فقطب قاسم فيما يشبه الاستياء وقال: هكذا قال. وند عني ما يفصح عن دهشتي ولكنه لم يبال بي، وقال: «لعله اختارك لحكمتك يوم السرقة ولأمانتك في بيتك. وهو يبلغك بأن جميع أولاد الحارة أحفاده على السواء، وأن الوقف ميراثهم على قدم المساواة، وأن الفتونة شر يجب أن يذهب، وأن الحارة يجب أن تصير امتدادا للبيت الكبير.» وساد الصمت، وكأنما فقدت القدرة على النطق، ولمحت عيناي المتطلعتان إلى هامته السحب وهي تنحسر عن الهلال في رقعة صافية، فسألت بأدب: «ولماذا يبلغني ذلك؟» فأجاب: «لكي تحققه بنفسك!» - أنت؟!
بذلك هتفت قمر، فقال قاسم بصوت متهدج: هكذا قال. وهممت بأن أستوضحه، ولكنه حياني وذهب، فتبعته حتى خيل إلي أنني رأيته يصعد إلى أعلى السور المشرف على الخلاء على سلم خارق الطول أو شيء شبيه بذلك، فوقفت ذاهلا. ثم عدت إلى مكاني السابق وفي نيتي أن أقصد المعلم يحيى، لكني غبت عن الوجود، ولم أعد إلى رشدي إلا في كوخ المعلم.
وعاد الصمت يغشى الحجرة وقمر لا تحول عن وجهه عينيها الذاهلتين. وتسلل النوم إلى أجفان إحسان، وهي ترضع فمال رأسها إلى أسفل من فوق ساعد أمها فأرقدتها برفق على الفراش، وعادت تنظر إلى زوجها بعين قلقة ووجه شاحب. وارتفع من الحارة صوت سوارس الأجش وهو يسب رجلا، وصراخ الرجل وتأوهاته التي وشت بما ينهال عليه من ضرب أو صفع، ثم صوت سوارس مرة أخرى وهو يبتعد منذرا متوعدا، وصوت الرجل وهو يرتفع في نبرة حنق ويأس هاتفا: «يا جبلاوي!» وساءل قاسم نفسه المرهقة بنظرات زوجته: ترى ماذا تظن بي؟ وحادثت المرأة نفسها: إنه صادق، لم يكذبني قط، فلماذا يختلق هذه الحكاية؟ وهو أمين لم يطمع في مالي مع ما في ذلك من أمان، فكيف يطمع في مال الوقف على ما في ذلك من خطر؟! وترى هل ولت أيام الراحة حقا؟ وقالت: أنا أول من أفضيت إليه بسرك؟
فأحنى رأسه بالإيجاب، فعادت تقول: قاسم، حياتنا واحدة، وأنا لا تهمني نفسي بقدر ما تهمني أنت، وسرك هذا شيء خطير، وعواقبه لا تخفى عليك، ولكن أعمل ذاكرتك جيدا وخبرني أكان واقعا ما رأيت أم لعله كان حلما؟
فقال بتصميم وفي شيء من الامتعاض: كان واقعا ملموسا ولم يكن حلما! - وجدوك مغمى عليك؟! - كان ذلك بعد اللقاء!
فقالت بإشفاق: ربما اختلط الأمر عليك!
فتنهد في عذاب لم تدر به وقال: لم يختلط شيء علي، كان اللقاء واضحا كالنهار المشمس!
فترددت قليلا ثم تساءلت: من يدرينا أنه حقا خادم الواقف ورسوله إليك؟ ولماذا لا يكون مسطولا من مساطيل حارتنا وما أكثرهم؟!
فقال في نبرة عناد: رأيته وهو يصعد إلى سور البيت الكبير.
فتنهدت قائلة: ليس في حارتنا سلم يمكن أن يصل إلى نصف ارتفاع السور! - لكني رأيته!
نامعلوم صفحہ