وجلس على الكنبة فالتفت البلقيطي نحوه ووجهه ما زال محتقنا من السعال وقال: صباح الخير يا معلم جبل، يا من لم ينم من الليل إلا أقله. - لعل وجهي متغير؟ - بل أذكر تقلبك في الظلام والتفاتات رأسك نحوي كالخائف!
يا لك من ثعبان! ولكن كن ثعبانا غير سام وحق العينين السوداوين! - الحق إني أرقت لتغيير مكان النوم.
فضحك البلقيطي قائلا: أرقت لسبب واحد وهو أنك كنت تخافني على نفسك، قلت سيقتلني ويسلبني نقودي ثم يدفنني في الخلاء كما فعلت أنا بالرجل الذي قتلته. - أنت ... - اسمع يا جبل، الخوف شديد الإيذاء، والثعبان لا يلدغ إلا عند الخوف!
فقال جبل في انهزام خفي: إنك تقرأ ما ليس في الصدور. - إنك تعلم أنني ما جاوزت الحق يا موظف الوقف السابق!
وترامى صوت من الداخل ينادي بقوة: «يا سيدة تعالي». فشعشع روحه بانبساط غير متوقع. هذه الحمامة الزاجلة في وكر الثعابين، التي قضت له بالبراءة وجذبته إلى شجرة الآمال المورقة. وقال البلقيطي وكأنه يعلق على نداء شفيقة: النشاط يدب في بيتنا منذ الصباح الباكر، فتنطلق هاتان البنتان إلى الطريق لتعودا بالماء والمدمس لتطعما أباهما العجوز ثم ترسلاه بجراب الثعابين ليلتقط لنفسه ولهما الرزق.
وحلت السكينة بقلبه، وشعر بأنه عضو في هذه الأسرة، وفاضت نفسه بالمودة، فنزع إلى فتح صدره والتسليم إلى مقاديره في عفوية لا تقاوم فقال: يا معلم، بالحق سأقص عليك قصتي.
فابتسم البلقيطي وتشاغل بتدليك ساقيه فعاد جبل يقول: إني قاتل كما قلت، ولكن لي قصة.
وقص عليه قصته. ولما فرغ قال الرجل: يا لهم من قوم ظالمين! أما أنت فرجل شهم ولم يخب نظري فيك.
واعتدل في جلسته باعتزاز ثم قال: من حقك الآن أن أبادلك صراحة بصراحة، فاعلم أني أنتسب في الأصل إلى حارة الجبلاوي. - أنت؟! - نعم، وفررت منها في صدر الشباب ضيقا بفتواتها!
فقال جبل والدهشة لم تزايله بعد: هم شقاء حارتنا. - نعم، لكننا لا ننسى حارتنا على رغم فتواتها، ولذلك أحببتك عندما عرفت أصلك. - من أي حي كنت؟ - من حي آل حمدان مثلك. - يا للعجب! - لا تعجب لشيء في هذه الدنيا، لكنه تاريخ مضى من بعيد، فلا أحد يعرفني الآن ولا تمر حنة نفسها التي تربطني بها صلة قربى. - أعرف هذه السيدة الشجاعة، ولكن من كان غريمك من الفتوات؟ زقلط؟ - لم يكن في ذلك العهد إلا فتوة حي حقير. - قلت هم شقاء حارتنا! - ابصق على الماضي بكل ما فيه.
نامعلوم صفحہ