجل في العالم يحب امرأة إلا ألم بحسي شيء من لذة هواه، فإن لم أكن أنا العالم كله فلقد جعلت حبي هو الحب كله! •••
أنت في، وأنا أنظر بك إليك، هذه هي المشكلة التي جعلتك لغزا لا حل له، فما أقرب الحب من العبادة، ما دام هذا الحب هو تجلي نفس في نفس، وما أشبهه بدين يعبد فيه الجسم الجسم، فالمعشوق حالة نفسية متألهة معبودة، والعاشق حالة أخرى متولهة عابدة! •••
لو عشق أعظم علماء الدنيا؛ لأيقن أن حيرة عقله في أسرار الكون لها شكل أدق وأغمض مع أسرار الحب، ولعرف أن في أعماق النفس الإنسانية مثل ما في أعماق الوجود: مسائل لا حل لها، ألا يخرج من ذلك أن كل محب يقابل في الطبيعة بقلبه أو إحساسه أعظم العلماء بعقله وآلاته؟ •••
قد عرفنا أن لنا أعمارا محدودة، يجوز أن ساعات الهناءة والسعادة إنما كانت محدودة؛ لأنها أعمار لأعمارنا؟ فبضعة أشهر من الجفاء أو البعد يكون عمرها هو ساعة اللقاء التي تنفق بعدها، وسنة كاملة من عمل يكون عمرها يوم سرور؟
إن كان هذا صحيحا فما أقصر عمرك يا عمري ...؟ •••
كل الأماني التي لا تتحقق، هي وجود مخنوق في القلب! •••
من تأله الحب أن أوقاته هي الأوقات التي تتغير فيها الأشياء فتلبس في أفكارنا غير حقائقها، وبذلك يثبت الحب أنه أقوى من الحقيقة؛ إذ كان يخلق فيها خلقة ويغيرها في الفكر، وأنه أقوى من الزمن: إذ كان يطول به على العاشقين، ويقصر مع أن الزمن لم يقصر ولم يطل، وأنه أقوى من الوجود؛ لأنه دائما إما ينقص منه في نظر العاشق وإما يزيد عليه. •••
إن المحب ليشعر أحيانا من شدة القلق والاضطراب أن فكره يعدو بين الأشياء والحوادث وراء الاطمئنان الذي فر من قلبه! •••
حين يجد العشق بصاحبه يحبس عليه الزمن كله في نقطة هم ثابتة لا تتحرك، فتشتبه عليه الأيام حتى لا يشعر أنه يقضي يومين أحدهما يختلف عن الآخر. •••
العيون التي وراءها ضروب الأفكار المختلفة، هي وحدها التي فيها ضروب التعبير المختلفة. •••
في الحب لا فصل بين الصغائر والكبائر؛ إذ كانت قيمة الصغيرة والكبيرة في اعتبارها لا في ذاتها، والحادثة في الحب تكون بالحالة التي تقع فيها أكثر مما تكون بنفسها؛ فالهجر وهو أشق وأعنت ما في الحب، قد يكون لوعة مطمئنة إذا كان عن دلال أو سلوان من الحبيب، ولكنه أشد الفظائع كلها، وأكبر من القتل إذا كان سببه الميل إلى محب آخر، فهو في سببه أكثر مما هو في نفسه؛ لأنه خرج من المكان إلى الشعور. •••
الليل والفجر والشفق والأصيل، هي أوقات الجمال في النفس؛ ولن يجعل لها سحرها الساحر إلا أن يكون ذات مرة قد وقعت دقائق ملونة ... في ساعة حب! •••
ما وقفت أمامك مزة يا حبيبتي أنظر إليك إلا قلت في نفسي: من هنا يبدأ ما لا يدرك ...! •••
أصل الحب العاشق اتساع الرغبات المنجذبة وخروجها عن حدها، وأصل الجمال المعشوق اتساع الأسباب الجاذبة وخروجها عن حدها كذلك، فمن ثمة لا أناة في الحب، ولا عقل ولا استقرار؛ إذ هو اجتماع فوضيين بائرتين على نفس ضعيفة! •••
هل تأملت مرة في اسم حبيبك؟ وهل تعرف في الأسماء الكثيرة التي تماثله ما يماثله؟
إن كل الأسماء من اللغة وهو وحده من النفس، والأسماء كالأرقام الحسابية وهو وحده كالواقع المدلول عليه، تقول: مئة ألف، فتذهب كلمة في الهواء ليس لها ولا حقيقة واحدة، ثم تعد الذهب وتقول: مئة ألف دينار، ففي هذه وحدها مئة ألف حقيقة ...؟ •••
أنا يا حبيبتي، قد تجاوزت المنطقة الإنسانية، التي يقع في حدودها المدح والذم، فلا تأبهي لمن يذمني عندك أو يمدحني.
أنا فوق هذه الطبقة التي يتنفسون منها كلامهم، فإن ارتفع يريدني أحد منهم فوصل إلي خنقه وصوله إلي ...! •••
فلان وفلانة، هو بدونها ناقص؛ لأنه وحده، وبها ناقص أيضا؛ لأنه معها ... هي كالفصل له عن الكمال، وهذا أكثر عمل المرأة وعمل أكثر من النساء ...!
أنت لا تحلفين أحببتك أم أبغضتك؟ ولا تدافعين عن شيء منك في نفسي، ولكن كل شيء منك يدافع في نفسي عن نفسه، وينتصر ويتغلب ...
هل تلبس الزهرة أوراقها ولونها إلا لتظهر عارية الجمال؟
هل تلبس الحبيبة كبرياءها ودلالها إلا لتظهر عارية الحب؟ ... ومع ذلك فروح الشجر المر هو الماء العذب!
يا قلبي!
كان لي قلب، فيا عجبي
ليس في جنبي سوى أثره
ضاع مني فابحثوا تجدوا
في ابتسام الحسن أو نظره
ويحه قلبا أعيش على
صفوة عيشي على كدره
يرتقي كالنسر ثم ترى
مرتقاه عين منحدره •••
ههنا قلب وحامله
ميت الأمن على حذره
1
ذاب ذوب العطر مذ وقدت
للهوى نار على زهره
ضره ما كان منفعة
نفعه ما كان من ضرره
عابس كالليل ليس منه
أمل إلا سنا (قمره) •••
وهنأ قلبه وصاحبه
قد بنى الدنيا على حجره ...
تقرص الألم مهجته
مثل قرص الوحش من ظفره
2
والحديد والصلب تحسبه
صورة عمياء من صوره ... ... لم يلن لا بمطرقة
من قضاء الله أو قدره •••
وسؤال لا جواب له:
أي ذين الحلو في ثمره؟
لو يبين الحلو خالقه
كيف يسقى المر من مطره؟
البحر
«وكتب إليها من شاطئ البحر، وكان قد ذهب إلى هناك مسشفيا من علة أصابته».
1
لقد كنت والله من وثاق المرض كالسجين المغلغل: يحمل على أعضائه أعضاء من قيود وسلاسل، فلا يجد كل الأمكنة أوسعها وأضيقها إلا جسمه والجسد الحديدي الذي فيه جسمه، وكأنه من الكرب لم يقيد، وإنما أقفل على روحه من ذلك الحديد بقفل يكف هذه النفس، ويحول بينها وبين الدنيا.
فلما احتواني البحر جعلت سلاسلي تذوب فيه شيئا من شيء في يوم من يوم، ثم كأنها لم تكن إلا آثار لون أسود فغسلها البحر ومحاها، أو كانت جمرات ألم أحمر فأطفأها وسال عليها.
ألا ما أعجب رحمة الله! فبينا هموم الإنسان في موضع هي أشد اندماجا من الحديد، إذا هي في موضع غيره متخلخلة أسرع ذوبانا من الملح المبتل: كأن مكانا يلبس أنفسنا ، ومكانا يخلع عنها، أو كأن الأرض بتباين أمكنتها وبقاعها تقابل الأقدار في اختلاف عللها وتصاريفها، حتى يكون السفر من بلد إلى بلد أحيانا كأنه تحول من قدر إلى قدر.
