Attributes of God and Their Impact on the Believer's Faith
صفات الله وآثارها فى إيمان العبد
اصناف
صفات الله وآثارها في إيمان العبد - المقدمة
من أعظم ما أوجبه الله على عباده أن يعرفوه سبحانه كما أخبر عن نفسه، وكما أخبر عنه نبيه محمد ﷺ، فيعرفوا أسماءه وصفاته كما وردت في النصوص بغير زيادة ولا نقصان، والقاعدة الجامعة المانعة التي تمنع العقول من التعدي في أسماء الله وصفاته هي قوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
1 / 1
قواعد في الأسماء والصفات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن أهم العلوم وأشرفها هو علم التوحيد، والقاعدة عند العلماء: تقديم الأهم على المهم، ولا أهم من توحيد الله جل في علاه، وشرف هذا العلم ينبثق من شرف المعلوم وهو الله جل في علاه، ولا أحد أشرف من الله ﷿.
1 / 2
التسليم التام لظاهر كلام الله ورسوله
يجب على كل إنسان أن يعلم: أن الله أنزل الكتاب بلسان عربي مبين؛ لكي يفقه كل عربي عن الله مراده من ظاهر كلام الله جل في علاه، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء:١٩٢ - ١٩٥].
ويقول تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف:٢]، والحكمة من كونه عربيًا أن تعقلون ما يقال لكم؛ لأنه نزل بلغتكم.
إذًا: فالضابط الأول: أن نأخذ بظاهر اللفظ من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وأن نسلم لكلام الله وكلام رسوله ﷺ، فمثلًا قوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح:١٠]، ظاهر اللفظ أن لله يدًا، واليد عند العرب معناها اليد التي بها يكون البطش، فإذا كانت معلومة يجب علينا أن نأخذ بظاهرها، فتبقى كلمة اليد على ما هي عليه في اللغة، ولا يجوز تأويلها بالنعمة أو القدرة؛ لأن الله أنزل القرآن بلسان عربي مبين وقال: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح:١٠].
ولله ﷾ أصابع، يقول النبي ﷺ: (إن الله يحمل الأشجار على ذه،، ويشير إلى أصابعه)، وأقر النبي ﷺ اليهودي على أن لله أصابع، وجاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه أنه قال: (قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) سبحانه جل في علاه.
فهنا أثبت النبي ﷺ أن لله أصابع، فالواجب علينا أن نسلم لكلامه ﷺ، ولا نؤول الأصبع بالنعمة أو القدرة.
وقال الله تعالى عن سفينة نوح: «تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا»، فالعين معلومة في اللغة العربية، ومعنى ذلك أن لله عينًا، وقد قال الله لموسى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه:٣٩]، فالواجب أن يمر هذا اللفظ على ظاهره، وقال الله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم:٤٢] فله ﷾ ساق.
إذًا: فالضابط الأول أن نمرر قول الله على ما هو عليه بنفس المعنى العربي المبين، ومن أوّل (اليد) بالقدرة و(العين) بالرعاية فقد وقع في ما حذر الله منه بقوله: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:١٦٩] وقوله: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء:٣٦]، ولا يجوز كذلك أن نؤول الضحك بالرحمة، ونقول: إن الله يضحك: أي يرحم، فقد جاء أحد الصحابة إلى رسول الله ﷺ عندما أخبر أن الله يضحك، فقال: يا رسول الله! ما الذي يضحك الرب؟ (قال: أن تخلع درعك) يعني: تظهر الشجاعة والصدق، (أن تخلع درعك وتدخل على العدو تقاتل من أجل الله فتقتل مقبل غير مدبر) قال: يضحك ربنا من ذلك؟ قال: يضحك ربنا من ذلك، فخلع درعه ثم قال: لن نعدم خيرًا من رب يضحك)، فقد علم ذلك الصحابي أن الله يضحك، ولازم الضحك أنه سيثيب عباده الذين ضحك لهم.
قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ﴾ [الفيل:١ - ٣].
قال محمد عبده ﵀ وغفر له زلاته -وهو من المدرسة العقلانية مدرسة الاعتزال، وهم يقدمون العقل على النقل- يقول: إن معنى طيرًا أبابيل أي الجدري، ومرة أخرى يقول: المد والجزر، فأول وحرف كلام الله، وبدلًا من أن يفسره بلسان عربي مبين جعله أعجميًا فأوله وحرفه، وكأنه بلسان حاله يقول: ربنا! ليس هذا الكلام الذي نعقله عنك بصحيح، فكأن كلام الله جل في علاه لا يعقله أحد من العرب، والله أنزله بلسان العرب.
إذًا فالضابط الأول: التسليم التام لكلام الله وكلام رسوله ﷺ.
1 / 3
أسماء الله كلها حسنى
تحت هذه القاعدة فروع كثيرة، الفرع الأول: أن أسماء الله كلها حسنى، أي: بالغة في الحسن غايته، وكون أسماء الله حسنى يتضمن أمرين: الأمر الأول: أن الاسم علامة على ذات الله.
الأمر الثاني: كل اسم من أسماء الله يتضمن صفة كمال، وهذا الذي يبلغ بالاسم غاية الحسن، فأسماء الله جل في علاه كلها غاية في الحسن والكمال؛ لأنها تتضمن صفات الكمال، وإذا انضم اسم مع اسم آخر انضم كمال مع كمال، فإذا قلت: الرحمن الرحيم فهو أكمل من أن تقول: الرحمن فقط، أو الرحيم فقط.
