44

اوائل خریف

أوائل الخريف: قصة سيدة راقية

اصناف

رد قائلا: «سيساعد في إزالة الغموض عن الفصل المتعلق بأصول عائلتها.» وبعدما صمت للحظة، أردف قائلا: «أتمنى أن أتمكن من العثور على أثر ما للمراسلات المتبادلة بين سافينا بينتلاند وكاين. أنا متأكد من أنها ستوضح الكثير من الأشياء ... ولكنها تبدو غير موجودة ... فقط رسالة أو رسالتان لا توضحان شيئا.»

ثم عاد مرة أخرى إلى صمت عميق، غارقا في حفيف الكتب القديمة والرسائل المصفرة، تاركا أسطورة سافينا بينتلاند تستحوذ على أذهان الموجودين في الغرفة.

كانت لذكرى هذه السيدة طريقة في التسلل إلى أفراد العائلة دون وعي منهم، أو بالأحرى دون رغبة منهم. كانت حاضرة دوما في المنزل، نابضة بالحياة أكثر من أي سلف من أسلافهم الأكثر رصانة، ربما لأنها الوحيدة من بينهم التي أحاطتها هالة من العظمة؛ فهي الوحيدة التي كانت بطريقتها الطائشة سيدة عظيمة. كان لطيشها وبذخها سطوة، حجبت في النهاية، جميع الزوجات الأخريات اللاتي اتسمن بالبساطة والتدبير والملامح الجادة، واللاتي زينت صورهن المرسومة ردهة منزل عائلة بينتلاند، مثلما تطغى شمس مشرقة بنورها على ضوء النجوم الواهن. وأحاطت بأصولها الغامضة هالة رومانسية دائمة؛ إذ لم يكن أحد يعرف من كانت والدتها أو من أين جاءت بالضبط. لعل الأم تنحدر من أصل لا يقل تواضعا عن أصل البينتلاندي الأول صاحب الحانوت حين نزل على أرض الخليج، ولكنها كانت تحمل سمرة العرق البرتغالي؛ وقال البعض إنها كانت ابنة صياد سمك. أما سافينا نفسها فكانت تتمتع بسحر كان كافيا لإغواء أحد أفراد بينتلاند الحذرين ليفر معها مخالفا نزعة الشك والارتياب المتغلغلة في عظام ولحم عائلة بينتلاند.

برزت صورة سافينا بينتلاند بين باقي صور الردهة البيضاء، فاتنة وجميلة ليس فقط لسمرتها وحسنها، وإنما لأنها رسمت بفرشاة الرسام دومينيك آنجر في روما خلال السنوات التي قضاها في رسم السائحين ليقي نفسه من شر الموت جوعا. كانت الصورة الزيتية لامرأة صغيرة الحجم ولكن ممتلئة القوام ذات عينين داكنتين مغريتين وشعر أسود ناعم يكلل جبينها المشرق كزهرة كاميليا بيضاء وينتهي بعقدة صغيرة على مؤخرة عنقها الناصع البياض؛ امرأة أطلت من صورة قديمة بنظرة براقة نابضة بالحياة لامرأة عاشت حياتها بجرأة وشغف. كانت ترتدي ثوبا مخمليا بلون برتقالي زهري وتزينت بطقم حلي اللؤلؤ والزمرد الشهير الذي أهداه لها جاريد بينتلاند الولهان، مما تسبب في فضيحة لعائلة كان البخل والإقتار ديدنها. وعند المرور عبر المعرض الطويل من الصور المعلقة في الردهة دائما ما كانت صورة سافينا بينتلاند هي التي تجتذب الانتباه. كانت ذات نفوذ وهي معلقة فوق الجدران ولا بد وأنها كانت كذلك في حياتها، وبدت جريئة ورائعة الجمال وإن بدت أيضا سوقية بعض الشيء، لا سيما في عالم يتسم أفراده بالرصانة والاتزان كهؤلاء، ومع ذلك كانت جميلة ومفعمة بالحيوية لدرجة أنها جعلت بقية الصور المتراصة بجوارها غير جديرة بأن تؤخذ في الاعتبار.