كان المرض يخيل لي أن هواء ناحيتي مستنقع معلق ... فجئت إلى هواء البحر فإذا هو بحر ذائب
2
يحس المتنفس منه أن في صدره مثل الموج على ما ركد فيه مما تركته الأيام والليالي من أحداثها وهمومها، فإذا صدره جياش مصطخب بالحياة يفور بها ويتضرب، وإذا موجة من العافية قد اندفقت في هذا الصدر فثلج وابترد وتنقى كأنما غسل ثم غسل إلى ملء بحر.
وأرى السماء هنا والبحر متدل منها، فكأنها مخيط أزلي، وهذا البحر كله موجة واحدة، وثبت من هناك عن ثبجها الأزرق
3
ووقعت إلى الأرض، أو هذا بحر سائل موار؛ إذ هو يدفع أنفاس الحياة الأرضية الفانية فلا بد أن يجري ويتحرك، وذاك بحر مستقر لثباته على الأزلية الخالدة، ويقع من أحد البحرين ثبات اليقين في روحي ومن الآخر حركة الأمل في قلبي، وتندمج بهما في حياتي روح أيام زاهية مضيئة كأنوار السماء، وروح آمال بلية منعشة كأنفاس البحر.
وأرى البحر مائجا يترشرش ويتناثر وهو بارد، ولكنه يبدو كما يغلي الماء في وعاء على النار، يتقاذف من شدة ما يغلي، يضطرب ويدوي كما يرجف الرعد ترددت هدهدته
4
يجاوب بعضها بعضا، فكأنما البحر سحاب عظيم قد حبسه الله في الأرض فهو أبدا ثائر يضج ويرعد، ولا يبرح ينازع الأرض أن يفر منها!
وأعرف للبحر في نفسي كلاما؛ فهو يوحي إلي: أن تجدد تجد في آمال قلبك كأمواجي لكيلا تمل فتيأس؛ وتحرك ... تحرك في نزعات نفسك كتياري لئلا تركد فتفسد، وتوسع توسع في معاني حياتك كأعماقي لئلا تمتلئ فتتعكر، وتبحر تبحر في جوك الحر كرياحي
5
لئلا تسكن فتهمد.
كن مثلي جبار الحياة مجتمعا من ألين اللين وأعنف القوة، كن مثلي قديس الحياة واسع الروح نظيف المادة مستعينا لواحدة بواحدة
6 ... كن مثلي جميل الحياة ثابتا على الرقة والصفاء، وإن من وراء شاطئيك الرمال والحجارة وطين الأرض وناس الأرض ... كن مثلي حر الحياة محتفظا بالسعة والحركة والعمق، كن مثلي إلهي الحياة ليس بينك وبين السماء شيء يحجبك أو يحجبها، وعلى وجهك دائما أنوار الشمس والقمر والكواكب، كن مثلي شاب الحياة فلن تهزم أبدا إذا أثلجت روحك بالرضا فتبلل شبابك بأندائها، فعمرك كله عمر الفجر! •••
ولكن أيها البحر! ما هذا البريق الذي تسطع به حتى لكأنك تحت الشمس أرض من الزمرد والفيروز والماس؟
وما هذه الرقة في هذا الأديم الذي تتعرى به حتى لكأن كل موضع فيك عليه بضاضة وإشراق من جسم فاتنة عارية؟
بل ما هذا التوحش في هذا الموج الذي تزأر به زئيرا يتردد في كل نواحيك حتى لتلوح كل موجة من كل موجة كأنما هي لبد أسود بيض غاطسة في الماء يحمل بعضها على بعض للقتال؟
وما هذا الهدوء ساعة تستقر في جو خافت كهمس التسبيح فتبدو كقلب المؤمن رسب في أعماقه اضطراب الظن بالحياة، وطفا على اطمئنان التوكل على الله؟
وما هذه الثورة ساعة تستقر في جو صاخب كمعمعة المعركة، فتظهر كالمخبول ثارت خواطره فهن كأمواجك مبعثرة طائرة، وكأن زوبعة سكنت فيها؟ •••
ولكن أيها البحر! هل يقال لك: ما هذا؟ وما هذه؟
كلا، فما أنت إلا كذلك الجمال المعشوق: يسطع ويرق ويتوحش ويهدأ ويثور، وله الأشعة الزاهية البراقة، والعري الحريري المخمل، والزئير والهمس، والأعاصير والزوابع، ثم لا يسأل في كل هذا ولا مرة واحدة: ما هذا؟ وفي كل هذه ولا مرة واحدة: ما هذه؟ •••
ورأيت يا حبيبتي هذا البحر مضيئا ممتدا كأنه نهار أبدى أمسكته الدنيا؛ لينير النور في قلوب أهلها فإن النور يظلم فيها.
ورأيته كالمعاني الندية بثها الله من رحمته في جفاف الحياة ومعانيها، ورأيته استواء واحدا في وضع الجمال، ليس فيه موضع أعلى من موضع.
ورأيته دائم الترجرج كأنه متهيئ أبدا؛ ليسكب معانيه في فكر الناظر إليه.
ورأيته لا يحمل أن يوضع لإرادته حد فهو دائما يصدم الشاطئ كأنه يقوله له: اذهب من هنا ...! •••
رأيت فيه كل هذا ؛ لأن مثل هذا كله في جمالك أنت وفي معانيك.
فأنت بجمالك المشرق لمعة من نهاري.
وأنت بعواطفك رحمة من الله لقلب لولاك لجف.
وأنت بحسنك لؤلؤة كلها وضع واحد في الحسن.
وأنت دائمة الترجرج في خواطري دائمة الانسكاب في قلبي.
وأنت لا تحتملين أن أضع شاطئا لإرادتك.
وأنت، أنت، أنت ...
فلسفة المرض
«ولما برئ من مرضه كتبت إليه تسأله فلسفته في المعاني التي ينشأ المرض لإيجادها في النفس، فكتب هذه الرسالة وتجافى عن ذكر الحب فيها؛ إذ كان الشأن حينئذ شأن الحياة، وقد كتبها وهو في أعقاب العلة، ولولا أنها هي طلبت منه هذه الرسالة، وأنها أعجبت بها، وعدتها من آثارها فيه؛ لما نشرناها هنا».
خلقت نفس هذا الإنسان وكأنها ثلاثة أنفس، إذا كان دأبا لها أن تكون طامعة متلفتة وثابتة، فهي لا تكون على رزق ترزقه، ولا تثبت على حال تحول إليها، ولا تقر في منزلة تسفل بها أو تعلو.
وهي كذلك لا تبرح تنزع مما وجدته إلى ما لم تجده؛ لأن الشوق أحد عناصرها: ولا تنفك متقلبة تجعل ما ترضاه يوما هو ما تسأمه يوما؛ لأن الرغبة إحدى طبائعها: ولا تزال تتخطى حدود الأشياء؛ لأنها من الأزل بنيت على الخلود الذي لا يقف على حد، فالشوق الثائر في حاجة إلى فترة تكسر من حدته، والرغبة المجنونة في حاجة إلى ضعفة تهدئ من ثورتها، وخطوة الخلد التي لا تزال دائبة تتقدم، في حاجة إلى عثرة بمعنى من معاني الفناء المعترضة في طريق الحياة.
وبذلك يكون الإنسان دائما في حاجة إلى بعض الأمراض، لا ليمرض ولكن ليصح، إلا أنواعا من أساليب الموت تسمى أمراضا لا حيلة فيها، ولا يكن المريض معها إلا كالوعاء يشق؛ ليحطم وينتهي، لا كالوعاء الذي يصب ما فيه؛ لينظف ويملأ ويبتدئ.