إذًا: فأسماء الله حسنى؛ لأنها دالة على الله، ولأنها تتضمن صفات الكمال، فالكريم اسم من أسماء الله، وهو غاية في الحسن، وذلك لأمرين: أولًا: لأنه علامة على ذات الله، وثانيًا: لأنه يتضمن صفة كمال وهي الكرم.
والحي اسم من أسماء الله، كما قال الله تعالى: ﴿الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ﴾ [آل عمران:١ - ٢]، فهو اسم من أسماء الله، وهو غاية في الحسن والكمال لأمرين: أولًا: لأنه علامة على ذات الله، ثانيًا: لأنه يتضمن صفة كمال وهي الحياة، وحياته سبحانه أزلية أبدية، فهي صفة كمال، وبما أن كل أسماء الله حسنى فالدهر إذًا ليس اسمًا من أسماء الله.
فإن قيل: إن النبي ﷺ قال: (قال الله تعالى: لا تسبوا الدهر؛ فإني أنا الدهر) فكيف نقول: إن الدهر ليس اسمًا من أسماء الله؟
و
الجواب
أولًا: ننظر هل هو علامة على ذات الله أم لا؟ ثانيًا: ننظر هل يتضمن صفة كمال أم لا؟ فإذا نظرنا إلى ذلك فسوف نجد أنه ليس بعلامة على ذات الله، وإن قلنا: إنه علامة على ذات الله فهو لا يتضمن صفة كمال، فالدهر نهار وليل ليس فيه كمال، إذًا: ليس اسمًا لله جل في علاه.
وإذا طبقنا هذه القاعدة على الموجود وهل هو من أسماء الله أم لا؟ فلا بد من أمرين: الأول: هل هذا الاسم علامة على ذات الله؟ الجواب: ليس علامة على ذات الله، والثاني: هل يتضمن كمال؟ والجواب: بل يتضمن نقصًا؛ لأن كل شيء موجود له موجد؛ لذلك فالله هو الواجد الذي أوجد كل ما في الكون وليس الموجود، إذًا: فالموجود ليس اسمًا من أسماء الله.
والقديم في شرح الطحاوية أنه اسم من أسماء الله الحسنى؛ لأنه علامة على ذات الله، والأشاعرة يقولون: أخص صفات الله القدم، فلا يشترك أحد مع الله في هذه الصفة، ولكنه ليس اسمًا من أسماء الله، لأنه لا يتضمن صفة كمال؛ لأن كل قديم فهناك من هو أقدم منه، والاسم الصحيح الذي يوضع مكان القديم هو الأول.
إذًا: فأخص صفات الله الأولية؛ لأن النبي ﷺ قال: (أنت الأول فليس قبلك شيء) وهذا لا يقال في القديم؛ لأن القديم هناك من هو أقدم منه.
فهذا الضابط يجعلك تعرف هل هذا الاسم من أسماء الله الحسنى أو ليس اسمًا من أسماء الله الحسنى.
الفرع الثاني: أن أسماء الله غير محصورة بعدد معين.
الفرع الثالث: أن أسماء الله لا تثبت بالعقل وإنما تثبت بالشرع، والعلماء يقولون: أسماء الله وصفاته توقيفية، ومعنى توقيفية: الوقوف عند كلام الله وكلام رسول الله ﷺ، وهذا فيه رد على من يسمي الله بأسماء ليست موجودة في الكتاب والسنة، فالنصارى يسمون الله الأب، والأب ليس من أسماء الله جل في علاه، ولم ينزل الله به من سلطان لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن، فقد سموا الله بغير اسمه، وهذا إلحاد في أسماء الله، فإذا قلنا: أسماء الله توقيفية فمعنى ذلك: أن هناك آية في الكتاب تثبت الاسم، أو حديث من أحاديث النبي ﷺ، ولذلك اختلف العلماء في النور، هل هو من أسماء الله أم لا، وقد جاء حديث ذكرت فيه التسعة والتسعون اسمًا، وهو ضعيف ليس بصحيح، ولم يرد من السنة ما يثبت أن النور اسمًا من أسماء الله.
الفرع الرابع: كل اسم من أسماء الله يدل على ذاته ويتضمن صفة كمال، والصفات نوعان: متعدية ولازمة، فاللازمة كاسم الله العظيم، فإنه اسم من أسماء الله، ويتضمن صفة كمال، وهذه الصفة التي يتضمنها هي صفة العظمة، وهي صفة لازمة وليست معتدية.
والعزيز اسم لازم غير متعدي؛ لأن العزة صفة من صفات الذات، وأما الأسماء التي لها صفات متعدية فهي الأسماء التي تتضمن صفات الفعل، كالْرَّحَيمِ، فالرحيم اسم من أسماء الله غاية في الحسن؛ لأنه يتضمن صفة كمال وهي الرحمة، والرحمة صفة متعدية؛ لأن الله يرحم عباده، فهو رحيم قبل أن يخلق الخلق ويرحمهم.
