وما كادا يبتعدان قليلا عن البيت حتى دوت ضحكة ساخرة مخمورة، فنظرا نحو مصدرها، فرأيا إدريس أمام كوخه الذي بناه من الصفائح والأخشاب وقد جلست امرأته نرجس وهي تغزل صامتة. كان إدريس يضحك في سخرية وشماتة حتى ذهل أدهم وأميمة فوقفا يحملقان فيه. وراح إدريس يرقص ويفرقع بأصابعه حتى ضجرت نرجس فآوت إلى الكوخ. تابعه أدهم بعينين محمرتين من البكاء والغضب. أدرك في لحظة المكر الذي مكره فتكشف له عن حقيقته الخبيثة المجرمة. وأدرك أيضا مدى حمقه وغبائه الذي يرقص له المجرم شماتة وفرحا. هذا هو إدريس الذي استحال شرا مجسدا. وغلى دمه حتى فار فأغرق مخه. وقبض على حفنة من تراب ورماه بها وهو يصيح بصوت مختنق بالغضب: يا قذر، يا لعين، إن العقرب بالقياس إليك حشرة مستأنسة!
فأجاب إدريس بمزيد من حركاته الراقصة؛ هز رقبته يمنة ويسرة، ولعب حاجبيه وما زال يفرقع بأصابعه. وتضاعف غضب أدهم فصاح: الفساد والدناءة والوضاعة هذه هي صفات المخادعين الكاذبين.
فراح إدريس يهز وسطه بمثل الرشاقة التي هز بها رقبته ويرسم بفيه ضحكة صامتة قبيحة، فصاح أدهم دون التفات إلى أميمة التي حاولت أن تدفعه إلى المسير: حتى الدعارة تجربها يا أقذر من خلق!
فمضى إدريس يهز عجيزته وهو يدور حول نفسه في بطء ودلال، فأعمى الغضب أدهم فرمى بالبقجة أرضا ودفع أميمة التي همت بالتعلق به وجرى نحوه حتى قبض على عنقه وشد عليه بكل قوته. لم يبد على إدريس أنه تأثر بالمنقض ولا بقبضته، وواصل الرقص وهو يتأنق في تأوده؛ وجن جنون أدهم فانهال على إدريس ضربا ولكن إدريس ازداد عبثا وراح يغني بصوت كريه:
حطة يا بطة،
يا دقن القطة.
وتوقف بغتة وهو يزمجر، ثم دفع أدهم في صدره دفعة قوية تقهقر على أثرها يترنح ثم اختل توازنه فسقط على ظهره. وهرعت إليه أميمة صارخة فساعدته على النهوض وأخذت تنفض الغبار عن ثوبه وتقول: ما لك أنت وهذا الوحش؟! فلنبتعد عنه!
وتناول البقجة صامتا، وحملت زوجه بقجتها وابتعدا حتى طرف البيت الآخر، وكان الإعياء قد نال منه فرمى بالبقجة وجلس عليها وهو يقول: «لنسترح قليلا.» فجلست المرأة قبالته وقد رجعت تبكي. وإذا بصوت إدريس يترامى إليهما قويا كالرعد وصاحبه يقف ناظرا إلى البيت الكبير نظرة التحدي ويصيح: طردتني إكراما لأحقر من أنجبت، أرأيت كيف كان سلوكه نحوك؟! ها أنت ذا ترميه بنفسك إلى التراب. عقاب بعقاب والبادي أظلم، كي تعلم أن إدريس لا يقهر، فلتبق وحدك مع أبنائك العقماء الجبناء. لن يكون لك حفيد إلا من يسعى في التراب ويتقلب في القاذورات. غدا يسرحون بالبطاطة واللب، غدا يتعرضون لصفعات الفتوات في العطوف وكفر الزغاري، غدا يمتزج دمك بأحقر الدماء، وتقبع أنت وحيدا في حجرتك تبدل وتغير في كتابك كيف شاء لك الغضب والفشل، وتعاني وحدة الشيخوخة في الظلام، حتى إذا جاء الأجل فلن تجد عينا تبكيك.
ثم التفت صوب أدهم وواصل صياحه الجنوني: وأنت أيها الضعيف كيف تلقى الحياة وحدك؟! لا قوة فيك تؤيدك ولا قوي لديك تعتمد عليه، وماذا تفيدك مبادئ القراءة والحساب في هذا الخلاء؟! ها .. ها .. ها!
ولم تزل أميمة تبكي حتى ضاق بها أدهم فقال في فتور: كفي عن البكاء.
نامعلوم صفحہ