فالمرض الرحيم وضع النفس في وثاق يمسكها حينا؛ ليحبسها على تأمل حقائق الحياة المغطاة، ويكرهها على أن ترى الدنيا أهون من أن تصغر لها نفس، وأحسن من أن يسقط بها قلب، وأحقر من أن تتهالك عليها الأحياء، ثم ليريها رأي العين أن العالم مصبوغ بأخيلتها الوهمية التي نفضت عليه ألوان الجنة فأفسدته بهذا التمويه، وتركت أهله يتكذبون في أوصافه فيخطون في حقائقه وجعلته كالقمر: هو في ذاته حجر مظلم، ولكن ذهب الشمس يجعله كله فضة بيضاء.
إنه لا يفسد الإنسان إلا الغرور، ولا يكون الغرور إلا من الطيش ولا يطيش بالرأي إلا سوء التقدير، ولا يكون هذا السوء أكثر ما يكون إلا من بلاء العافية على الإنسان ... وإن من بلاء العافية ثلاثا: عافية الجسم، وعافية الهوى، وعافية المال، فأما الجسم: فأقرب ما وجدته إلى الحيوان الضاري الخبيث أشد ما وجدته قوة وعافية، وأما الهوى: فلم يخلق الله شيئا كل هلاكه في قوته غيره، وأما المال: فعافيته في رجل واحد مرض في ألف رجل إلى ألوف كثيرة، فهو حصر الدنيا كلها في بعض أجزائها.
فكأنما تطوف الأمراض في هذا العالم؛ لتصلح نواحي الإنسانية فيه، فتضعف الحيوانية، وتكسر شرة الهوى، وتكف طغيان المال عن النفس حتى لا شهوة فيه ولا قوة له، ولو جمعوا ما أصلحته الأديان والقوانين من أحوال النفس وطباعها، ثم ما أصلحته الأمراض منها؛ لرأيت أن لله أنبياء من هذه الأمراض يرسلها إلى الدم الإنساني، وأن «الميكروبات» السابحة في الهواء كالأملاح الذائبة في البحار: لولا هذه؛ لتعفنت الأرض، ولولا تلك؛ لتعفنت الإنسانية. •••
تأمل هذا المريض وهو حائر النفس، متخاذل الأعضاء، كاسف الوجه، ميت الهوى، لا يتماسك مما به من الضعف، ولا ينبعث لما به من الخمود؛ ولا يتشهى لما به من الفتور، ولا يتذوق بما به في روحه من المرارة، ولا يجرؤ لما في حسه من الإشفاق، ولا ينظر إلى الدنيا إلا بملء عينيه زاهدا فيها كأنما بث المرض في عينيه شعاعا ينفذ الأمور إلى حقائقها، ثم يخترق الحقائق إلى صميمها ... أفلا ترى هذا الإنسان قد عمل فيه مرض أيام قليلة ما لا تعمل العبادة مثله في أزهد الناس إلا في السنين المتطاولة؟
إنما هي ثلاث وسائل للجمع بين الإنسان وحقيقته العليا: العبادة القوية ، وقد عجزت إلا في أفراد قلائل، والحكمة الصحيحة العالية، وهي أشد عجزا إلا في الأقل. ثم لم تكن الوسيلة العامة التي تتناول الناس جميعا، ولا يستعصي عليها أحد ممن أطاع أو عصى، إلا المرض ...!
يوجد الإنسان ليمحى ويزول، ولم تتمكن الفضيلة الإنسانية من نفس إلا إذا تمكنت هذه الفكرة منها، فإن الزائل يرى ليومه ما بعد يومه، ويعلم أن حقه على الناس ليس شيئا أكثر من حقوق الناس عليه، ويحتاج إلى العمل لروحه كما يعمل لجسمه، وما يكون زاد الروح إلا من آثارها في الأرواح الأخرى، ومن آثار هذه الأرواح فيها، فإذا كانت حقوق الأجسام تدفع الناس إلى التنازع على البقاء، فإن حقوق الأرواح تقابل هذا الناموس بما يصلحه، فتزيد في الناس إلى القوة الرحمة، وإلى الغنى الإحسان، وإلى العزة المروءة، وإلى كل طغيان ما يمازجه فيكف من جماحه، ويجعله إلى الخير أو من الخير.
وإن أعجب ما في الإنسان أنه يرى الموت والموتى بين الساعة والساعة، ثم لا يستشعر من كل ذلك معنى زواله. كأن عادة الحياة أخمدت هذا الحس فيه أو خملت منه، وما هو إلا أساس التعاطف الإنساني، ثم لا يكون إلا أن يمرض هذا الإنساني يوم، فإذا هو قد تلقى الدرس على أحكم أساتذته، ورأى نفسه كان يمشي فقعد، ويستطيل فتقاصر، ويشمخ فانهد، ويسر فحزن، وإذا هو قد بدل من الصوت خفض الصوت، ومن الإعجاب مقت الإعجاب، ومن الخلاف ترك الخلاف، ومن جفوة الناس حاجته إلى رحمة الناس ... ثم إذا هو قد أمسك عن كل ما كان فيه من العمل، وأقبل على الصحراء المخيفة التي بين الدنيا والآخرة، وأحس من غمزة يد الله في مواضع آلامه أن الإنسان مهما يكن من قوة الأسر وشدة البأس فما هو بعد إلا حبة صغيرة واهنة بين شقي هذه الرحى العظمى الدوارة التي حجرها الشمس والقمر! •••
سبحانك اللهم! إنما هذه الأمراض أخلاق أنت تنشئ بها الرحمة في قلوبنا المتحجرة، وتصرفنا فيها إلى نفوسنا بعد أن نكون قد جهلنا هذه النفوس في أعمال الحياة أو جهلتنا، وتعلمنا جميل صنعك في تواتر حلمك علينا مع قبيح صنعنا في ترادف عصياننا لك، وتنقلنا بها في خطوة سريعة من خطر الأزلية؛ لنرى الدنيا من آخرها فلا نجد نعيمها إلا معاني الهلاك، ولا ملذاتها إلا أصبابا من الندم، ولا غناها إلا فنونا من الحسرة. ثم لا ننظر في أجسامنا إلا أشكالا قائمة من التراب، ولا نعرف من أعمارنا إلا أنفاسا كانت تصعد من فم القبر، وإذا أذنت بعد في شفائنا، ومسحت بيد العافية علينا، كانت الأمراض وسيلة من وسائل تجديد العمر، وخرج المريض وكأنه مقبل على الدنيا من ناحية لم تكن فيها؛ فينسم من كل شيء رائحة الحياة، ويرى على كل جمال أثرا كأثر الحب ولذته وحنينه، ويستقبل نفسه الراجعة إليه في موكب الحواس القوية، فلا يكون له إلا ما قد يكون مثله في الملك المخلوع أعادوه إلى العرش؛ فجاءوا بالتاج، وأقاموا له الزينة، وحشدوا له الحفل، وقالوا: سمعنا وأطعنا!
سبحانك! إنما هذه الأمراض مواعظ منك تعلمنا كيف نضع شهواتنا في موضعها من الضرورة، ونحصرها في حدودها من الازدراء والمقت، فلا تعدو بطبائعنا علينا، ولا تعدو بنا على سوانا، وإنه ما يخطئ امرؤ في الحياة إلا من إقرار شهواته في غير أمكنتها حتى تأخذ من عقله، وتنال من رأيه، وتجور على حواسه، فيقلبها ذلك من أن تكون حركة في الحياة إلى أن تصير الحياة كلها حركة من حركاتها: وحينئذ لا تكون الشهوات إلا أكثر مما هي، فتقتضي أكثر مما تستحق من الجهد والعمل الإنساني؛ ولا تكون الحياة إلا أحقر مما هي، فلا تخرج إلا أقل ما يمكن أن تخرجه من القيمة الإنسانية.