1 / 4
صفات الله كمال من كل وجه
هذه هي القاعدة الثالثة في صفات الله، وتحتها فروع: الفرع الأول: صفات الله كمال من كل وجه؛ لأن الله جل وعلا قال: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [النحل:٦٠]، وقال: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:٤]، وقال ﷾: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ [الإسراء:٤٣]، فلله جل وعلا العلو المطلق، وصفاته لها الكمال المطلق من كل وجه، كالعزة والرحمة والكرم والجود والبر والمنع والعطاء والإحسان والعطف والرأفة والعظمة والكبرياء، فكل هذه صفات كمال من كل وجه، وهناك كمال لكنه ليس من كل وجه، فهو كمال من وجه ونقص من وجه كالاستهزاء والخداع والمكر، فيوصف بها الله حين تكون كمالًا، وتنفى عنه حين تكون نقصًا، فالعبد الماكر منبوذ، ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [النحل:٦٠] لكن العبد الذي يمكر بالماكرين يكون المكر فيه من الكمال، فالله يستدرج الماكرين ويعلمهم قوته وعزته، وهذا كمال حين المقابلة، فتقول: يمكر بالماكرين، ويستهزئ بالمستهزئين، لكن لا يمكن أن تقول: إن الله ماكر أو مخادع، حاشا لله! لأن ذلك تنقص من قدر الله جل في علاه، فالصفات التي هي كمال من وجه ونقص من وجه نصف بها الله حين تكون كمالًا، وننفيها عنه حين تكون نقصًا، كقوله تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:٣٠].
الفرع الثاني: صفات الله تنقسم إلى قسمين: ثبوتية وسلبية، فالثبوتية هي التي أثبتها الله في كتابه وأثبتها على لسان رسوله ﷺ في سنته، فيكون قسم ثبت في كتاب الله، وقسم ثبت على لسان رسوله ﷺ، ولا نقول: على لسان الله فنثبت لله لسانًا، بل نسكت كما سكت السلف، فإنهم لم يثبتوا لله لسانًا ولم ينفوها عنه، فلا نقول على الله ما لا نعلم قال تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء:٣٦].
إذًا: فالصفات الثبوتية أثبتها الله لنفسه في كتابه كقوله سبحانه: ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [النساء:١٣٩]، وقوله ﷿: ﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ﴾ [الجاثية:٣٧]، وأثبتها له رسول الله ﷺ حيث قال: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، وقال: (يكشف الله عن ساقه) فالنبي ﷺ أثبت لله ساقًا، وأثبت لله كلامًا، فتكون هذه الصفات ثابتة في الكتاب والسنة.
والصفات السلبية هي التي نفاها الله عن نفسه في الكتاب، ونفاها عنه نبيه محمد ﷺ، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾ [يونس:٤٤]، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت:٤٦]، وقوله: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق:٣٨]، وقوله: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ [البقرة:٢٥٥]، والنبي ﷺ ينفي عن ربه النوم فقال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام) أي: يستحيل في حقه النوم سبحانه.
فكل صفة نقص لا بد أن ننفيها عن الله جل في علاه.
الفرع الثالث: الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: ذاتية وفعلية، ويزاد على ذلك الخبرية، والبعض يرى أن الخبرية تنزل منزلة الذاتية، والصفة الذاتية: هي التي لا تنفك عن الله بحال من الأحوال كالحياة، فإنها صفة ذاتية لا تنفك عن الله، ولا يمكن أن نقول: كان الله حيًا؛ لأن الصفة الذاتية أزلية أبدية يتصف الله بها أزلًا وأبدًا.
والصفة الفعلية هي المتجددة، فيمكن أن يفعلها الليلة ولا يفعلها غدًا، ويمكن أن يفعلها اليوم ولا يفعلها بعد غد، كالكلام فإن ربنا جل في علاه تكلم مع موسى حين جاء موسى للشجرة، لكنه سبحانه لم يكن في الأزل يتكلم وفي الآخر يتكلم، وكذلك ينزل الله في ثلث الليل ولا ينزل نهارًا، فالصفات الفعلية تتجدد، وهي متعلقة بمشيئة الله، إن شاء الله فعل وإن شاء لم يفعل، فإن شاء استوى وإن شاء لم يستو، وإن شاء تكلم وإن شاء لم يتكلم، وإن شاء أعطى وإن شاء لم يعط.
والصفات الخبرية هي التي نسميها أجزاء وأبعاض، كاليد فإنها صفة لله، وهي بالنسبة لنا أجزء، وليست جزء من الله بل صفة له، وكالعين فإنها صفة لله وهي جزء منا، والساق صفة لله وهي جزء منا كذلك.
ومن الأمثلة على الصفات الذاتية: الحياء: فإنها صفة ذاتية؛ لأن الله يستحي، فعندما يتكلم عن الجماع يقول: ﴿أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [النساء:٤٣]، قال ابن عباس: معناها: جامعتم.
ومن الصفات الذاتية: الكرم فهي فعلية؛ لأنه سبحانه إن شاء أكرم زيدًا وإن شاء لم يكرمه، لكنها في الأصل ذاتية.
الفرع الرابع: كل صفة من صفات الله فإنه يتوجه عليها ثلاثة أسئلة: السؤال الأول: هل هي حقيقة أم هي مجاز؟ السؤال الثاني: هل لها كيفية معلومة أو مجهولة؟ السؤال الثالث: هل تماثل صفات المخلوقين أم لا؟
و
الجواب
أن صفات الله لا بد أن نثبتها بلا تمثيل، ولا تشبيه، ولا تكييف، ولا تحريف، ولا تأويل.
والمماثلة: المطابقة في الصفة، كأن يقول المشبه: يد الله مثل يد محمد - أعوذ بالله -، وصفات الله تثبت بلا تمثيل؛ لقول الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١].
ومعنى التشبيه أن تقول: عين الله تقارب عين المخلوق، وحاشا لله! لأن الله صفاته لا تشبه صفات المخلوق.
