وجاء البلقيطي بجرابه وقام جبل ومضى الاثنان في طريقهما المعهود. وجعل البلقيطي يقول له: تعلم بعينيك كما تتعلم بعقلك، انظر ماذا أفعل ولا تسألني أمام أحد من الناس، واصبر حتى أوضح لك ما يغمض عليك فهمه.
ووجد جبل الحرفة شاقة حقا، ولكنه لم يستهن بها من أول الأمر ووطن نفسه على الحذق فيها مهما كلفه الجهد. والواقع أنه لم يكن أمامه من مهنة أخرى إلا أن يرضى بمهنة بائع جوال أو الفتونة أو اللصوصية وقطع الطريق. لم تكن الحواري في حيه الجديد لتختلف عن حارته في شيء عدا الوقف والقصص التي نشأت حوله. وقد رسبت في قرارة نفسه حسرة متخلفة من أحلام الماضي وذكريات المجد الغابر والآمال التي يتعذب بسببها آل حمدان كما تعذب أدهم من قبل. وكان مصمما على النسيان بإلقاء نفسه في خضم الحياة الجديدة وتقبلها وفتح الصدر لها، واللواذ بزوجه المحبة المحبوبة كلما خطر له خاطر حزن أو هوان في تجواله. وتفوق على أحزانه وذكرياته وبرع في تعليمه حتى أدهش البلقيطي نفسه.
كان يواصل التدريب في الخلاء ويعمل في النهار والليل، وتمضي الأيام والأسابيع والأشهر فلا تهن له عزيمة ولا يدركه الكلال. وقد عرف الحواري والأزقة، واستأنس الثعابين والحيات، ولعب أمام آلاف الصبية، وذاق حلاوة النجاح والربح، وتلقى بشرى الأبوة المقبلة. واستلقى على ظهره يرعى النجوم حين الراحة، وسهر الليالي يتجاذب مع البلقيطي الجوزة ويقص القصص التي كانت الرباب ترويها بقهوة حمدان. وتساءل: من حين إلى حين أين الجبلاوي؟ ونادى كثيرا: يا جبلاوي. وإذ أشفقت شفيقة من أن يفسد عليه الماضي حياته هتف بها: إلى هؤلاء ينتسب الشيء الذي في بطنك، وآل حمدان آله، والأفندي رأس الاغتصاب كما أن زقلط رأس الإرهاب، فكيف تطيب الحياة وبها أمثال أولئك؟ •••
ويوما كان يعرض ألاعيبه في زينهم وسط حلقة محكمة من الصغار. ولاحت منه التفاتة فرأى أمامه دعبس وقد شق سبيله إلى الصف الأمامي وراح يحملق فيه بذهول. اضطرب جبل وتجنب النظر إلى وجهه ولم يعد بمستطاعه أن يواصل عمله فأنهاه على رغم احتجاج الصغار، ورفع جرابه ومضى. وما لبث أن لحق به دعبس وهو يصيح: جبل! أهذا أنت يا جبل؟!
فتوقف عن السير ملتفتا إليه وقال: نعم، ماذا جاء بك يا دعبس؟
ولم يفق دعبس من دهشته وجعل يقول: جبل حاو؟! متى تعلمت هذا؟ وأين؟
فقال جبل باستهانة: ليس هذا بأعجب ما يقع في هذه الدنيا.
وسار جبل والآخر يتبعه حتى بلغا سفح الجبل ثم جلسا في ظل نتوء، ولم يكن بالمكان إلا أغنام ترعى وراع جلس عاريا يفلي جلبابه. وتفرس دعبس في وجه صاحبه وقال: لماذا هربت يا جبل؟ كيف ساء ظنك بي حتى توقعت أن أخونك؟ والله ما أخون أحدا من آل حمدان ولو يكون كعبلها! ولحساب من أخونك؟ الأفندي أم زقلط؟! فليحرقهم رب السموات جميعا، كم سألوا عنك كثيرا، وكنت أسمعهم يسألون فأغرق في عرقي.
فسأله جبل باهتمام: خبرني كيف تعرض نفسك للانتقام بالتسلل من ربعك؟
فلوح دعبس بيده في استهانة قائلا: رفع الحصار عنا من زمن، لم يعد أحد يسأل اليوم عن قدرة أو قاتله، ويقال إن هدى هانم هي التي أنقذتنا من الموت جوعا، ولكن قضي علينا بالذل إلى الأبد، ولا مقهى لنا ولا كرامة. نسعى في أعمالنا بعيدا عن حارتنا وإذا عدنا توارينا وراء الجدران، وإذا عثر على أحدنا فتوة عبث به صفعا أو بصقا. إن تراب حارتنا اليوم أكرم عليهم منا يا جبل .. ما أسعدك في غربتك!
نامعلوم صفحہ