سبحانك اللهم! إنما هذه الأمراض في الدنيا بعض مواد البحث الفلسفي العميق لدرس أساليب الطبيعة البشرية، فكم من «عملية جراحية» في طب الناس هي الحقيقة «عملية حسابية» في وزن هذه الطبيعة وتقديرها، وكم من أنة وجع في المرض وهي نفسها كلمة عتاب بين الطبيعة والنفس ... وكم من ضجعة للداء هي في الواقع نهضة للأخلاق من ضجعتها.
سبحانك ولك الحمد إن ساعة النجاح، وتحقيق الآمال، وانتعاش الحظ، وتبديل صورة من الحياة بحياة غيرها تكون أسمى وأكمل ... وساعة الغنى وإقبال الدنيا ومسالمة الأيام، وتزيين الحياة بحياة أجمل منها وأبدع، وساعة الحب وفيضان الجمال على النفس، ونسيان الحياة بالحياة التي هي أمتع منها وألذ - كل هذه الساعات لا تعد إلا دقائق وثواني من السعادة إذا اتفقت بعد المرض ساعة الحياة ساعة رجوع الصحة!
يوم النوى
يا ظلة الموج يطغى البحر منتفضا
بها، كأن جبل في البحر يقتلع
تظن زلزلة في الماء قد جلست
أو لا، فزوبعة في الماء تضطجع
تقلقلت، فاستطارت فانثنت، فهوت
فأطبقت، فارتمت كالرعب تندفع
على غريق بحبل الماء معتصم
والحبل في لمسات الكف ينقطع
له بقية روح في أصابعه
ينازع الموت فيها وهي تنتزع
بين الحياة وبين الموت مرتكس
1
يقيئه البحر أطوارا ويبتلع
أذاك أعظم هؤلاء في فجيعته
أم المحبون في أحبابهم فجعوا؟ •••
يا لطف نفسي للعشاق! تحسبهم
يوم النوى نزعت من قلبهم قطع
الحب قاتلهم بالصبر إن صبروا
والحب قاتلهم بالهم إن جزعوا
إن ودعوا ذاهبا لم تلق حزنهمو
من أنه سار، بل من أنهم رجعوا
ربي، متى تهب الأحزان مخترعا
في هذه الأرض للنسيان يخترع؟
الهجر
«ولما تهاجرا كتب هذه الرسالة
1
فيما كتب لنفسه»:
رسم الماضي من الحب صورته في نفسي، وأتى الهجر يمحوها، ويرسم غيرها، ففيما يثبته، ألم الأيام المكروهة تأتي؛ وفيما يمحوه، ألم الأيام المحبوبة تذهب، ومضى الزمن الذي يومه ساعة، وجاء العهد الذي ساعته يوم وأيام، وانقضى عمر الحقيقة، وبقيت من الحادثات كأنها قبر من اللغة قد أنزل فيه تاريخ حب مات!
وكما ينزع المرض عافية لبسها الدم، نزع الهجر أيام قلبي، وتركني في أيام كأنها من غير زمني، ووضعني منها في حياة كأنني لا أحياها، وانتهى بي إلى حالة كأنما وقفت الحياة عندها، وقالت لي: سر وحدك وعش في آلامك لا في!
هي حالة النار التي كانت مشبوبة، وتهم أن تخمد فتقول للأثر الذي تخلفه: عش وحدك يا رمادي ...!
أما إني مثلك يا رماد الجمر: قطعت حياة اللهب والشعاع إلى آخرها المنطفئ ... •••
أية عاصفة احتملتني من أيام الشمس وليالي القمر، وألقت بي في هجر منقطع كليالي القطب المضيئة بجبال قائمة من الثلج كأنها شموع تنير في ذلك الهول المحيط بها؛ إذ لا تظهر فيه النجوم على سمائها إلا كحصى من الجليد، ولا تمر الشمس هناك في أفقها إلا وهي ترتعد من البرد؟
كان الجو العاصف كلمة غضب صغيرة، ولكن أرادها قلبي بمعنى، وأرادها قلبها بمعنى غيره، فلم يبق للكلمة على ما أردت وأرادت لا معنى في نفسها ولا معنى في نفسينا، وبطل منها عمل اللغة فإذا هي قدر عات لا زمام لنا من الفهم على جمحاته.
كلمة كانت من المادة النفسية المشتعلة بالعناد، المنفجرة بالغضب، المصوبة بعد ذلك كالرصاصة المنطلقة! لا تراها بدأت إلا قلت انتهت، وربما قالوا: رميت، والمعنى قتلت، وإذا قيل في الرصاصة المنطلقة قد ذهبت، فاعلم أنه قد مات من اللغة إلى الأبد لفظ رجعت أو ترجع ...!
وعلى ظهر كلمة الغضب وضع الماضي رحاله المملوءة جمالا وفكرا وعاطفة ولذات، وانحدر على طريق النسيان فذهب حديث لا يلحق، ورمى إلى حيث لا يعود!
ألا ما أشأم الساعة التي تعارض فيها كلمة قلب كلمة قلب آخر يحبه، وتقف لها كبرياء معشوقة بإزاء كبرياء تعشقها، وتضيق نفس على نفس تحاول كلتاهما أن تحبس الأخرى في سجن كلمتها!
تلك ساعة تكون والله بين العدوين أخف وأرحم مما هي بين الحبيبين، ولعمري وعمرك ما التقاء العدو بعدوه في مناجزة إلا صورة هم وروع مصغرة من صورة ابتعاد حبيب عن حبيبه في هجر ... إن معركة الدم لأصغر من معركة الدمع! •••
كبرياؤها الآتية من أنها هي المعشوقة، وكبريائي التي أستشعرها من أني أنا محبها، كلتاهما كانت العزيمة الهائجة المحتدمة التي أدت شدة المبالاة فيها إلى عدم المبالاة، وجمعت منا جهلتين غير مبصرتين، واستكبر لها الواقع المحدود، فانتهى من غضبه إلى سورة معركة، واندفع بها التيار الذي جعل يزحزحنا واحدا عن واحد حتى فصلنا انفصال شاطئين، وفقدنا ما يسمى في اللغة السياسية: «إدراك حقيقة الحالة» فانثترت بيننا ما تسميه تلك اللغة: «بالمسائل الشائكة» وأصبحنا من حيرة وعجز وسوء بصيرة في مثل الحالة التي يطرح فيها اللغز لحله فإذا منه لغز آخر، وكان عقدة ناعمة كملمس الحية فانتهى إلى مس السم الناقع، ثم ضلت في ضلالنا الكلمة التي كانت تصلح للصلح، وضاق عنا الحب بأخلاقه فلم يبق مني ومنها غير «لا» قائمة في وجه «لا». •••
إنه الموقف العقلي المصبوب على قالب فلسفتها حين تقول إنك لن تحكمني، ولو أنك في الواقع تحكمني ... وعلى قالب فلسفتي حين أقول: إنني لن أغلب في شيء، ولو أنني في كل شيء مغلوب! ...
كلمة بيننا ليس لها ناهية ولا آمرة من العقل، فلا تنزل في خاص معناها، ولا تقر في معنى يمسكها على وجه مفهوم، وكأنها في موضع مسحور لا يستقيم فيه برهان، ولا يحق حق ولا يبطل باطل، وفيها ملء القفر من الإصرار الجافي الموحش، فإذا تقدمت لها شفاعة الحب لم تقع من كلينا إلا بأبعد البعد: كالذي يضل في صحراء فيظمأ ويلتاح، ثم يذهب يحفر عن بلة أو جرعة، حتى إذا أوشك أن يذبحه الظمأ بنصل من خيال الماء عثر على إناء مختوم فيفضه فإذا فيه جرعة تاريخ قديم ... تنبئ عن مدن وأطلال، ودولة وشعب كانت هنا ... هنا في موضع قبره هو ...!