ومعنى التكييف أن تقول: يد الله طولها كذا وأصبعه صفتها كذا دون أن تأتي لها بالمماثل، فتكيف لله جل وعلا هيئة وتتصور صفته في ذهنك، وهذا لا يجوز أيضًا في حق الله؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه:١١٠] والإنسان يكيف الصفة إذا رأى صاحب الصفة، وهو ير الله، أو أخبره من رأى صاحب الصفة بكيفية الصفة ولم يخبرنا النبي ﷺ بكيفية الصفة، أو رأى مثيلًا لصاحب الصفة، فينظر إليه فيقول: كيفية صفتك كذا وكيفية صفة لله كذا تعالى الله عن ذلك ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١].
وبلا تأويل، أي: بلا تحريف.
فهذه هي القاعدة الأولى: أن يمر اللفظ على ظاهره.
1 / 5
الرد على المعطلة
المعطلة قسمان: معطلة تعطيلًا كاملًا محضًا، ومعطلة تعطيلًا ناقصًا، والمعطلة تعطيلًا كاملًا هم الجهمية، وهم الذين عطلوا الاسم والصفة، فيقولون: لا سميع ولا سمع، ولا بصير ولا بصر، ولا كريم ولا كرم، ولا قدير ولا قدرة، فالمعطلة الجهمية ينفون عن الله الاسم وينفون عنه الصفة، والله يقول: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:١ - ٢]، وهم يقولون: لا رحمن ولا رحيم، ويقول: ﴿وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [سبأ:٦]، وهم يقولون: لا عزيز ولا عزة، فهم إذًا يعبدون عدمًا.
والمعطلة تعطيلًا ناقصًا هم المعتزلة، وهم الذين يثبتون لله الاسم وينفون عنه الصفة، فيقولون: الله عزيز لكن بلا عزة وسميع بلا سمع، وهذا تناقض، فلو قلت: محمد السميع فمعنى ذلك أنه يسمع الكلام ويتصف بصفة السمع، ولذلك كانت عائشة تقول: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات كلها، فالمرأة تشكو زوجها للرسول ﷺ وأنا في ناحية المسجد يخفى علي بعض حديثها، فأنزل الله: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ [المجادلة:١].
1 / 6
صفات الله وآثارها في إيمان العبد - شرح صفة الأولية والآخرية لله ﷿
الأول والآخر اسمان من أسماء الله ﷿، ويتضمن هذان الاسمان صفتين من صفاته سبحانه، وهما: الأولية والآخرية.
ولهاتين الصفتين أثرهما على إيمان العبد وعبوديته لربه، فالله هو الأول وكل شيء بدايته بيده، وهو سبحانه الآخر وكل شيء خاتمته إليه.
2 / 1
أهمية علم العقيدة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعه، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلاله في النار، ثم أما بعد: فإن علم العقيدة من أشرف العلوم؛ لأنه يتعلق بصفات الرب جلا في علاه، ولا أحد أشرف من الله، والعبد مربوب لله جلا في علاه، والله جلا في علاه يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، والعلم من أجل العبادات، فبه يتعرف الإنسان على ربه حق المعرفة، فيعرفه بأسمائه الحسنى وبصفاته العلى، كما يعرف كمال الله وجلاله ﷾، ولا بد أن يعرف الإنسان كيف يتعبد لله جلا في علاه بصفاته التي علمه إياها.
2 / 2
الفرق بين الصفات الثبوتية والصفات السلبية
إن الفرق بين الصفات الثبوتيه والصفات السلبية هو أن الصفات الثبوتية يثبت الله لنفسه بها الكمال، وأما الصفات السلبية فينفي الله عن نفسه بها النقص، فالصفة الثبوتية كقول الله تعالى: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة:٢٥٥]، ففي هذه الآية أثبت الله لنفسه صفة الحياة والقيومية، وهما من صفات الكمال، وكقول النبي ﷺ في الحديث القدسي كما في الصحيحين (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري).
2 / 3
المعطلة من الجهمية والمعتزلة ومنهجهم في الصفات
المعطلة هم الذين عطلوا الأسماء والصفات فنفوها أو أولوها، كالجهمية والمعتزلة.
وهم قسمان: المعتزلة والجهمية، فالمعتزلة نفوا الصفات وأثبتوا الأسماء، والجهمية نفوا الأسماء والصفات، وعليه فإن التعطيل قسمان: تعطيل ناقص كتعطيل المعتزلة، وتعطيل كامل كتعطيل الجهمية.
فالمعتزلة يقولون: إن الله له اسم السميع لكن بلا سمع، وعند الجواب عليهم وإلزامهم بالحجة لا بد أن نأتي على المتفق عليه بيننا وبينهم، ثم نرد على المختلف فيه والمتفق عليه بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة هو إثبات الذات لله جل وعلا، والمختلف فيه بينهم هو إثبات الصفات، فيكون الجواب على المعتزلة بقاعدة: القول في الصفات كالقول في الذات؛ لأن الصفة معنى قائم بالذات، فإذا قالوا: إن الله جلا وعلا له ذات مقدسه، وأثبتوا أن الله سميع مثلًا فيلزمهم أن يثبتوا المعنى القائم بهذه الذات وهو صفة السمع، فالقول في الصفات كالقول بالذات.
2 / 4
إثبات صفة الأولية لله ﷿
إن صفة الأولية من الصفات الذاتية الثبوتيه، وهي أخص صفه من صفات الله جلا في علاه، فالله جلا وعلا أول ليس قبله شيء.
