ورفع إدريس نبوته. وهنا صاح صائح: «الجبلاوي!» وصاح رضوان مخاطبا إدريس: أبوك قادم ...
فوثب إدريس إلى جانب الطريق والتفت إلى الوراء فرأى الجبلاوي قادما وسط هالة من الخدم يحملون المشاعل. وعض إدريس على أسنانه ثم هتف ساخرا: سأهبك عما قريب حفيدا من الزنى تقر به عينك.
واندفع نحو الجمالية والناس توسع له على الجانبين حتى ابتلعته الظلمة. وبلغ الأب موقف الإخوة وهو يتظاهر بهدوء تحت آلاف الأعين المحدقة فيه، ثم قال بلهجة آمرة: ليعد كل شيء إلى أصله!
ورجع حملة الكلوبات إلى مواقعهم، ودقت الطبول، وعزفت المزامير، ثم غنى المنشدون، ورقص الراقصون، واستأنفت الزفة مسيرها ...
وسهر البيت الكبير حتى الصباح في طرب وشراب وغناء. وعندما دخل أدهم حجرته المطلة على خلاء المقطم وجد أميمة واقفة إلى جانب المرآة، والنقاب الأبيض لا يزال يغطي وجهها. كان مخمورا مسطولا لا تكاد قدماه تحملانه، فاقترب منها وهو يبذل جهدا شديدا ليتمالك أعصابه، ورفع النقاب عن وجهها الذي طالعه في أحسن رواء، وهوى برأسه حتى لثم شفتيها المكتنزتين، ثم قال بلسان مخمور: لتهن الهموم جميعا ما دمت حسن الختام ...
واتجه نحو الفراش، يستقيم خطوة ويترنح خطوة، حتى استلقى على عرض السرير باللاسة والمركوب، وكانت أميمة تنظر إلى صورته المنعكسة على المرآة وهي تبتسم في إشفاق وحنان ...
5
وجد أدهم في أميمة سعادة لم يعرفها من قبل. ولبساطته أعلن عن سعادته بأقواله وأحواله حتى تندر به إخوته. وعند ختام كل صلاة كان يبسط يديه هاتفا: «الحمد لصاحب المنن؛ على رضا أبي الحمد له، على حب زوجتي الحمد له، على المنزلة التي أحظى بها دون من هم أجدر مني بها الحمد له، على الحديقة الغناء والناي الرفيق الحمد له.» وقالت كل امرأة من نساء البيت الكبير: إن أميمة زوجة واعية، فهي ترعى زوجها كأنه ابنها، وتتودد حماتها وتخدمها حتى أسرتها، وتولي مسكنها العناية التامة كأنه قطعة من جسدها .. أما أدهم فكان زوجا مترع القلب بالمحبة وحسن المعاشرة. وكما شغلته إدارة الوقف عن جزء من ملاهيه البريئة في الحديقة من قبل، فقد شغل الحب بقية يومه، واستبد به حتى نسي نفسه.
وتوالت أيام هانئة، وامتدت فوق ما قدر رضوان وعباس وجليل الساخرون، ولكنها ارتطمت في النهاية بذاك الهدوء الحكيم كما تنتهي مياه الشلال المتدفقة الراغية المزبدة في النهر الرصين. وعاد التساؤل يحتل مكانه في قلب أدهم، فشعر بأن الزمن لا يمر في غمضة عين، وأن النهار يعقبه الليل، وأن المناجاة إذا تواصلت إلى غير نهاية فقدت كل معنى، وأن الحديقة ملهاة صادقة لا يجدر به أن يهجرها، وأن شيئا من هذا لا يعني بحال أن قلبه تحول عن أميمة، فلا تزال في صميمه، ولكن للحياة أطوارا لا يخبرها المرء إلا يوما بيوم. وعاد إلى مجلسه عند القناة، وأجال بصره في الأزهار والعصافير ممتنا ومعتذرا. وإذا بأميمة تلحق به مشرقة بالبهجة، فجلست إلى جانبه وهي تقول: نظرت من النافذة لأرى ما أخرك، لماذا لم تدعني معك؟
فقال باسما: خفت أن أتعبك. - تتعبني؟ طالما أحببت هذه الحديقة، أتذكر أول لقاء لنا هنا؟
نامعلوم صفحہ