وليس التعب أشد شدة ولا أثقل ثقلا من موقف عقلي تقفه مغالب نفسك على حقيقتها، فتبغض أنت وهي عاشقة، أو تماري وهي مقتنعة، أو تجحد وهي تقر، أو تعزم العزمة وهي تنقض عليك، فأنت في تزوير فكرك على نفسك، وفي رد نفسك على الفكر، ثم في التواء حقيقتك التي جعلتها محركا واحدا يعمل في حركتين متناقضتين، ثم تهلك بعناد باطل تزعمه ضروريا لنفسك على أن يكون كفكرة فقط وأما كعمل فلا، على حين هو واقع عملا فقط وأما كفكرة فلا ...
ويحك يا من يزعم لأحد الشاطئين رجلا يمشي عليها؛ ليتخلص من مقابلته الشاطئ الآخر ، ومن تقييده بمضادته وممادته على مداه! أرأيت ذلك يكون قبل أن يكون للبحر الذي بينهما جناحان فيطير من بين شاطئيه ...؟
ويحك! فما معنى الهجر والمراغمة عليه، ولم يطر من بينكما الحب؟ •••
أتجنبها وهي في وجودي، وأحطم بعقلي هذا الفؤاد الشعري الرقيق الذي بين جنبي، وأتخذ لها في نفسي من الهجر اسما جافا يابسا كاسم الحطب، وهي باقية زهرة هذه النفس!
إن هنا وهناك وهنالك ثلاثة مواضع للغيظ وللكمد، ولكنها أيضا ثلاثة مواضع؛ لعظمتي وسموي. إنه لا صلح لقلبين لم يصطلح فكراهما ...!
فآه من ألم السمو الذي يجعلني أفرق حياتي على الأشياء والمعاني؛ لتتغير في نفسي، وأعيش أنا في مثل هذا الهجر على المعنى الذي لا يتغير كمعنى البلى، ولا يتسامح كمعنى الضغينة، ولا يترخص كمعنى العقيدة!
وآه من كبر النفس على صغائر الحياة، ومن صغائر الحياة على كبر النفس! ولقد يكون الملك العظيم في حشده وجنده وحوله وطوله، ثم لا تعبأ ذبابة من الذباب أن تقع على وجهه، ولو نطقت لقالت صادقة: وإن كان ملكا فإني ذبابة ...
وآه من عين الحكمة التي تبصر كرة الأرض هباءة طائرة في اللانهاية، وترى الكون العظيم ذرة مكبرة، وتضاعف الأشياء على النفس مرة، والنفس على الأشياء مرة أخرى، ولا تبرح تخلق خلقها على ما تحب وتكره؛ لأن فيها ألوهية الفكر!
آه من هجر هو سمو ولكنه من الصغائر، هو حكمة ولكنه من الألم ... هو هجرها لكنه هو حبها!
من قلمها
«وهذه فصول منتزعة من بعض رسائلها نشرناها مقتضبة تلمح بمعانيها لمحا؛ ليكون في هذا الاقتضاب شيء من الإبهام، فتكون مع الإبهام كأنها لم تنشر ... ما دامت هي لم تكتبها لتنشر كما تزعم
1 ».
فلسفة تأخير الرد
أخرت جواب رسالتك؛ لتجيب عني بظنك، وستجيب بأنواع متناقضة مما يسوؤك ويسرك، وتضع في أجوبتك مائة «نعم» ومائة «لا» ... ثم يأتيك بعد كلامي فينزل من نفسك منازل لا منزلة واحدة؛ إذ تقابله بكل ما قدرت في نفسك من قبل، فيسرك على قدر ما أحزنت هذه النفس، ثم يعطيك من اليقين ما يسرك من ناحية بإثبات الحقيقة، ومن ناحية أخرى بمحو الظن!
هذه سياسة بعض ما يحتاج إلى الشرح في بعض علاقات النفوس يكون السكوت الطويل فيها هو أول شرح للكلام الذي يأتي بعده ... يفسره تفسيرا غير مكتوب ...!
طفولة فلسفية
أظن هذه الفترة التي انقضت في سكون ظاهر كانت كلها أحاديث، أحاديث طويلة لو تعلم.
إذا أنا سألتك مرة: أين البرهان؟ لم يعجزك أن تأتي به من بلاغتك، وقد لا تكون ثمة قضية يقوم برهانها، ولكنك تجعل البلاغة الساحرة نفسها قضية على ما ترسم، كأنك مهندس منطق ... وبذلك تطمئن دائما؛ لتأثيرك قوة براهينك، أي لإقناعي أنا راضية أو غير راضية ...
أما أنا فأقدم برهاني بسذاجة الأطفال الذين لا يعرفون ولا يستطيعون إلا أن يكونوا أطفالا ... وأقوى برهان الطفل أن يكون الطفل نفسه برهانا عليه، فما عساك تقول؟ أترى الطفل هو عندك أيضا قضية بلاغة؟
لله من الكناية إليك! ما أشدها طربا وأشدها صعوبة في وقت معا! فأنا أخاف لأنك تستشف من الأحرف ما لا يتبينه سواك من الصفحات، وغريب أنني - مع شدة هذا الخوف - لا أكاد أمسك القلم حتى أسير به أو يسير بي أو نسير معا: ليس في أحدنا تروية ولا حذر، كأنني أخاطب نفسي، أو هو يكتب مذكراتي، أي من قلبي لقلبي. أتعجبك هذه الطفولة في الحديث؟
نعم هي ألفاظ كالتي في ألسنة الأطفال، لا كتلك التي في الكتب أو في صناعة البيان، ولكن إذا أنت لم تغض عن ظاهرها فأين إذا الحفاوة بالمكنونات التي لا يراها إلا من خبئت له؟
قياس الأشياء في الحب
كم أراك تحتاط بطريقة ناعمة لا تصدم كبرياء النفس إلا قليلا! ولكن أيذهب عنك أنها حين تصدمها قليلا تكون صدمتها وكفى ...؟
ليس كل قليل هو قليلا
2
ولا كل كثير هو الكثير، فقياس الأشياء بين الأصدقاء لا يكون في الأشياء ذاتها؛ بل في صلة الإحساس التي تكون في أنفسهم: لأنها إنما تقدر بمقادير الشعور لا بمقادير المادة ... أما رأيت هذه الصلة الوثيقة أيام كنت مريضا قد جعلتك مريضتين ...
إذا كنت على ثقة من هذه القضية، فانا الآن راضية عن هذه الابتسامة الطويلة التي أثق أنك تبتسم بها، وإن كنت لا أراها!
البربرية
باركت الوخزة التي فجرت منك هذه الآيات الساحرة، وكدت أدعو لك بالآلام والأوجاع ما دمت لا تكتب إلا من جرح ... أتعجبك تمنيات هذه الصديقة البربرية؟
ألا فليهنأ بك هذا القلم الذي أوتيته، فإن ما كتبت به سيبقى دائما على آفاق هذه اللغة سحابة وحي تحمل تنزيلها.
وتالله من يتذوق طعم هذه الحلاوة التي تقطر بها براعتك؛ ليظل من بعدها في جوع دائم إليها كجوع الأغنياء للذهب.
أراك تبتسم الآن بسمة الرضا: أفيعجبك ثناء هذه الصديقة البربرية؟
السيد
تقول: إن حبك مسرف، وعداوتك مقتصدة، وإن هذا الحب كخضوع المستبد، والاستبداد في نفسه قوة، فهو إذا خضع كان واثقا أن خضوعه قوة أيضا، وإن هان وإن ذل.
يا صديقي السيد ... نعم ثم نعم، ولكن كلمتك تجعلني أرى في صلتنا هذه نوعا من تطفل الفتاة على سيادة الرجل؛ إذ تقتحم بها الفتاة، وإذ تجرؤ على ألا تضع هذه الصلة فوق موضعها الطبيعي؟ إن هي إلا خضوع وطاعة وعبودية للسيد ...
أليس كذلك أيها السيد؟!