والقاعدة في الصفات أنها توقيفه كلها، بمعني أننا لا بد أن نأخذها من الكتاب والسنة، وصفة الأولية ثبتت لله في الكتاب السنة نصًا واستنباطًا.
فأما النص فقد قال الله تعالى: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ [الحديد:٣]، فالاسم هو الأول، وإذا ذكر الله الاسم فقد ذكر الصفة، للقاعدة التي قعدها أهل العلم وهي: أن كل اسم يتضمن صفة كمال، إذًا: فاسم الله الأول يتضمن صفة الأولية.
وأما من السنة فكان النبي ﷺ يقول: (اللهم أنت الأول)، ثم يفسر ذلك فيقول: (ليس قبلك شيء)، وأشار إلى هذا المعنى كما في الصحيحين، فقال ﷺ (كان الله ولم يكن شيء معه أو قبله)، فهذه الأدلة تثبت هذه الصفة.
2 / 5
كيفية التعبد لله بصفة الأولية
إذا أثبت العبد لله جلا في علاه صفة الأولية، وعلم أن الله هو الأول فلا بد أن يتعبد بهذه الصفة.
والتعبد بهذه الصفة تتضمن عدة أمور: أولاها: الرد على الفلاسفة، فإذا اعتقد العبد اعتقاد جازمًا بأن الله هو الأول، وأن الله كان ولم يكن شيء معه، فسوف يرد على الفلاسفة الذين يقولون بالتسلسل، والتسلسل قول مردود فالله كان ولا شيء معه، والكل كان عدمًا، وما كان إلا الله جلا في علاه، والعبد لم يكن في هذا الكون إلا بعد أن خلقه الله جلا وعلا، وأسبغ عليه نعمه، قال الله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان:١]، فالله جلا في علاه كوّن هذا الإنسان وخلقه، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنه، وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيًا.
إذًا: فأول شيء يتعبد به الإنسان لله جلا في علاه في صفة الأولية: هو الرد على الفلاسفة الذين يشوشون على عقائد الناس.
ثانيها: أن العجب داء، وهو من أشد الأمراض التي تميت القلوب، وهذا المرض لا يأتي إلا بالتخلف عن فهم أولية الله جلا في علاه، فداء العجب يورث الكبر، والكبر يورث النار؛ لأن النبي ﷺ قال (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذره من كبر).
وأصل الكبر هو أن يعجب الإنسان بعلمه، أو بقوته، أو بغناه، أو بكثرته وكثرة من معه، فالتعبد لله بصفة الأولية، يقلل من داء العجب في القلب؛ لأن العبد إذا تدبر أن الله هو الأول، وهو الذي ابتدأ خلقه وأنعم عليه، وهو الذي علمه وأطعمه وسقاه، وهو الذي أوجده في هذه الدنيا على الإسلام، فإذا تدبر ذلك علم أولًا: أن العلم الذي هو فيه لم يأت من عنده نفسه، وإنما هو من عند الله، فلا يقول كما قال قارون: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ [القصص:٧٨] بل سيقول: إن الله هو الذي علمني بعد أن كنت جاهلًا يقول الله تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ﴾ [النحل:٥٣] أي: ليس للعبد فيها شأن، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس مني شيء، وليس بي شيء، وليس لي شيء، إن الأمر كله لله، أوله ونهايته لله جلا في علاه؛ فالله هو الذي رزق هذا الإنسان العلم والقوة والمال، وهداه إلى الإسلام، فإذا تدبر العبد ذلك فلا يمكن أن يحتقر أحدًا، أو يصل إلى قلبه داء العجب؛ لأنه يعلم أن الله جلا وعلا هو الذي ابتدأ الخير الذي هو فيه، قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ﴾ [النحل:٧٨]، وهذا معنى من معاني أوليته جل في علاه، فهو الذي ابتدأ هذا الخير وأعطاه إياه، وهو الذي يستطيع أن يمنعه منه، بل ويسحب منه كل النعم التي أوصلها إليه.
ثالثها: إن أفضل عبادة على اللسان هي ذكر الله، قال النبي ﷺ -عندما نصح رجلًا كان يستنصحه في آخر عمره-: (لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله)، وكفى للذاكرين فضلًا أن الله يذكر من ذكره، قال النبي ﷺ: (قال الله تعالى: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير من).
وذكْر الله جلا في علاه ليس بقوة العبد ولا بجهده، وإنما الله بأوليته هو الذي ابتدأ على لسانه أن يذكره، ثم بعد ذلك قبل منه هذا الذكر، ثم كافأه بأن ذكره في الملأ الأعلى، وهذه نعمة عظيمة ينبغي على الإنسان أن يتفكر فيها، فإنه ما ذكر الله إلا بأوليته، وما سجد لله ليرتفع درجة إلا بأوليته، فكيف لا يهفو قلبه إلى خالقه الذي ابتدأ الإنعام عليه؟ إن العبد إذا قال: لا إله إلا الله فهي ليست منه، إنما هي من الأول، فهو الذي ابتدءها على لسانه، ثم كافأه بأن ذكره في الملأ الأعلى.
