بدت في منتصف الحلقة السادسة، مستقيمة العود، قوية البنية، تلفت النظر إليها بعينين نافذتين ووشم فوق الذقن. وأشار جواد ناحية الضيف وقال: إنه سميع يا أم بخاطرها، شغوف بالحكايات، وبمثله يتحمس الشاعر ويرضى، أما الآخرون فسرعان ما يغلبهم نعاس المنزول والحشيش.
فقالت المرأة بدعابة: حكاياتك جديدة عليه، معادة عليهم.
فقال الشاعر بغيظ: هذا صوت عفريت من عفاريتك .. (ثم موجها الخطاب إلى رفاعة) .. الولية كودية زار.
فتطلع رفاعة نحو المرأة باهتمام، فالتقت أعينهما وهي تمد له يدها بفنجان القهوة. كم كانت تجذبه دقة الزار في سوق المقطم! وكان قلبه يتابعها راقصا، فيقف في الطريق رافعا رأسه نحو النوافذ، متطلعا إلى البخور السابح في الفضاء والرءوس المترنحة. وسأله الشاعر: ألم تعرف في غربتك شيئا عن حارتنا؟ - حدثني أبي عنها كما حدثتني أمي، ولكن قلبي كان هنالك، فلم أكترث كثيرا للوقف ومشاكله، وعجبت من كثرة ضحاياه، فملت إلى رأي أمي في إيثارها الحب والسلام.
فتساءل جواد وهو يهز رأسه في حزن: وكيف يتسنى للحب والسلام أن يعيشا بين الفقر ونبابيت الفتوات!
فلم يجبه رفاعة؛ لا لأنه لم يكن ثمة جواب، ولكن لأن عينيه رأتا لأول مرة صورة غريبة فوق الجدار الأيمن للحجرة؛ صورة مرسومة بالزيت على الجدار كالصور التي تزين جدران المقاهي، وتمثل رجلا هائلا تبدو إلى جانبه ربوع الحارة ضئيلة كلعب الأطفال؛ فتساءل الشاب: من صاحب هذه الصورة؟
فأجابت أم بخاطرها: الجبلاوي. - هل رآه أحد؟
فقال جواد: كلا، لم يره أحد من جيلنا، حتى جبل لم يتبينه في ظلمة الخلاء، ولكن المبيض رسمه على مثال ما يرد من أوصافه في الحكايات.
فتساءل رفاعة متنهدا: لماذا أغلق أبوابه في وجه أحفاده؟ - يقولون الكبر، من يدري كيف تمضي به الأيام! والله لو فتح أبوابه ما بقي أحد من أهل حارتنا في داره القذرة. - ألا تستطيع أن ...
ولكن أم بخاطرها قاطعته قائلة: لا تشغل به نفسك، فإن أهل حارتنا إذا بدءوا بالكلام عن الواقف جرهم الكلام إلى الوقف ثم تقع المصائب أشكالا وألوانا.
نامعلوم صفحہ