اوہام عقل
أوهام العقل: قراءة في «الأورجانون الجديد» لفرانسيس بيكون
اصناف
evidence
فليس هناك طريق من البينة إلى النظرية! علينا ألا نسأل العالم من أين جاء بنظريته، بل نسأله عما أعد لها من اختبارات. وإن تاريخ الممارسة العلمية ليظهرنا على أن الاقتحامات الكبرى في العلم تأتي عن طريق الحدس: ثمة دائما قفزة إبداعية تتجاوز المعلومات المتاحة وتضيف إليها شيئا ما مستجدا، وأحيانا ما تأتي ومضة الاستضاءة من الأحلام بالمعنى الحرفي! أحيانا ما يحلم العلماء نظرياتهم حلما! مثل حلم كيكوليه ببنية حلقة البنزين؛ إذ رأى فيما يرى النائم أفعى تعض ذيلها (وقيل عدة أفاع تعض كل واحدة ذيل تاليتها)، وحلم نيلز بور بالنظام الشمسي كنموذج للذرات، وحلم مندليف بالجدول الدوري للعناصر، المهم أن تكون علما؛ أي قولا يحمل نبأ عن العالم المحدد الذي وجدنا فيه، ويحمل في تضاعيفه تنبؤات قابلة للاختبار.
5
ربما لا نجد من الباحثين من يمكن اعتباره بيكونيا صميما إلا تيخو براهه الفلكي الدانمركي الذي كان يشرف على فريق بحثي جمع بجد ودأب مجلدات كاملة من البيانات الفلكية مدرجة في قوائم مرتبة ومضجرة، وحتى تشارلس دارون الذي ادعى أن «أصل الأنواع» يقوم على «مبادئ بيكونية» لا يمكن اعتباره بيكونيا صميما، فرق بين أن تجمع شواهد لكي تقارن الأنواع وتبين العلاقات بينها، وبين أن تنظر آلية (هي التطور من خلال الطفرة والانتخاب الطبيعي) تفسر تاريخها وتنوعها كله بقوة وأناقة، لقد أدرك دارون عندما قرأ مقال مالثوس عن السكان فكرة تطبيق الافتراض المالثوسي على جميع الأجسام الحية، وهو أن زيادة السكان تنزع إلى السرعة أكثر من وسائل الرزق والمعيشة. وقد استنتج دارون من هذا الافتراض النتيجة المحتملة، وهي أن ضغط السكان على وسائل الغذاء والطعام سيؤدي إلى صراع من أجل العيش يكون فيه البقاء للأصلح، وأن كل نوع يتغير في كل جيل ليتكيف أكثر مع البيئة التي يعيش فيها، وأخيرا (بعد أن حدد دارون المشكلة التي تواجهه ومجال ملاحظاته عن طريق الافتراض والاستدلال) اتجه إلى وجه الطبيعة النضر، وأجرى لمدة عشرين سنة فحصا استقرائيا صبورا للحقائق.
6
هكذا يتبين أن عمل «الفرض» أو «الحدس الافتراضي» أهم بكثير مما كان يظن بيكون، وأن الطريقة العلمية أكثر مباشرة وجرأة من طريقته.
وحتى بيكون نفسه لم يكن بيكونيا صميما! «فبعد إنكاره للفروض كان هو نفسه يستخدمها دون أن يدري، وإلا فكيف توصل إلى أن الحركة هي علة الحرارة؟! ليست الحركة هي الظاهرة التي كان يبحثها، وإنما كان يبحث ظاهرة الحرارة، ولم تكن الحركة مذكورة في أي من القوائم الثلاث؛ فالحركة اقتراح؛ أي فرض لتفسير تلك القوائم.»
7
لقد كان بيكون على خطأ في اعتقاده بأن الفروض مبنية على الاستقراء، الذي تكون مهمته في الواقع هي اختبار الفروض، بل إن مجرد القيام بسلسلة من الملاحظات يقتضي أن يكون لدى المرء من قبل فرض أولي، أما اكتشاف الفروض فلا يمكن أن توضع بشأنه مجموعة من القواعد العامة، كما أن رفض بيكون للقياس قد أدى به إلى الإقلال من أهمية وظيفة الاستنباط في البحث العلمي، ومن الجدير بالملاحظة - بوجه خاص - أنه لم يبد تقديرا كبيرا للمناهج الرياضية التي كانت قد بدأت تتطور في عصره؛ ذلك لأن دور الاستقراء في اختبار الفروض ما هو إلا جانب بسيط من جوانب المنهج، وبغير الاستنباط الرياضي الذي يقودنا من الفروض إلى موقف عيني قابل للاختبار، لا تتوافر لدينا معرفة بما يتعين علينا اختباره.
8 (2) بيكون والرياضيات
نامعلوم صفحہ