2 / 6
التعبد لله بأوليته عند أصحاب المعاصي
كل إنسان منا يقع في معصية الله ﷿ وجل، فنحن لسنا ملائكة، فقد يعصي الإنسان ربه إما بقلبه بالتفكير في غير الله جلا في علاه، أو بشهوة من شهوات هذه الدنيا، أو بغفلة القلب عن ذكر الله جلا في علاه، وقد يعصي بلسانه فيسب أو يشتم أو يغتاب، أو بعينه فينظر إلى ما حرم الله، فكيف يمكن أن يتعبد الإنسان لربه بصفة الأولية وهو يعصى الله؟ والجواب هو: إن الله جلا في علاه جعل العبد يعمل المعصية، فإن كان مؤمنًا فإن الله جلا في علاه أراد أن يرده إليه ردًا جميلًا، وهذا من أولية الله جل في علاه، فبعد أن يعصي العبد ربه يسمع كلام النبي ﷺ يقول: (وخير الخطائين التوابون)، فيذهب ليتوب إلى الله، وهذه التوبة ليست منه إنما هي من الله.
وكثير من الناس من يعصي الله ويقول: سوف أتوب، ولا يتوب؛ ذلك لأن التوبة ليست بيد الناس ولا بقلوبهم مع أن الله أمرهم بها لكنها ليست بأيديهم، فقد يعصي العبد ويتعدى حدود الله، ثم يريد أن يتوب فلا تكون منه، وإنما تكون من الأول، والدليل على ذلك قول الله تعالى في الذين خلفوا: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ [التوبة:١١٨]، فما تابوا من أنفسهم، بل إن الله هو الذي ابتدأ لهم التوبة، فأودع في قلوبهم الندم على المعصية، ثم بعد ذلك وفق اليد أن ترتفع لتتضرع وتتذلل وتتمسكن، ثم وفق اللسان أن يخشع ساكنًا لربه جل في علاه معترفًا بذنبه، فيقول ما قاله يونس: ﴿لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء:٨٧].
فينبغي على العبد أن يتعبد الله بصفة الأولية فيقول: توبتي ليست بيدي، بل هي بيد الأول ﷾.
والتوبة منّة عظيمة منّ الله بها على العبد بعد أن عصاه، وهو قادر على أن يأخذه، فالله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ولكنه سبحانه ابتدأ له الخير بأوليته فوفق قلبه للندم على المعصية، ثم بعد ذلك ذلل لسانه بالذكر والاستغفار، ثم رفع يديه إلى ربه فقبل منه توبته.
2 / 7
الدعاء تعبد لله بصفة الأولية
إن كل إنسان له مطلب عند ربه، والطمع في الدين محمود، والطمع في الله فقه لم يصل إليه أي أحد إلا أيوب ﵇، فقد بين لنا قاعدة عظيمة في التعامل مع الكريم، فإذا لقيت كريمًا من أهل الدنيا فإن أكثرت عليه بالسؤال قال: إن كان حبيبك عسلًا فلا تلحسه كله، فلسانك سينقطع.
ولكن الله ﷿ كريم وليس لكرمه حد ولا نهاية، يقول جل في علاه كما في الحديث: (لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيء).
فأيوب ﵇ بعدما أغناه الله جلا في علاه، وأنزل عليه جرادًا من ذهب، وهو يحثوا الذهب قال الله له: ألم أكن قد أغنيتك؟ قال: لا غنى لي عن بركتك، وإني اطمع في كرمك.
وما من أحد إلا ويعلم أن خزائن السموات والأرض بيد الله سبحانه، والموفق من وفقه الله بطلب الدعاء، يقول عمر بن الخطاب: إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن أحمل همّ الدعاء؛ لأنه يعلم تعبدًا بأولية الله أن الدعاء توفيق من الله، وأن رفع اليد والتذلل، وبكاء القلب قبل بكاء العين كله من الله، فإذا دعا العبد ربه بصدق نال منه ما يريد، وإذا تعبد الإنسان لربه بأوليته وصل بها إلى آخريته سبحانه جلا في علاه.
فالله هو الأول الذي ابتدأ لك التوفيق أن تدعوه، وهو الذي يعقب بعد ذلك بأن يستجيب لك الدعاء، فهذا هو التعبد لله بصفته العظيمة الجليلة الكاملة: صفة الأولية.
2 / 8
أصناف الناس في التعبد لله بصفة الأولية
هناك قصة تبين لنا كيف أن الله يميز بين عباده، ويفرق بين من يتقن صفات الله ويتقن التعبد بها ممن لا يتقن ذلك، فقد كان هناك ثلاثة من بني إسرائيل: أقرع وأبرص وأعمى، ولكي يبين الله لنا كيف نعتقد فيه حق الاعتقاد، ثم نتعبد له حق التعبد جاء الملك إلى هؤلاء الثلاثة فقال للأول -وكان أصلع-: ماذا تطلب؟ فقال الأصلع: أطلب شعرًا أتزين به أمام الناس، فمنحه الله شعرًا جميلًا، ثم جاء إلى الأعمى وقال: ماذا تطلب؟ قال: أريد البصر، فرد الله عليه بصره، ثم جاء إلى الأبرص فقال له: ماذا تطلب؟ قال: أطلب جلدًا طيبًا؛ فقد قذرني الناس مما أنا فيه، فأبدله الله جلدًا طيبًا، وأذهب عنه البرص.
وقال هذا الملك لكل واحد من الثلاثة: أي المال أحب إليك؟ فقال أحدهم: الإبل، وقال الثاني: البقر، وقال الثالث: الغنم، فأعطى كل واحد منهم ما تمنى، حتى صار للثلاثة واد من الإبل وواد من البقر وواد من الغنم.