حتى في الموت ظلت «دخيلة»؛ إذ كانت الوحيدة من بين أفراد العائلة التي لم ترقد بسلام بين الأشجار المتقزمة أعلى التل الأجرد حيث دفن آل بينتلاند الأوائل موتاهم. كان كل ما تبقى من رفات الجسد الدفيء الغض يرقد في الرمال البيضاء بقاع المحيط على مرمى بصر آل بينتلاند. بدا الأمر وكأن القدر كان قد أسلمها بالموت إلى أن تدفن في قبر تكتنفه العواصف والشدائد مثلما كانت تلاقي وهي على قيد الحياة. وفي مكان قريب منها في الرمال البيضاء المضطربة رقد توبي كاين، الذي كانت قد خرجت معه للإبحار في أحد أيام الصيف المشرقة فحولت عاصفة مفاجئة النزهة المبهجة إلى فاجعة.

وحتى العمة كاسي، التي لم تكن تثق في أي امرأة ذات نظرة جريئة ومتحررة كتلك التي رسمها آنجر بفرشاته، عجزت عن إبطال سحر أسطورة سافينا. كانت تجد ذكرى أخرى أكثر إيلاما، ذكرى تكمن في معرفتها بأن طقم اللؤلؤ والزمرد وجميع المجوهرات الأخرى التي كانت سافينا قد انتزعتها من زوجها البخيل مدفونة في مكان ما تحت الرمال البيضاء بين عظامها وعظام ابن عمها. لم تكن العمة كاسي ترى سافينا بينتلاند أكثر من مجرد مخلوقة طائشة وسفيهة. كانت معادية لثروة آل بينتلاند وكل مثل العائلة.

شكلت الصور الشخصية لأفراد العائلة قيمة كبيرة لآنسون في تأليفه لكتابه، لأنها كانت تمثل مجموعة الأسلاف الأكثر اكتمالا في سائر أمريكا. فبدءا من صورة البينتلاندي المهاجر، المرسومة على لوح خشبي رسمه رسام رحالة من رسامي لافتات الحانات، وانتهاء بصورة جون بينتلاند الوسيم، والتي رسمت له وهو في منتصف العمر مرتديا معطفا ورديا بفرشاة الرسام سارجنت، وصورة آنسون الرديئة والكئيبة إلى حد ما، التي رسمها له أيضا السيد سارجنت، كانت المجموعة مكتملة ولم يكن ينقصها إلا شخصان؛ جاريد بينتلاند المتخاذل زوج سافينا، والبينتلاندي الذي يتوسط والد جون العجوز ومالك السفينة الشراعية السريعة، الذي كان قد توفي في الثالثة والعشرين من عمره، وهو أمر من المشين أن يحدث لأي بينتلاندي.

علقت الصور في صف مزدوج منمق في الردهة العالية السقف، مرتبة زمنيا دون الاكتراث بالإضاءة، بحيث علقت الصور الجيدة، مثل تلك التي رسمها آنجر وسارجنت للعجوز جون بينتلاند والصورة غير المكتملة لآشور بينتلاند التي رسمها جيلبرت ستيوارت، في أماكن معتمة، أما الصور الرديئة مثل الصورة المرسومة على لافتة الحانة للبينتلاندي الأول فكانت معرضة لوهج ضوء ساطع.

كانت صورة هذا الأب الأكبر لجميع أفراد العائلة قد رسمت عندما كان في التاسعة والثمانين، وبدا على هذه الخلفية الخشبية شيخا عبوسا، متجهما ذا شعر أبيض وعينين ثاقبتين قريبتين جدا من بعضهما. كان له وجه يشبه الوجوه التي يمكن للمرء أن يراها بين الإخوة بليموث، من قرية ساسكس النائية الشبه المنسية، وجه رجل لافت للنظر فقط لقوة جسده وصلابة عقل خالف كل شيء. ففي سن الرابعة والثمانين، كان منبوذا بسبب انشقاقه عن الكنيسة التي كان قد صار يعتبرها ملكيته الخاصة.

وبجواره علقت صورة بينتلاندي آخر كان شخصا عاديا ولم يخلف وراءه ولو حتى أسطورة غامضة؛ وإلى جواره يظهر الوجه الوقح والبغيض، للبينتلاندي الذي عذب النساء العجائز الغريبات الأطوار بغمرهن في الماء زعما بأنهن ساحرات، وقطع آذان الكويكرز المسالمين في المستعمرة التي تأسست إعلاء ل «حرية عبادة الرب».

نامعلوم صفحہ