اوہام عقل
أوهام العقل: قراءة في «الأورجانون الجديد» لفرانسيس بيكون
اصناف
والتجريبية العشوائية، والخرافية. (63) وأوضح مثل على الصنف الأول من الفلاسفة هو أرسطو، الذي أفسد الفلسفة الطبيعية بمنطقه، وشيد العالم بمقولاته، ونسب إلى الروح البشرية - أنبل الجواهر جميعا - جنسا يقوم على كلمات من المقصد الثاني،
32
وحول التفاعل بين الكثيف والمخلخل (الذي به تشغل الأجسام محلا أكبر أو أصغر) إلى تلك التفرقة الباردة بين القوة والفعل، وأكد أن لكل جسم حركة فريدة خاصة به، فإذا شارك في حركة أخرى فإن هذه الحركة تعود إلى علة خارجية، وفرض على الطبيعة أشياء أخرى لا حصر لها وفقا لهواه، فقد كانت تعنيه دائما التعريفات والدقة في صياغة قضاياه أكثر مما تعنيه الحقيقة الداخلية للأشياء، يتجلى هذا في أوضح صورة إذا ما قارنا فلسفته بغيرها من الفلسفات الذائعة بين اليونان: فال «هومويوميرا»
33 (الأجزاء المتماثلة) عند أنكساغوراس، والذرات عند ليوسيبوس وديمقريطس، والسماء والأرض عند بارمنيدس، والتنافر والانسجام عند أمبدوقليس، وتلاشي الأجسام في الطبيعة غير المتمايزة للنار ثم عودتها إلى الصلابة مرة أخرى عند هيراقليطس، كل أولئك يحمل داخله شيئا من الفلسفة الطبيعية ومن حس الطبيعة والتجربة والأجسام، في حين لا تكاد تسمع في فيزيقا أرسطو أي شيء عدا مصطلحات المنطق، والتي أعاد تدويرها مرة أخرى في ميتافيزيقاه تحت تسمية أكثر جلالا، زاعما أنه واقعي
realist
أكثر منه اسميا
nominalist . ولا يخدعن أحدا كثرة التجائه إلى التجربة في كتبه «عن الحيوان» و«مشكلات» ورسائل أخرى؛ فحقيقة الأمر أنه قد حسم أمره مسبقا ولم يستشر التجربة حق المشورة كأساس لأحكامه ومبادئه، إنه يعتسف أحكامه اعتسافا ثم يلوي بالتجربة حتى تلائم أفكاره، ويجرها كما يجر أسير في موكب؛ ومن ثم فهو أفدح ذنبا من تابعيه المحدثين (السكولائيين) الذين هجروا التجربة تماما ونفضوا أيديهم منها.
34 (64) تتولد عن المدرسة التجريبية معتقدات أكثر تشوها ومسخا مما تنتجه المدرسة السوفسطائية أو العقلية؛ ذلك لأن هذه المعتقدات لا تتأسس في ضوء التصورات العامة (التي رغم ضعفها وسطحيتها فهي بشكل ما عمومية وتشير إلى أشياء كثيرة)، بل تقوم على أساس ضيق ومعتم من حفنة تجارب، مثل هذه الفلسفة تبدو محتملة وشبه يقينية عند أولئك الذين ينخرطون كل يوم في مثل هذا الصنف من التجارب فأفسدوا مخيلتهم بها، أما لغيرهم فتبدو بعيدة عن التصديق وغير ذات جدوى. ولدينا عليها مثال صارخ في أهل الخيمياء ومعتقداتهم، وهي عدا ذلك نادرة الوجود في زمننا هذا، ربما باستثناء فلسفة جلبرت. ويبقى علينا رغم ذلك أن نحذر من مثل هذه الفلسفات؛ ذلك أننا ندرك ونتوقع أنه إذا أصغى الناس لنصيحتنا وكرسوا أنفسهم حقا للتجربة (بعد أن ودعوا المذاهب السوفسطائية) فإن هذه الفلسفة ستكون مصدر خطر حقيقي على أقل تقدير، وذلك بسبب تسرع العقل وتهوره، وقفزه أو طيرانه إلى العموميات وإلى مبادئ الأشياء، ذلك الخطر الذي ينبغي من ثم أن نكون متأهبين - حتى في هذه اللحظة - لمواجهته. (65) على أن الفساد الذي يأتي الفلسفة من الامتزاج بالخرافة والثيولوجيا هو أوسع انتشارا وأشد ضررا عليها، سواء على منظوماتها الكلية أو على أجزائها؛ فتأثر العقل البشري بالخيال لا يقل عن تأثره بالأفكار الشائعة. إن الصنف الجدلي والسوفسطائي من الفلسفة يوقع العقل في شرك؛ أما الصنف الآخر؛ أي الفلسفة الخيالية الطنانة شبه الشعرية فتغويه. إن بالإنسان ضربا من طموح الفكر لا يقل عن طموح الإرادة، وبخاصة لدى الشخصيات الشامخة النبيلة.
وهناك مثال لافت على هذا بين اليونان نجده في فيثاغوراس، وإن كانت الخرافة لديه فظة ثقيلة، ومثال آخر في أفلاطون ومدرسته؛ حيث الخرافة أخطر وأرقى. وهذا الإثم نجده أيضا في جوانب من الفلسفات الأخرى، متمثلا في القول بالصور المجردة والعلل الغائية والأولى،
35
نامعلوم صفحہ