ثم جاء الملك على صورة رجل فقير فقال للأول: اعطني مما أعطاك الله؟ فنظر إليه فقال: الحقوق كثيرة، ولم يعطه شيئًا، فقال: كأني أعلم أنك كنت قد قذرك الناس، وكنت فقيرًا، فقال له: إني ورثت هذه المال كابرًا عن كابر، وجحد بأولية الله جلا في علاه، ونسي أن تلك النعم هي أولًا من الله، وتمثل فيه قول قارون عندما قال: «إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي» [القصص:٧٨]، فقال له الملك: صيرك الله إلى ما كنت عليه، فأذهب الله جل وعلا عنه ذلك المال، وعاد إلى ما كان عليه من البرص.
ثم جاء الملك إلى الثاني فقال له: أعطني مما أعطاك الله، فقال: الحقوق كثيرة، وجحد بأولية الله، فقال له الملك: كنت أراك رجلًا أصلع والناس يتقززون منك، وقد أعطاك الله ما أنت فيه، قال: إنما ورثت ذلك كابرًا عن كابر، فقال: صيرك الله إلى ما كنت عليه إن كنت كاذبًا، فصيره الله إلى ما كان عليه من قبل.
ثم جاء إلى الثالث وقال مثلما قال للأول والثاني، فقال: نعم، إني كنت فقيرًا فأغناني الله، وكنت مريضًا فشفاني الله، وانظر إلى هذا الوادي فأي المال أحببت فخذ ما شئت منه.
فتعبد الله بأوليته، وأقر بأن هذه النعم إنما هي من الله وحده، فدعا له الملك، وثبت الله له هذا الخير.
ومن جحد نعم الله عليه فلا يلومن إلا نفسه، ومن شكر فإن الله يشكره، ومن أعطى فإن الله يعطيه، ويخلف عليه.
فينبغي على الإنسان أن يجلس مع نفسه، ويمعن النظر متدبرًا في صفات الله، وليحاسب نفسه على هذه النعم التي أنعم الله بها عليه، وليشكر الله تعالى على هذه النعم، فإن هذه النعم ابتداءً هي من الله لا من غيره، ولذلك جاء في الإسرائيليات أن أحد أبناء بني إسرائيل كان يتضرع إلى الله ويقول: كيف أشكرك والشكر منك نعمة فتسلسل الشكر ليس مني، بل هو منك يا الله.
إذًا: الصفة الأولى من الصفات الذاتية التي لا بد لكل امرئ أن يتدبرها ويتعبد بها لله هي الأولية.
2 / 9
إثبات صفة الآخرية لله وكيفية التعبد بها
الصفة الثانية من الصفات الذاتية: الآخرية، وهي آخرية الله جل في علاه وهي صفة ثبوتية فعلية، وآخرية على وزن فعلية.
2 / 10
الفرق بين الصفات الذاتية والفعلية
إن الفرق بين الصفات الذاتية والفعلية أن الصفات الذاتية لا تنفك عن الله بحال من الأحوال، ولا يصح أن يقال: إن الله يتصف بها في وقت دون آخر، كصفة القوة، فإنها لا تنفك عن الله، ولا يصح أن يقال: إن الله يتصف بها في وقت دون آخر.
وأما الصفات الفعلية فهي التي يتصف بها الله ﷿ وجل متى أراد، كالكلام والضحك، يقول الله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ [الأعراف:١٤٣]، فالله ﷿ تكلم لما جاء موسى.
ويقول النبي ﷺ: (يضحك الله من رجلين قتل أحدهما الآخر فدخلا الجنة)، ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي ﷺ أثبت صفة الضحك لله ﷿، وكان ضحكه سبحانه حينما رأى ما فعله الرجلان.
2 / 11
أدلة اتصاف الله بصفة الآخرية
إن صفة الآخرية صفة ذاتية ثبوتية ثبتت لله بالكتاب والسنة، فمن الكتاب: قول الله تعالى: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ﴾ [الحديد:٣]، ووجه الدلالة: أن الآخر اسم من أسماء الله جلا في علاه يتضمن صفة الآخرية، وهي صفة من صفات الكمال والجلال.
ومن السنة: قول النبي ﷺ: (اللهم أنت الآخر فليس بعدك شيء).
2 / 12
التعبد لله بصفة الآخرية
إن التعبد لله بصفة الآخرية يكون بالتدبر في زوال كل شيء وأن كل شيء له آخر، والله ليس له آخر، وأن آخرة هذا الإنسان وهذا الكون كله بيد الآخر ﷾، قال الله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن:٢٦ - ٢٧].
فعلى الإنسان أن يعلم أن آخريته بيد الله جلا في علاه، وأن الأعمال بالخواتيم، وهذه الخواتيم بيد الآخر سبحانه جل في علاه، فإذا علم الإنسان ذلك تضرع إلى ربه أن يختم له في آخر حياته بالتوحيد والهدى والتقوى والإحسان، وقد قال النبي ﷺ: (إذا أحب الله عبدًا عسله، قالوا: وما علسه يا رسول الله؟! قال: إذا أحب الله عبدًا وفقه لعمل الخير، ثم قبضه على هذا العمل)، فكانت خاتمته بالأعمال الصالحة.
وكما أن آخرة الإنسان في هذه الدنيا بالله جلا في علاه، فإن آخرته يوم القيامة بيد الآخر سبحانه، فليدع ربه أن يختم له بخاتمة حسنة بقول: لا إله إلا الله، عملًا بقول النبي ﷺ: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة).
إن الصحابة والتابعين ومن بعدهم كانوا يتدبرون أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، ويتعبدون لله بها، فهذا عمر بن الخطاب كان يحفظ القرآن عشر آيات عشر آيات، فحفظ البقرة في ست؛ فيتعلم القراءة، ثم يحفظ العشر الآيات، ثم يعمل بها تعبدًا لله جلا في علاه.
