فاتجه بصر همام ناحية البيت، ثم قال: إن أبانا لا يذكره إلا مصحوبا بالإجلال والإكبار. - وعمنا لا يذكره إلا مصحوبا باللعنات.
فقال همام بإشفاق: هو جدنا على أي حال. - وما جدوى ذلك يا غلام؟ إن أبانا يكدح وراء عربته، وأمنا تكد طوال النهار وشطرا من الليل، ونحن نعاشر الأغنام حفاة شبه عراة. أما هو فقابع وراء الأسوار، بلا قلب، متمتعا بنعيم لا يخطر على بال.
فرغا من الطعام. نفض همام المنديل ولفه ثم دسه في جيبه، واستلقى على ظهره متوسدا ذراعيه، مرسلا ناظريه إلى السماء الصافية، وهي تقطر هدوء المغيب، والحدآت تولي في الآفاق. ونهض قدري فانتحى جانبا ليبول، وقال: يقول أبونا إنه كان يخرج كثيرا في الماضي فيمر بهم في ذهابه وإيابه، أما اليوم فلا يراه أحد، وكأنما يخاف على نفسه.
قال همام بنبرات حالمة: كم تمنيت أن أراه. - لا تحلم بأن ترى شيئا خارقا، ستجده شبيها بأبينا أو بعمنا، أو لكليهما معا، إني أعجب لوالدي كيف لا يذكره إلا بالإجلال على رغم ما ناله على يديه. - الظاهر أنه كان شديد التعلق به، أو أنه آمن بعدالة ما نزل به من عقاب. - أو أنه ما زال يطمع في عفوه! - إنك لا تفهم أبانا، إنه رجل ودود حلو المعشر.
وعاد قدري إلى مجلسه وهو يقول: إنه لا يعجبني، وأنت لا تعجبني. أؤكد لك أن جدنا شخص شاذ لا يستحق الاحترام، ولو كانت به ذرة من خير ما جفا لحمه هذا الجفاء الغريب، إني أراه كما يراه عمنا، لعنة من لعنات الدهر.
فقال همام باسما: لعل أرذل ما فيه هو ما تتباهى به أنت، أعني القوة والبطش.
فقال قدري بحدة: لقد نال هذه الأرض هبة بلا عناء ثم طغى واستكبر. - لا تنكر ما اعترفت به منذ قليل، إن الوالي نفسه لم يكن بوسعه أن يعيش وحده في مثل هذا الخلاء. - وهل تجد في الحكاية التي رويت لنا مسوغا حقا لغضبه على والدينا؟ - إنك تجد أهون منها سببا كافيا للبطش بالناس!
تناول قدري الكوز ومضى يشرب حتى روي، ثم تجشأ وقال: ما ذنب الأحفاد؟ إنه لا يدري ما رعي الغنم، سحقا له! أود لو أعرف وصيته، وماذا أعد لنا!
فتنهد همام وقال بصوت حالم: ثروة تريح من العناء، كي يفرغ المرء لقلبه، ويمضي العمر في يسر وطرب. - إنك تردد قول أبينا، نشقى في التراب والطين ونحلم بالناي في ظل حديقة غناء. الحق أقول إني أعجب بعمي أكثر من أبي.
فجلس همام وهو يتثاءب، ثم نهض يتمطى ، وقال: على أي حال صرنا شيئا، لنا مأوى يسعنا، ورزق يحفظ علينا الحياة، وأغنام نرعاها، نبيع لبنها ونسمنها لنبيعها أيضا، ومن شعرها تغزل أمنا الكساء. - والناي والحديقة؟
نامعلوم صفحہ