فأجابت بصوت خافت: «لا.»
وكانت كاتيا ونحن جلوس حول مائدة العشاء حيية صامتة، وكانت قبضتها على ملعقتها سمجة غير لطيفة، ولكن الجوع لم يلبث أن تغلب على ما كانت فيه من ارتباك، فأخذت تلتهم الطعام التهاما، وحاولنا أن نتحدث في موضوعات شتى لا تمت بصلة إلى حالها، ولكن بؤس هذه الطفلة أثر فينا وأحزننا، ولم يكد أبي ينبس ببنت شفة.
ولما ذهبت والدتي بعد العشاء لتغسل الصحاف أقبلت عليها كاتيا وقالت لها: «خالتي، هل تأذنين لي أن أساعدك؟» ولما حملت الصحاف من المائدة إلى المطبخ بدت لأول مرة بنتا صغيرة عادية، وكأنها وهي في ثوبها الكبير ذي الذيل الطويل في حفلة من حفلات التخفي، ودخلت في تلك الساعة جارتنا ألجا إيفانوفا، وهي موظفة نشيطة في لجنة الحزب الإقليمية، ولما علمت بأمر الفتاة لم يكفها استحسان ما فعلناه لها، بل عرضت علينا أن تشترك معنا في نفقات كسائها، وسمعنا فجأة صوت الفتاة تبكي في المطبخ.
وقالت أمي: «دعوها تنفس عن كربها بالبكاء.»
ولكن صوت بكائها أخذ يرتفع حتى أصبح نحيبا هستيريا، وشرعت تردد في نحيبها باللغة الأوكرانية عويل النادبات وتقول: أين ماما؟ أين بابا؟ آه! أين فاليا أخي الأكبر؟ وذهبنا إلى المطبخ، ورأينا الفتاة منكمشة فوق كرسي تضرب كلتا يديها الصغيرتين الباديتي العظام بالأخرى، والدموع تنهمر من عينيها وتجري على خديها الغائرين .
وتوسلت لها أمي أن تسكت قائلة: «أرجو أن تهدئي يا كاتيا، إن أحدا لن يمسك بسوء، وستقيمين معنا وسنأتيك بأحذية وملابس ونعلمك القراءة والكتابة، وثقي أني سأكون لك أما رءوما.»
ولكن الفتاة لم تهدأ وشرعت تقص علينا قصتها.
وألحت عليها أمي أن تمسك عن سرد هذه القصة قائلة: «لا تقصيها علينا يا بنيتي العزيزة، لا تقصيها علينا، وستحدثيننا عنها في غير هذا الوقت.»
فقالت كاتيا وهي تنتحب: كلا، لا أستطيع، بل لا بد لي أن أقص عليكم قصتي الآن، إذ ليس في وسعي أن أقف صامتة، بعد أن قضيت عاما كاملا من غير أهل، نعم عاما كاملا، لقد كنا نعيش في بكرفنايا، ولم يشأ أبي أن ينضم إلى المزارع الجماعية، وأخذ ناس كثيرون يناقشونه، ثم ساروا به إلى مكان بعيد، وشرعوا يضربونه، ولكنه أصر على عدم الانضمام إليها، فصاحوا قائلين: إنه من عمال «كبار الملاك».
وسألتها: «وهل كان والدك من الملاك الزراعيين؟ وهل تعرفين معنى لفظ «عمال كبار الملاك»؟» - «لا يا عمي لست أعرف معنى هذه الألفاظ؛ لأن معلمي لم يعلمني إياها، لقد كان لنا جواد وبقرة وعجلة وخمس نعاج وبضعة خنازير ومخزن، ولم يكن لنا شيء غير هذا، وكان الشرطي يأتي في كل يوم ويأخذ أبي إلى سوفيت المدينة فيطلبون إليه أن يورد لهم الحبوب، ولا يصدقونه إذا قال: إنه ليس لديه منها شيء، ولكني أقسم لكم إنه كان صادقا في قوله.» ورسمت على صدرها علامة الصليب في جد ورزانة؛ «وظلوا أسبوعا كاملا لا يسمحون لأبي بالنوم، ويضربونه بالعصي والمسدسات، حتى ازرق جلده وتورم جسمه كله.»
نامعلوم صفحہ