بينما كانت أوليفيا تصغي إليها، أرادت أن تقول لها: «أنت لا تعرفين قدر الدماء التي هنا داخل منزل عائلة بينتلاند ... أنت لا تعرفين أنهم لا ينتمون إلى عائلة بينتلاند على الإطلاق، وإنما هم نسل سافينا دالجيدو وتوبي كاين ... ولكن حتى ذلك لم يكن مهما ... فأجواء نيو إنجلاند ذاتها، وتربتها ذاتها، قد تغيرت، وأصابتهم بالتيبس.»
ولكنها عجزت عن قول ذلك؛ لأنها أدركت أن قصة تلك الخطابات يجب ألا تصبح بحوزة سابين المجردة من المبادئ أبدا.
قالت أوليفيا بهدوء: «هذا لا يزعجني. هذا لا يزعجني. أتفهمه جيدا.»
أشعلت سابين سيجارة أخرى، وقالت بنبرة تغيرت فجأة: «على أي حال، لقد أفسدنا ما يكفي من يوم رائع بالحديث عن هذا الأمر. أما بخصوص هذا الأثاث، يا أوليفيا ... فأنا لا أريده. لدي منزل في باريس مليء بأشياء كهذه. ولن أعرف ما يتعين فعله به ولا أظن أن لدي الحق في تقسيمه وبيعه. أريدك أن تأخذيه وتضعيه هنا في منزل عائلة بينتلاند ... سيكون هوراس بينتلاند راضيا لو آل إليك أنت وابن عمه جون. وستكون حجة للتخلص من بعض الخردة الفيكتورية وبعض الأغراض الأمريكية البائدة البشعة. كثيرون سيشترون الأغراض الأمريكية البائدة. فأفضلها ليس إلا نسخا مقلدة رديئة من التحف الأصلية التي جمعها هوراس بينتلاند، وحري بك أن تقتني التحف الأصلية.»
أبدت أوليفيا اعتراضها، ولكن سابين استمرت في ضغطها، ولم تتح لها وقتا لتتكلم. وتابعت حديثها قائلة: «أريدك أن تقبلي. سيكون كرما منك تجاهي ... وفي نهاية المطاف، يجب أن يكون أثاث هوراس بينتلاند هنا ... في منزل عائلة بينتلاند. سآخذ شيئا أو شيئين من أجل تيريز، ويجب أن تحتفظي أنت بالباقي، وفقط لا ينبغي أن يذهب أي شيء ... ولا حتى ميدالية أو علبة نشوق ... إلى العمة كاسي. كانت تكرهه وهو على قيد الحياة. وسيكون من الجور أن تحتفظ بأي شيء يخصه بعد وفاته. علاوة على ذلك، يمكن لقطعة أثاث جديدة أن تسهم أيما إسهام في جعل المنزل مبهجا. كان هذا المنزل خاليا وباردا دائما. إنه بحاجة إلى القليل من الأناقة وقدر من الفخامة. فلم يكن هناك أي مظهر من مظاهر الفخامة في عائلة بينتلاند؛ أو في نيو إنجلاند بأكملها، فيما يخص تلك المسألة.»
2
في نفس اللحظة تقريبا التي دخلت فيها أوليفيا وسابين إلى المنزل العتيق لتناول الغداء، ظهر سيبيل وجان عند الأفق على حافة التل الأجرد المهيب الذي تتوجه مقابر البلدة. بعيدا عن عيون تيريز الفضولية اللحوحة، كانا قد صعدا إلى التل ليتناولا الغداء في الهواء الطلق. كان نهارا صافيا على نحو رائع، وامتد المشهد المألوف أسفل منهما مثل خريطة مترامية الأطراف تمتد على مسافة تضاهي ثلاثين ميلا تقريبا. بدت الأهوار خضراء وداكنة، يقطعها على نحو متكرر تشابك مداخل المد والجذر التي ترددت عليها في فترة الغسق زوارق صغيرة محملة بالويسكي وشراب الروم آتية من البحر المفتوح. ومن بعيد، كانت أكوام من الصخور الحمراء ترتفع من شريط الشاطئ الأبيض المتصل بلا نهاية، وبعيدا على البحر الأرجواني تحرك قاربان من قوارب الصيد ذات الأشرعة البيضاء مبتعدين صوب جلوستر. حملت الأشرعة البيضاء، المتقارب بعضها من بعض، قدرا من الود الحميمي في عالم مهيب ولكنه موحش وقاحل قليلا.
وما إن وصلا إلى حافة التل، حتى أوقفهما للحظة التكشف المفاجئ للمشهد الطبيعي. كان اليوم حارا، ولكن على هذا التل المهيب، بعيدا عن المروج الرطبة المنخفضة، كانت تهب رياح باردة منعشة، أقرب إلى عاصفة، آتية من البحر المفتوح. خلعت سيبيل قبعتها وألقتها على الأرض وتركت النسيم يداعب خصلات شعرها المتشابك في كتلة داكنة تحيط بوجهها اليافع الجاد الملامح؛ وفي اللحظة نفسها أمسك جان، الذي تملكته رغبة عارمة ومفاجئة، بيدها في هدوء. لم تحاول أن تسحبها؛ وإنما بكل بساطة وقفت في هدوء، كما لو أنها لا تعي شيئا سوى الجمال الجامح للمشهد الطبيعي الممتد أسفل منهما وشعور بقرب الفتى منها. بدا أن الخوف القديم من الوحدة والاكتئاب قد تلاشى تدريجيا عنها؛ هنا على هذا التل البني السامق، والعالم كله ممتد تحتهما، بدا لها أنهما كانا وحدهما تماما ... أول وآخر شخصين في العالم كله. كانت تدرك أن شيئا مثاليا كان قد حدث لها، مثاليا للغاية ومتجاوزا لعالم تخيلاتها الشديد الرومانسية لدرجة أنه كاد يبدو غير حقيقي.
حلق نحوهما سرب من طيور النورس البيضاء اللامعة، المندفعة من ناحية البحر، تنعق بجموح، فقالت سيبيل: «ينبغي أن نجد مكانا لنتناول فيه الطعام.»
لقد تولت عن سابين مهمة اصطحاب جان لمشاهدة هذا الركن الصغير من بلاده، واليوم كانا قد جاءا لرؤية المشهد من عند المقابر وقراءة النقوش الغريبة العتيقة الممسوحة على شواهد القبور. وما إن دخلا المقبرة، حتى أفضيا على الفور تقريبا إلى البقعة الصغيرة المخصصة منذ زمن بعيد للمهاجرين الذين يحملون اسم عائلة بينتلاند؛ وهو ركن كان الآن يكاد يمتلئ بصفوف مرتبة من القبور. وقفا بجوار أحدث قبرين، اللذين كانا لا يزالان جديدين ومغطيين بطبقة عشبية حديثة العهد، وبدأت في صمت تفصل الزهور التي كانت قد أتت بها من حديقة والدتها إلى باقتين كبيرتين.
نامعلوم صفحہ