فقالت بامتعاض: لست كذلك، لسنا كذلك. - الحكم الصحيح لن يكون إلا عند الامتحان.
لاذ كلاهما بالصمت. لم يكن بالخلاء حي يرى، إلا بعض العابرين عن بعد عند سفح الجبل. وكانت الشمس ترسل أشعة حامية من سماء صافية فتغمر الرمال المترامية حيث يلمع الحصى أو قطع الزجاج المتناثرة. ولم يكن من قائم إلا الجبل في الأفق، وصخرة كبيرة في الشرق كأنها رأس جسم مطمور في الرمال، وكوخ إدريس عند الطرف الشرقي للبيت الكبير ينغرس في الأرض متحديا بهيئته الزرية. كان الجو كله ينذر بالشقاء والتعب والخوف. وتنهدت أميمة بصوت مسموع وقالت: سنتعب كثيرا حتى تتيسر لنا الحياة.
فرنا أدهم إلى البيت الكبير وقال: وسنتعب أكثر حتى ينفتح لنا هذا الباب مرة أخرى.
10
شرع أدهم وأميمة في إقامة كوخ لهما عند الطرف الغربي للبيت الكبير. كانا يجيئان بالأحجار من المقطم، ويجمعان الصفائح من سفح الجبل، ويلتقطان الأخشاب من مشارف العطوف والجمالية وباب النصر. وتبين لهما أن بناء الكوخ سيستغرق وقتا أطول مما قدرا، وصادف ذلك نفاد الزاد الذي حملته أميمة من البيت من جبن وبيض وعسل أسود، فقرر أدهم أن يبدأ بالسعي في سبيل رزقه. ورأى أن يبيع بعض ثيابه الثمينة؛ ليشتري بثمنها عربة يد لبيع البطاطة والملانة والخيار وغيرها على حسب المواسم. وعندما أخذ في جمع ثيابه أجهشت أميمة في البكاء من شدة التأثر، ولكنه لم يستجب لعواطفها، فقال وهو بين السخط والسخرية: لم تعد هذه الثياب تناسبني، أليس من المضحك أن أسرح ببطاطة وأنا متلفع بعباءة مزركشة من وبر الجمل؟!
ثم شهده الخلاء وهو يدفع عربته نحو الجمالية؛ الجمالية التي لم تنس بعد زفته، وانقبض قلبه وانحبس صوته فكف عن النداء، وكادت تغرورق عيناه. واتجه نحو الأحياء البعيدة متهربا. وكان يواظب على المشي والنداء من الصباح إلى المساء حتى كلت يداه وانجرد نعلاه وسرت الأوجاع في قدميه ومفاصله. وكم كان يشق عليه مساومات النسوان، أو أن يضطره الإعياء إلى افتراش الأرض لصق جدار، أو أن يقف في ركن ليفك حصره. بدت الحياة غير حقيقية، وأيام الحديقة وإدارة الوقف والمخدع المطل على المقطم كالأساطير. وجعل يقول لنفسه: «لا شيء حقيقيا في هذه الدنيا، هي البيت الكبير، هي الكوخ الذي لم يتم، هي الحديقة، هي عربة اليد، هي الأمس واليوم والغد، لعلي أحسنت صنعا بالإقامة قبالة البيت حتى لا أفقد الماضي كما فقدت الحاضر والمستقبل، وهل من عجب أن أخسر الذاكرة كما خسرت أبي وكما خسرت نفسي؟!» فإذا عاد أول الليل إلى أميمة فليس إلى الراحة يعود، ولكن ليواصل العمل في بناء الكوخ.
ومرة جلس في حارة الوطاويط عند الظهر ليستريح فنعس. واستيقظ على حركة فرأى غلمانا يسرقون عربته فنهض مهددا. ورآه غلام فنبه أقرانه بصفير ودفع العربة ليشغله بها عن مطاردتهم فاندلق الخيار على الأرض على حين تفرق الغلمان مسرعين كالجراد. وغضب أدهم غضبا شديدا حتى قذف فوه المهذب بسيل من أقذع الشتائم، ثم انكب على الأرض يجمع الخيار الذي لوث بالطين. وتضاعف غضبه دون أن يجد له متنفسا فراح يقول بتأثر وانفعال: «لماذا كان غضبك كالنار تحرق بلا رحمة؟ لماذا كانت كبرياؤك أحب إليك من لحمك ودمك؟ وكيف تنعم بالحياة الرغيدة وأنت تعلم أننا نداس بالأقدام كالحشرات؟ والعفو واللين والتسامح ما شأنها في بيتك الكبير أيها الجبار؟!» وقبض على يدي العربة وهم يدفعها بعيدا عن الحارة اللعينة، وإذا بصوت يقول متهكما: بكم الخيار يا عم؟
رأى إدريس واقفا يبتسم ابتسامة ساخرة، رافلا في جلباب مقلم بألوان زاهية، وعلى رأسه لاسة بيضاء. رآه باسما ساخرا لا ثائرا ولا هائجا؛ فضاقت لمنظره الدنيا في عينيه على رغم ذلك. ودفع العربة ليذهب، ولكن إدريس اعترض سبيله وهو يقول في دهشة: ألا يستحق زبون مثلي حسن المعاملة؟
فارتفع رأس أدهم في عصبية وهو يقول: دعني وشأني.
فأمعن إدريس في السخرية متسائلا: ألم تجد خيرا من هذه اللهجة تخاطب بها أخاك الأكبر؟
نامعلوم صفحہ