وكان ابن عمر يقول: تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فجاء نور القرآن على نور الإيمان، فتم نور الله في قلب المؤمن.
وهذا أبو زرعة ﵀ جبل من جبال أهل العلم، وكان حافظًا ثقة ثبتًا، وكان يعرض عليه صحيح مسلم فيقرأ فيه ويقول: هؤلاء القوم ما أرادوا إلا الشهرة؛ لأنه تكلم عن بعض الروايات في صحيح مسلم، منها: روايات أبو الزبير عن جابر، وكان أبو زرعة مجتهدًا في رواية الحديث عن النبي ﷺ، وكان ينتقي من الأحاديث الضعيفة والموضوعة فيتعبد لله بالآخرية، فكافأه الله عند احتضاره بخاتمة حسنة، فعندما كان على فراش الموت اجتمع عنده المحدثون يذكرون حديثًا عن النبي ﷺ، فيقول أحدهم: حدثني فلان عن فلان عن فلان أن النبي ﷺ قال: كذا وكذا وكذا، ويذكر أحاديث، فقال له أبو زرعة: هذا الحديث عندي، وهو أشبه بحديث فلان، فتكلم في آخر لحظات حياته وقال: حدثني فلان عن فلان عن فلان عن النبي ﷺ أنه قال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) ثم مات، فلما اعتقد اعتقادًا جازمًا بأن آخرته لا تكون إلا لله تعبدًا لله، كانت آخرته أن ﵁ ورطب لسانه بلا إله إلا الله، ثم مات عليها.
وهذا الإمام الفذ مسلم بن الحجاج ثاني علماء الأمة، وكتابه ثاني أصح الكتب بعد كتاب الله جلا في علاه، وبعد كتاب البخاري، عندما علم أن الله هو الآخر، وأن آخرته بيد الله، ابتدءها أولًا بالإحسان، فختمها الله له بالإحسان، قال الله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ﴾ [الرحمن:٦٠]، وهيئ له أسبابًا للآخرية الصالحة؛ وروي أنه جلس في مجلس تحديث ومذاكرة مع بعض العلماء فذكروا له حديثًا لم يعرفه، فقام طوال الليل يبحث عن الحديث، وينظر في كل المصنفات، وكان يأخذ تمرةٍ ويقرأ حديثًا وهكذا، حتى ظفر بالحديث فأخذ التمرة، وحمد الله وهو ينظر إلى الحديث ويقرؤه، ثم مات على ذلك وهو يقرأ حديث النبي ﷺ.
ومن المعاصرين: الشيخ كشك رحمة الله عليه، فقد كان دائمًا ينافح عن دين الله، ويدل الناس على الخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولما كانت آخريته بيد الله ختم الله له بخاتمة حسنة فمات وهو ساجد؛ لأنه دعا الله ألا يقبضه إلا ساجدًا.
إن آخرة كل إنسان وموته بيد المليك المقتدر، فإذا تبعد لربه بأن الآخرية بيده، واعتقد ذلك اعتقادًا جازمًا، والتجأ قلبه إلى صاحب الآخرية، فإنه لا يمكن أن تكون آخرته إلى الشيطان؛ لأن الشيطان يقعد عند رأس المرء عند موته وآخرته فيقول له: إن أباك مات على النصرانية، إن أباك مات على اليهودية، إن أباك مات على المجوسية، ذلك هو الدين الحق، بل ويمثل له أباه وأمه، وهذا الذي حدث مع صناديد أهل العلم، فقد تمثل للإمام أحمد، وقال له: يا أحمد! لقد ظفرت بك، وسوف آخذ منك ما أريد، ولا أحد يستطيع أن ينقذك مني، والإمام أحمد يقول: لا، وابنه يقول له: يا أبتي! قل: لا إله إلا الله، وهو يقول للشيطان: لا، فدهش الولد مما يقول أبوه، فلما أفاق الإمام أحمد قال له: يا أبتي! أقول لك: قل: لا إله إلا الله، وتقول: لا، فقال له: تمثل لي الشيطان، فقال لي: الآن أظفر منك يا أحمد، وأنا أقول: لا لا، وهذا يدل على قوة اعتقاده بآخرية الله، فوفقه الله أن يموت على: لا إله إلا الله، نحسبه كذلك، ونسأل الله له الدرجات العلى.
نسأل الله جل في علاه أن يوفقنا وإياكم إلى التعبد له بصفاته العلية الكاملة، بأن نعرف كل صفة، وكيف نتعبد بها له سبحانه.
2 / 13
صفات الله وآثارها في إيمان العبد - شرح صفة الأحدية والباطنية والتبارك لله ﷿
مسكين من تجشم وحدث عما لا تحيط به الكلمات والأوصاف ولا تدرك كنهه العقول، وحسبنا أن نفسر ما وصف به نفسه من صفات، فالله أحد لا ند له؛ وفرد لا مثيل له، عرفناه بوحدانيته فاتجهت قلوب موحديه إليه وحده فلهجت باسمه، وخلصت لتنفيذ مراده وأمره، فهو الباطن القريب من عباده، يعلم سرهم وجهرهم وما تكنه صدورهم، فعجبًا لمن يعصيه وهو قريب منه، ولا يستحيي ممن لا يخفى عليه أمره، إنه القائل عن نفسه: (تبارك)، وهل البركة إلا منه وإليه، فطوبى لمن حلت بركة الله بداره.
3 / 1