أما والله إن الرجل مهما يغلب نفسه، ويحملها على الرقة؛ ليصلها بنعومة الأنوثة من جانبها المصقول الناعم، فلا بد أن تغلبه نفسه مرارا حتى تظهر حقيقته الجافية الخشنة التي خلق منها ولها ...
ولو أن حجرا أحد جوانبه ماس ثمين، وسائر جوانبه الأخرى حجر، ثم مسته الحياة فتمثل بشرا سويا؛ لكان رجلا متحببا متظرفا مثلك يا سيدي، وهو من جانب واحد يعتبر الحب، أي الماس، ومن ثلاثة جوانب يعتبر السيد أي ... أي الحجر ...!
السيد أيضا
لا يسؤك أيها الصديق! فوالله ما أنا بالتي ترغب الإساءة إلى عدو، فكيف بها إلى صديق وإلى صديق عزيز؟ أيغضب السيد من وصفه بالسيد؟
ولكن ما كانت الصداقة لتحمل في يدها ميزان العدل لكل كلمة، وكل معنى، وكل إشارة؛ بل إنها لتصفح كثيرا عن كثير لتجعل الحق الذي لها أن تستوفيه كاملا كأنه حق عليها تؤديه كاملا، فتكبر بتسامحها وتنمو.
كن أنت الحاكم على نفسك انتصافا؛ لما ظلمت به نفسا أخرى.
وإني أهز يدك بقوة تؤكد لك أن حرارة الإخلاص هي أبدا قوية من أنها إخلاص، متجددة من أنها قوية، باقية، ما من أنها متجددة، وبكل هذا هي الحب وهي الصداقة!
هو المرض ولكن
نعم هو المرض الذي استحق مني كل هذه العناية، ولكنه المرض على أنه في جسمك ...
أنا إنسانية أعطف على كل أحزان العالم، ولكني لو تألمت لكل المتألمين؛ لما أثاروا في نفسي إلا الجزء الأصغر مما تثيره في آلام صديق.
لو تألمت بنفسي أو لنفسي لاحتملت، ولكن ألمي بك، وشفاءه فيك، فهو ألم وجزع واضطراب، أتألم بثلاثة من حيث لا تتألم أنت إلا بأحدها ...
نعم هو المرض الذي أثار في كل هذا، ولكنه المرض على أنه في جسمك!
جو طليق وحرية
أنا كما تقول: في الجو الطليق، وفي حريتي المعبودة؛ يحويني الفضاء وأحويه، ولا قيد ولا حد، ولكن مع كل هذا فهناك هناك في الجو جاذبية، وهنك للحرية أشواق، وما يعين لنا حدود مسراتنا إلا آلامنا ...
أضيفت كلمتك ... إلى سجل هفواتك في حق هذه المخلوقة التي لا ذنب لها سوى طيبة نفسها، ومن استحق أن تكون طيبة نفسه من ذنبه فقد استحق أن تكون من عقابه عند نفسه أتريد مني التوبة عن أن أكون لك طيبة النفس؟
افتح للشمس
أعجب لقلبك، يأبى إلا أن يحتبس في هذه الفكرة المظلمة التي توهمك أني أسأت إليك، وقصدتك بالمهانة ... هل القلب يعادي صاحبه أحيانا فيعاديك قلبك، ويأبى عليك إلا أن تصر وتكابر، وتغلق النافذات كلها، ثم تذهب تتهم الشمس؟
ما حيلة الشمس في الحيطان والأبواب التي أنت تقيمها؟ افتح لها تدخل إليك!
طفل الحب
كيف قلت عن الطفل الذي أشرت إليه؟ أما تعلم أنه طفل خبيث لا يستحق الرحمة الواجبة للأطفال من كل طبيعة، وأنه ذو مكر، وأنه ذو دعابة، وأنه يريد كل شيء قبل أن يفكر في إعطاء شيء؟
إنه يظن أن كل ما يعطاه فإنما يطعاه؛ ليجعله ألعوبة ومعرض عبثه، يلهو به، ويسخر منه إذا كده اللعب أغمض عينيه ونام؛ ليجد من الأحلام لذة لعب آخر ... ثم لا يلبث أن يهب من نومه فزعا خيفة أن تكون ألعوبته قد أخذت منه، ولكنه يجدها فينقلب إلى زهوه، ويكون فزعه كذلك فنا من اللعب: ألمثل هذا الطفل تفتح ذراعيك؟
ولكن، ما أكرم عاطفة الرجل الذي يكون في ساعة من الساعات ألعوبة طفله العزيز! إنه في الحقيقة عالم جميل من الرجولة القوية يكتشفه الطفل ساعة يلعب به ... وفي هذا اللعب يكتشف الرجل كذلك في طفله عالما آخر أبدع وأجمل عالما من عواطف قلبه.
الطفل وذئبه
تريد أن أوافقك على ضرورة إيجاد الذئاب لبعض الأطفال ...؟ هذا ما لا أسلم به إلا إذا أصبح الذئب حملا، وتغير فهم اسمه ومعناه.
لست أرى من الواجب أن توجد الطبيعة إلى جانب الطفل شيئا مما يخيفه، ومع هذا فالطفل جبان يخاف حتى من تغريد البلبل إذا سمي له البلبل بغير اسمه، وصلصلة السلاح تخيف الطفل كالسلاح، ذلك بأنه لا يقوى لا سلبا ولا إيجابا، لا على أن يثبت لما أمامه، ولا على أن يفر مما أمامه ...
أيعجبك هذا أم أنت تريد أن تنكر علي هذا الحق الذي أسلبه منك؛ لتعرف قيمته حين أرده إليك ...؟
من بعيد
أكاد والله أنسى أنني بعيد عنك هذا البعد كله، بعدا يتقاذف بكلماتي مسافات ومسافات إلى أن تؤدي إليك شعوري، ولا أعلم هل يسلبها البعد هذه الصيغة الحقيقية التي أراها لها وأنا أكتبها، وأراها لها حين تتركني ذاهبة إلى البريد؟
وأنا - على هذا البعد - يوم أقرؤك أراك وإنك لأقرب إلي ممن هو أقرب إلي، وأشعر بالكلمات حارة متنفسة بين يدي كساعة كتابتها، كأن قلبي كان عندك وأنت تكتبها فلما جاءته جاءته على عهده بها!
هناك - مهما ابتعدت - دائرة أنس لنفسي تسكن إليها وتتعلق بها، ولا تجعل محيط أفكارها إلا منها، فأنا بنفسي في هذه الجهة البعيدة التي تفصلك عني ، ولكني بها أيضا في المكان الذي أنت فيه.
وهم الجمال
«وبعد أن تكافأت مقادير نفسه، واعتدلت من اضطرابها، وأشرف على السلوان، كتب هذه الرسالة»:
1
هذه رسالة أحسبها قد برئت في معناها من السلوة والحب جميعا، وخرجت بموضعها عن الرضا والغيظ معا، ولم تجئ من برد على الكبد، ولا من حرة في الصدر، فلا يخيل إلي فيها أني أنسكب في تعبيري كما كان يعتصرني هذا القلم في غيرها حنينا وغراما أو سخطا وموجدة.
أكتبها وقد تكافأ جانبا الحب في نفسي هونا هونا، واعتدلت مقاديرها شيئا شيئا، فلا أعتد بسبب تصغر به الحقيقة الكبيرة، أو تكبر الصغيرة، أو يجاوز بمعنى حده، أو يقصر بمعنى آخر عن حقه، ولا أحجر فيها على كلام صحيح أن يتصرف بقدر أدلته وبراهينه؛ لما أخشى من سوء موقعه في الحب، ولا أطلق فيها لكلام مزور أن يتزايد في مغالطته وكذبه؛ لما أرجو من حسن أثره عند الحبيب.
