نحن في هذه الأيام لا نستطيع الركض في حدائقنا وبساتيننا، أو نقفز فوق السواقي، أو نخترع الألعاب الجديدة، وصغيرتي تعلم ما بي؛ ولذلك لا تعنفني ولا ... بل تدخل غرفتي مبتسمة وتجلس إلى جانب سريري، ثم تضع يدها الصغيرة الوردية في يدي، فأقص عليها الحكاية بعد الحكاية، وهي تنظر إلي وفي عينيها الكبيرتين كل ما في عيون الملائكة من العطف الرباني والمعرفة الدهرية.
أقول - يا سيدتي - حياة الرجل تظل كالصحراء الخالية، حتى يبعث الله إليه طفلة مثل طفلتي، وأقول إن من ليس له ابنة عليه أن يتبنى ابنة؛ لأن سر الوجود ومعناه يختبئان في قلوب الصغيرات!
إنني أدعو ابنتي «أميرة» لأن حركاتها وسكناتها ونغمة صوتها وابتسامتها وألاعيبها واختراعاتها، بل كل شيء فيها يدل على الإمارة، وهي مستبدة، ولها آراء خاصة، لا يستطيع أحد من الناس تغييرها أو تحويرها.
ولقد عرفت أن الرجل المستوحد المشغوف بالعمل، يستطيع أن يكون أبا وأما وأخا ورفيقا وصديقا!»
جبران
10 سنوات في المرض والحب والتأليف
ولقد استمر جبران مريضا بالقلب والحب العذري - حب مي - منذ سنة 1921 إلى أن توفي في سنة 1931، وفي خلال هذه المدة ألف أهم كتبه، وفي رأس هذه الكتب: «النبي» و«حديقة النبي» و«عيسى ابن الإنسان».
ولقد زاره صديقه الأديب الكبير ميخائيل نعيمة وهو يؤلف كتاب «النبي»، وقد رأى له في نومه حلما مزعجا؛ رأى أنه واقف على حافة بئر مستديرة عميقة لا ماء فيها، وفي باطنها شجرة يابسة ذات ساق ضئيل، وفروع قليلة لا أوراق فيها ولا ثمر، وتحت الشجرة رأى رجلا مضطجعا على جانبه الأيمن، وقد توسد ذراعه، ثم رأى الرجل ينهض متواكلا ويفرك عينيه ويتأمل الشجرة، ويتسلق بنظره جدران البئر الملساء كأنه يبحث عن وسيلة للنجاة، ورأى في وجهه الهزيل الأصفر المقنع بالحزن والألم بقعا سوداء وخضراء وصفراء، وتخيله في كل حركة من حركاته كأنه اليأس بعينه، أو كأنه بقية من الحياة تسرولت بسراويل الموت، فناداه بأعلى صوته: «جبران»، ثم أفاق مذعورا من هذا الحلم، وذهب بعده إلى منزل جبران وسأله في اهتمام عن صحته، فأجابه جبران: تدهشني شدة اهتمامك بصحتي اليوم أكثر من كل يوم، فكأنك تشعر بالخلل الطارئ عليها، والذي لم أكشفه بعد لأحد، كنت أظنني من حديد، لكن هذه الآلة العجيبة الصنع والتركيب التي تدعوها الجسد تنتابها علل شأن كل آلة مركبة من أجزاء كثيرة؛ فأنا أخذت أشعر في الأيام الأخيرة برعشة في قلبي ما شعرت بمثلها من قبل، وهذه الرعشة تشتد في بعض الأحيان إلى حد تضيق فيه أنفاسي، فيصعب علي أن أصعد الدرج من أسفل البناية حتى منزلي.
فسأله ميخائيل نعيمة: هل استشرت بشأنها طبيبا يا جبران؟
فقال جبران: أنا أكره الطب، ولا أومن بالأطباء، فهم يرون الجسد أجزاء متعددة، ويحاولون أن يداووا الجزء جاهلين أن علة الجزء هي علة الكل، وأن مصدرها قد لا يكون في المحسوس، بل في غير المحسوس، وكيف تداوي ما ليس محسوسا بالعقاقير والطلاسم الطبية المحسوسة. ومع ذلك قد أضطر إلى مخابرة طبيب، لعله يعرف جسدي وعلله خيرا مني!
نامعلوم صفحہ