لقد وعد الجبلاوي أدهم بأن يكون الوقف لخير ذريته. وشيدت الربوع ووزعت الخيرات وحظي الناس بفترة من العمر السعيد. ولما أغلق الأب بابه واعتزل الدنيا احتذى الناظر مثاله الطيب حينا، ثم لعب الطمع بقلبه فنزع إلى الاستئثار بالريع. بدأ بالمغالطة في الحساب والتقتير في الأرزاق، ثم قبض يده قبضا مطمئنا إلى حماية فتوة الحارة الذي اشتراه. ولم يجد الناس بدا من ممارسة أحقر الأعمال. وتكاثف عددهم؛ فزاد فقرهم وغرقوا في البؤس والقذارة. وعمد الأقوياء إلى الإرهاب، والضعفاء إلى التسول، والجميع إلى المخدرات. كان الواحد يكد ويكدح نظير لقمات يشاركه فيها فتوة، لا بالشكر، ولكن بالصفع والسب واللعن.
الفتوة وحده يعيش في بحبوحة ورفاهية، وفوق هذا الفتوة الأكبر، والناظر فوق الجميع، أما الأهالي فتحت الأقدام. وإذا عجز مسكين عن أداء الإتاوة انتقم منه فتوة حيه شر الانتقام، وإذا شكا أمره إلى الفتوة الأكبر ضربه الفتوة الأكبر وأسلمه إلى فتوة حيه ليعيد تأديبه، فإذا سولت له نفسه أن يشكو إلى الناظر ضربه الناظر والفتوة الأكبر وفتوات الأحياء جميعا. وهذه الحال الكئيبة شهدتها بنفسي في أيامنا الأخيرة، صورة صادقة مما يروي الرواة عن الأزمان الماضية.
أما شعراء المقاهي المنتشرة في حارتنا فلا يروون إلا عهود البطولات متجنبين الجهر بما يحرج مراكز السادة، ويتغنون بمزايا الناظر والفتوات، بعدل لا نحظى به، ورحمة لا نجدها، وشهامة لا نلقاها، وزهد لا نراه، ونزاهة لا نسمع عنها.
وإني لأتساءل: عما أبقى آباءنا - أو عما يبقينا نحن - بهذه الحارة اللعينة؟ الجواب يسير. لن نلقى في الحواري الأخريات إلا حياة أسوأ من الحياة التي نكابدها هنا، هذا إذا لم يهلكنا فتواتها انتقاما مما لاقوا على أيدي فتواتنا. والأدهى الأمر أننا محسودون! يقول أهالي الحواري حولنا: يا لها من حارة سعيدة! تحظى بوقف لا مثيل له، وفتوات تقشعر عند ذكرهم الأبدان. ونحن لا ننال من الوقف إلا الحسرات، ومن قوة فتواتنا إلا الإهانات والأذى. على ذلك كله فنحن باقون، وعلى الهم صابرون. نتطلع إلى مستقبل لا ندري متى يجيء، ونشير إلى البيت الكبير ونقول: هنا أبونا العتيد، ونومئ إلى الفتوات ونقول هؤلاء رجالنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
25
ونفد صبر آل حمدان فاصطخبت في حيهم أمواج التمرد.
كان آل حمدان يقيمون في قمة الحارة فيما يلي بيتي الأفندي وزقلط، حول البقعة التي بنى أدهم فيها كوخه. وكان رئيسهم حمدان صاحب قهوة؛ قهوة حمدان، أجمل قهوة في الحارة كلها وتتوسط حي حمدان بين الربوع. جلس المعلم حمدان في الجهة اليمنى من مدخل القهوة، في عباءة رمادية، وعلى الرأس لاسة مزركشة، يتابع عبدون صبي القهوة في نشاطه المتواصل، ويتبادل مع بعض الزبائن الأحاديث. وكانت القهوة ضيقة العرض ولكنها تمتد طولا حتى أريكة الشاعر في الصدر تحت صورة خيالية ملونة لأدهم في رقاده الأخير، وهو يتطلع إلى الجبلاوي الواقف بباب الكوخ.
أشار حمدان إلى الشاعر فتناول الربابة واستعد للإنشاد. وبين أنغام الأوتار بدأ بتحية الناظر حبيب الجبلاوي، وزقلط زين الرجال، ثم روى فترة من حياة الجبلاوي قبيل مولد أدهم. وندت عن احتساء القهوة والقرفة والشاي أصوات، وانعقد الدخان المتصاعد من الجوز حول الفانوس سحبا شفافة. وتركزت الأعين في الشاعر، واهتزت الرءوس لجمال ذكرى أو حسن موعظة. ومضى وقت الخيال في شغف وانسجام حتى وافاه الختام، وترامت على الشاعر تحيات الاستحسان. عند ذاك تحركت في الأعماق موجة التمرد التي اجتاحت آل حمدان، فقال عتريس الأعمش من مجلسه وسط القهوة، معلقا على ما سمع من قصة الجبلاوي: كان في الدنيا خير، حتى أدهم لم يجع يوما واحدا.
وإذا بتمر حنة العجوز تقف أمام الدكان وتنزل قفص البرتقال من فوق رأسها، ثم تقول موجهة الخطاب إلى عتريس الأعمش: يسلم فمك يا عتريس، كلامك كالبرتقال السكري!
فنهرها المعلم حمدان قائلا: اذهبي يا ولية وأريحينا من كلامك الفارغ.
نامعلوم صفحہ