وأكتبها وقد أصبحت أرى وجهها الذي تحمله كالصورة، يحملها الحائط
2 ... وعدت أراها هي وأمثالها من الحبيبات كفقاقيع الرغوة في ألوانها وجمالها وانتفاخها ... وفراغها ... وصرت أعتقد أن الهول الهائل من النساء الجميلات إن هو إلا كذلك الرعب المخيف من جبال الثلج، في القطب: لا يمسك الجبل الشامخ بما حوله إلا خيوط واهنة من غزل الماء لو قطعتها نسمة؛ لانهار وانكفأ.
3
وأكتبها وقد خرجت إلى دنيا الناس، وكنت في الحب وإياها كالمنقطع في صحراء ضل فيها ضلال القفر، واختبل من خبال الوحشة، فهو يرى اجتماع اثنين في ذلك التيه وقيامهما معا كأنه تكوين دولة من الدول العظمى ... •••
إن البلاغة التي كتبت بها رسائلي من قبل، وما احتلت لها به، وما صورت من فنونها - هي بعينها التي تنتهي في هذه الرسالة إلى أن جمال المرأة الجميلة، ليس في ذات نفسه إلا أسلوبا من الخداع، كالذي يكون في تزويق الكلام وتمويه الحقيقة ببلاغة التركيب، غير أنه أسلوب حي في لحم ودم، ثم تزيده المرأة بفنونها وتعمية؛ لأن جمالها في صورة أخرى من صوره الكثيرة هو نفسه الرقق والاستعباد محببا في خلقة جميلة؛ ليطلب ويعشق. استعباد حي متى بدأ استمر يقوى ولا يضعف، وينمو ولا ينقص، ومن هذا كان قيد الجمال لا يفك أبدا إذا غل به أسيره من العشاق، بل يكسر كسرا، ويصبح فيه أمر العاشق من حبيبه كالاستقلال في الأمم المستعبدة: لا يعطى بل يأخذ، ولا بد فيه من الجرأة والمصابرة والاقتحام وسلاح من الأسلحة أيها كان، إما حاطما أو مفزعا أو متهددا أو محتالا أو سلاح الرضا أو سلاح الثمن ... وما إليها لا بد من سطوة ينقلب بها الأسير المستعبد إلا أن يكون مالكا بوجه من وجوه التملك في تلك المنطقة الإنسانية السحرية المسماة في لغات الناس بالحبيب ... •••
فكأن الجمال في حقيقته وسيلة طبيعية لخداع صورة بشرية بصورة بشرية مثلها؛ ومتى كان كذلك فلا حقيقة له في الوجود، ولم يعد صورة في الطبيعة، بل عملا أداته الصورة، ومن ثم فلن يكون الحب إلا إسرافا لا قصد فيه، وخيالا لا عقل له، ولن يكون في حقيقة بل في وهم، ومن ذلك ظن فلن يكون أبدا إلا تغييرا في معاني الصورة الجميلة! فإن الإسراف لا يثبت على حد محدود، والخيال لا يقف عند شيء حقيقي، والوهم لا ينحصر في معنى صحيح.
وفكر المحب كالسائل الذي يغلي. فما دامت ناره من تحته فهو كله لا مقر له بين أعلاه وأسفله، وما دام يهدر على فورته
4
فكله في الأعلى، وكله في الأسفل، وكله بين ذلك، ولا قرار له على وضع إلا أن ينكسر وينفثئ.
5
وكل شيء جميل في الطبيعة تراه يتخذ من هذا الأصل شبها عند متأمله والناظر فيه، حتى لكأن الجمال يقول للإنسان: إذا أردت أن تسر أيها الإنسان وتبتهج بي، فلا تفهمني في نفسي أنا بل في نفسك أنت، ولا تأخذني على ما أنا للوجود والطبيعة بل على ما أكون لك ولأغراضك، ولا تدعني لذاتي بل غيرني في وهمك وخواطرك، فإنك إن غيرتني فقد خلقتني، وإن خلقتني فقد جعلتني لك. •••
وعلى ذلك الأصل فجمال المرأة المشوقة إن هو إلا خرافة رجل من الناس، وبكونها خرافة عادت لا حقيقة لجمالها، وكأن الحب إن هو إلا زيادة شعاع في العين تنظر النفس به نظرا نافذا إلى موضع لذتها أو فكرها أو هواها، فإذا خطف هذا الشعاع على من يضيء في وجهه بالحب، نقل إليه النفس ببقيتها ووهمها جميعا فاختلطا على تلك الصورة فهما هناك شيء واحد: الوهم هو اليقين واليقين هو الوهم، فكل شيء من ذلك الجمال هو عقيدة ثابتة لا موضع فيها لجدل، ولا مساغ لنقض، ولا محل لرد، وحينئذ لا يكون أكبر عمل المحبوب في سياسته وتدبيره إلا أن يلم أو يوفق بين عقله هو وبين جنون عاشقه، وأن يحاول الملاءمة بين حياة الخيال الشارد في إرادة هذا المجنون وبين حياة الواقع الراهن فيه هو، وبذلك فلن ترى حبيبا إلا هو من محبه بمنزلة الطبيب من مريضه، يطب له أو يزيد في علته، أو يهلكه ... هذا حين ينبعث ذلك الشعاع، فأما حين يخمد فمنذا الذي تراه مطيقا أن يصعد السماء إلى النجم الذي انطفأ؛ ليضيئه كما كان يضيء ...؟ •••
أقول: إن الحب زيادة شعاع في العين، كأنه كهربائية تتفاعل في مركز البصر من الدماغ فينقدح منها ضوء على النفس متلون نافذ لا يثبت فيه حقيقي من المرأة على حقيقته، ولا يظهر فيه شيء إلا مصبوغا مغيرا، ولا يرده راد عن أن ينفذ إلى منتهاه، حتى لينكشف له المستور وهو في أستاره قد توارى، وما من حبيبة تجلس إلى محبها المفتون بها إلا هي تحت بصره كالعارية وإن لبست ما لبست؛ لأنها بالحب جسم حي من أفكاره وهواجسه ونزعاته.
6
ولو بقيت عين المحب على عنصرها؛ لكان الجمال في روح الجميل وشمائله وطباعه لا في وجهه وجسمه وزينته، ولعل أجمل نساء الأرض حينئذ لا تكون إلا عجوزا من العجائز ... ثم عسى أن تكون أشد النساء فتنة أشدهن قبحا ودمامة، وأبعثهن في معاني الشهوات على النفرة والجفوة والاشمئزاز، وهذا إن لم يكن هو الواقع في اعتبار العين والخيال والحب، فهو الواقع في اعتبار الفضيلة والحقيقة والكمال. •••
إنما التركيب الجميل في الشكل الفاتن إتقان للكذب بهذا الشخص على حواس عاشقه، وهو لن يحب ويعشق حتى تكون معاني هذا الاتقان موزعة على تكوينه وقسماته وتقاطيعه ومعارفه ومجاهله ... كأن جسمه بكل ما فيه عبارة مركبة يؤخذ المعنى من جملتها كلها، ولكن كل جزء فيها يسوق إلى هذا المعنى، ولذا تظهر الصورة الجميلة الفاتنة كأنها انتباه نفسي محتفل مستوفز يشد ويتوثب ليزيد، ويتكسر ويتقتل ليزيد أيضا، ويخلق حوله من الثياب والزينة والفتنة جو الأشعة والألوان والنفحات ليزيد كذلك.
وهل رأيت قط كذبا يصلح كذبا أو خداعا يكون خداعا إلا وهو قائم على مثل هذه الحال من التنبه في النفس؛ ليتغطى ولا ينكشف، ويبقى ولا يضمحل؟ ثم هل رأيت قط شبيها لمن أضل رأيه وصوابه في وجه فاتن يعشقه إلا ذلك الذي أضل حذره وفطنته حين أحكمت له الخديعة في حلاوة الظاهر، وطلاقة الكذب، وتبرج الحيلة في زينتها حتى غفل ووقع؟ فهذا كما ترى.
وإذا لم تجد الجمال في فتنته ونضجه وقوته كأنه انتباه نفسي محتفل مستوفز على ما وصفنا لك، فلن تجد معه العشق الذي يسمى عشقا، ومنذا ويحك يستهام بامرأة مدبرة قد خلا من سنها، واقتحمت العقبة الأخيرة،
7
أو امرأة مريضة نهكتها العلة، أو التي بقيت روحها في جسمها، ولكن مات وجهها
8 ...؟ •••
وعندي أنه لو شبه العاشق وجه حبيبه بالصحراء المجدبة المقفرة قد ضل فيها رشده وضربته بكل جهاتها وضاع في معناها الأبدي معنى عمره الوقتي؛ لما رضيت له الحقيقة غير هذا التشبيه المنطبق المحكم، ولا رأت أقرب ولا أدق ولا أبدع منه، ولكن الوجه الجميل كذب ظاهر ولا يلائمه إلا كذب مثله، ومن هنا فاض الشعر وأصبحت أوصاف الجمال كلها تمويها على الغرير، وتزويرا للبشريه في غير حقيقتها وتلبيسا على روحانية الإنسان، وعاد الوجه الجميل كالصالح المنافق: صالح ومنافق معا، أي منافقان في شخص واحد ...! •••
والطفل يرى في أمه البداية والنهاية جميعا؛ لأن طفولته ستار بينه وبين ما وراءها، وكذلك العاشق: يرى في حبيبته بداية ونهاية معا؛ لأن حبه ستار بينه وبين ما عداه، يحصره بين أول وآخر في امرأة واحدة، أفلا يكفي هذا دليلا على بلاهة العاشق وغرارته، وأن الحب كالانتكاس إلى الطفولة في جهة واحدة من جهات النفس؟
وترى الصغير إذا فارقته أمه نظر حوله؛ ليستشف ما انفصل من آثارها المحبوبة على كل الأشياء التي فيها حنين نفسه، وكذلك يفعل المحب في كل ما مسته حبيبته، حتى كل شيء عليه لمحة منها، حتى ليرى بعض الأشياء يكاد يبتسم له، وبعضها يرنو إليه، وبعضها يكاد يتيه ويتدلل ويصد ...
وحول الحبيبة، تتفق لعاشقها كل عناصر الحياة المتناقضة إذا شاءت هي، ومنها هي أيضا تختلف هذه العناصر إذا شاءت، كأنها - أي الحبيبة - حياة لحياته لا مقصر له عنها، وكذلك أمر الطفل من أمه ووهمه فيها. •••
خلقت المرأة لتلد الإنسان، وهي تلد هذه الحقيقة في الإنسانية، ولكن وجهها يلد في الإنسانية الضلالة ...
ولا أدل على وهم جمالها وأنه في نفسه وفي نفسها لا أثر له - لا أدل على ذلك من أن تتراءى الجميلة في مرآتها؛ ثم تنظر نظرتها الساحرة ترف بالقبلة من شفتيها على شفتيها في المرآة ...
أما إنها وهي القبلة التي تلقيها الشفاه الحمراء شعلة منها في القلب أو الفكر، وهي القبلة التي احتوت روح الخمر في سيالها المعنوي، وهي القبلة ... هي القبلة!
ولكن الجميلة حينئذ ستقول: إنه لا بد من رجل مغفل؛ ليخلق هذه المعاني للقبلة، ويسمي من جنونه تلك الحركة الطبيعية للشفتين باسم مجنون.
والمرأة ترى بعينيها في إناث الطير والبهائم من الجمال ومعانيه ما يروقها ويكثر عندها، غير أنها لا تحس ذلك من امرأة مثلها؛ إذ من الصدق ألا يصدق كاذب كاذبا
9 ... فإن لم يقنعك أيها الرجل دليل فهذا فليقنعك ...!
ومن ثم فما يعرفه الرجل جمالا منها إنما هو فن جسمها، أي تعبير تكوينها عن حقائقها النسوية ومجاوبته بمعانيها على ما في نفس الرجل من معان تقابلها. هذه المعاني الصامتة والصارخة معا ... والتي نسميها تسمية غير مكشوفة وغير مغطاة أيضا - هي التي نضع لما يشعرنا بها، ويستهوينا منها لفظ الجمال؛ فيكون بذلك مفهوما وغير مفهوم ...
فليس الحب إلا وقوعك في التيه الذي يكون بين الفكر وهو رأي ورغبة، وبين الفكر وهو حقيقة وحادثة، ومن هذا تجد لذة الحب الشعرية بطبيعة الحال لا تملأ إلا المسافة الكائنة بين غير الممكن
10 ... ومن تهكم السعادة على الناس أنها دائما في غير الموجود إلى أن يوجد. •••
قال الشيطان: أنا لون هذه المرأة الجميلة حين أكون منافقا،
11
ولون هذه المرأة القبيحة إذ أكون صريحا ...
قلنا: فلعله لذلك لا تتجمل إلا الجميلة؛ ليتم بها نفاق الشيطان ...!
والسلام عليها
«وهذه كانت آخر رسائله في حب صاحبته تلك».
1
أحببتها جميلة لأوجد بها الجمال في معاني وذوقي؛ ورقيقة لأسيل منها بالرقة في عواطفي ونزعاتي، وظريفة لأزيد بها في نفسي طبيعة مرح وابتهاج، ومتوازنة لتدخل في طباعي الانسجام والوزن وصحة التقدير، وناعمة لتخلص بروحي من خشونة الضرورات القاسية في الحياة، ومتفترة لألقي من تفترها على بعض أيامي فتنقلب حبيبة بما تمنع وتصد، ورشيقة لتهب خيالي سر التوثب والحركة، وجذابة لأجد بها المغناطيس الذي يجذبني في الإنسانية إلى مصدري الأعلى.
وأحببتها وهي بجملتها فن وجمال ووحي؛ لأرجع وأنا بجملتي حسن وانفعال وإدراك.
وكنت كأنما أضرب من الحياة في قفر من المعاني الجافية لا أتوسم نضرة لا أتهدى إلى حقيقة جميلة، فأرسلتها الحقائق السامية التي تعشقها نفسي تقول في جمالها: تعالي إلينا من هنا: إن الطريق من هاتين العينين ...! •••
لا أقول إنه قد وقف نمو الكلمة السحرية التي تزداد، وتعظم بتجدد الأيام؛ إذ كل يوم في الحب هو دائما أول حب. ... ولا أقول إن ذلك الاسم الجميل قد أنزل عن عرش الفكرة التي كانت تملكه الوجود؛ لأنها أملكته القلب. ... ولا أقول إن الذكرى قد سلط عليها النسيان فصفاها من حوادثها وأيامها. ... ولا أقول إن ما كان في النفس جنونا وعقلا من معاني الحب قد رجع في النسيان كالكلمة المكتوبة على ورقة حبس في الورقة معناها إلى أن يوجد من يقرؤه فيخرجه. ... ولا أقول إنها قد بطلت القوة المتضاعفة من الجمال، وكانت تجعل كل ما يؤلم من الناس يؤلم منها هي أضعافا، وكل ما يسر من الناس يسر منها هي أضعافا، كأن الذي هو إنساني في الخلق ليس إنسانيا فيها. ... ولا أقول إنه قد اختفى من ذلك الوجه برهانه الذي كان يقوم بسحره الساحر دليلا مقحما في كل قضايا الحبيبة المتناقضة، فلا تتوافى وهي متناقضة إلا على نتيجة واحدة هي أنها الحبيبة، مهما تأت أو تدع فليس بشيء منها على هوان. ... ولا أقول إنه ليس بين ما تعجب به وما تزدريه إلا رجعة خطوة منقلبة، وأنها هي قد خطتها فليست هي بعد. ... ولا أقول إن روضة الحب قد انتهت إلى أيامها المقشعرة التي تظهر فيها كل أشجارها حاملة من اليبس والتجرد إعلان آخر الفصل ... ••• ... ولكني أقول ... والسلام عليها!
نامعلوم صفحہ