فأجابه أبي وهو هادئ يبتسم: «أي شيء معي؟ إن معي ساعة وقليلا من النقود الصغيرة وولدي.»
ولما تم للصوص مغنمهم هدأ سير القطار مرة أخرى وقفزوا منه، وانبعثت طلقات نارية من بعض العربات، وشاهدت أحد اللصوص يقف كأن الطلقات أدهشته، ثم يسقط من مكانه ببطء، وقتل أحد الركاب لصا آخر قبل أن ينزل من القطار، وكان جسمه لا يزال معلقا به حين وصلنا إلى مستقرنا، وما من شك في أن الذين هجموا على القطار في هذه المرة لم يكونوا رجالا دربوا على هذا العمل من قبل، وإلا لما حدث لهم ما حدث.
ولم أكد أعرف ألكسندروفسك حين أقبلت عليها، فقد زال عنها في هذين العامين ما كان لها من سحر وفتنة، وذهبت أناقتها وأفسدها «كر الغداة ومر العشي». ورأيت محطتها مهجورة خالية، ومصابيح شوارعها محطمة، وحتى الثلوج التي تكسو أرضها قد علتها الأقذار، ولما سأل أبي أحد الناس: «أية طائفة تتولى الحكم؟» هز الرجل الغريب كتفه مشمئزا، وتمتم قائلا: «علم ذلك عند الشيطان!»
وخيل إلي أن البيت الذي قضيت فيه أسعد أعوام طفولتي قد انكمش وتقادم عهده بين يوم وليلة. ووصلنا المدينة متأخرين عن موعد الجنازة فلم نشترك فيها؛ وذلك لأنا لم نتسلم رسالة شورا في الوقت المناسب، ورأيتها تخيط شيئا في ركن من أركان الدار، وقد احمرت عيناها وجرى الدمع على خديها، وعانقتنا جدتي نتاليا مكسمفنا، وحاولت أن تبتسم كسالف عادتها، ولكن بريق عينيها قد زال عنهما إلى غير رجعة، ولم تستطع أن تتملك عواطفها أكثر من بضع لحظات، ثم أخذت تولول وتنظر إلى المصباح الموقد تحت الصورة المقدسة، وترسم علامة الصليب على صدرها المرة بعد المرة. «إن بيتيا عمك الصالح يا فيتيا لن يعود إليك أبدا! لقد ذهب ولدي الصغير بيتيا إلى غير رجعة، رباه لقد قتلوه ولن يعود إلينا أبدا.»
وجلس فيودور بنتليفتش عند نهاية المنضدة ولم يلق بالا إلينا، وكان من أصعب الأشياء أن أصدق أن هذا الرجل هو جدي الوقور القوي، فقد تبدل كأن شيئا من داخل جسمه ذاب وتركه جسدا مترهلا وعظاما نخرة، ثم نظر إلينا بعد هنيهة، وهز رأسه بالتحية، وقام من مكانه على مهل.
وقال وقد ملئ صدره حقدا: «ها قد وقع يا أندراي ما كنت تنتظره! ها هي ذي ثورتك الحبيبة إلى قلبك! ها هم أولاء يقتتلون ويتبادلون إطلاق الرصاص، ويسرق بعضهم بعضا، ويعذبون الجماهير بالجوع والبرد! وها أنت ذا لا ترى ثورة بل ترى اغتيالا وجرائم.»
وعلا صوته من شدة الحزن والغضب، وصاح وهو يقبض على كتفي أبي ويهزهما هزا: «ويل لأبناء الكلاب! لم قتلوا بطرسا؟ وبأي ذنب قتلوه؟ إن الألمان لم يقتلونا ولم يفعلوا بنا ما يفعله إخواننا الروس. شكرا لك يا أندراي، شكرا لك على ثورتك الحبيبة إلى قلبك.»
وأطرق أبي برأسه وظل صامتا لا يحير جوابا، فقد رأى ألا جدوى في الألفاظ والشروح، وأبصرت أسرة فيودور بنتليفتش عميدها يبكي أمامها لأول مرة، وبللت الدموع لحيته البيضاء وعلقت بها، وسار متباطئا إلى ركن الدار الذي علقت فيه الصور المقدسة، وقد زايله انتصاب قامته العسكري وخر راكعا وقال: «اهد اللهم عبيدك الضالين، ولا تسلط الأخ على أخيه والابن على أبيه، ورد على عبيدك عقولهم ونجهم من الهلاك.»
ثم قام بعد أن هدأ روعه، ومسح الدموع عن خديه، وقال: «لعل الله يغفر لك يا أندراي كما يغفر لك أبوك.» ثم التفت إلى زوجته وقال: «أطعمي الأطفال وأنيميهم.»
وأخذت شورا بعدئذ تحدثنا عن موت أخيها وهي تبكي وتنتحب؛ فقالت: إنه لم يعد من المصرف في ليلة من الليالي، فظنت أنه ربما قرر لسبب ما أن يزورنا في إيكترنوسلاف، ومن أجل ذلك بعثت إلينا بالبرقية التي جاءتنا، وبعد أربعة أيام من تغيبه وجد أحد الفلاحين جثته بالقرب من إحدى الطرق على بعد من المدينة، وقد دس منديل في فمه، وشدت يداه خلف ظهره، واخترقت عدة رصاصات رأسه، وأخذت منه مفاتيح المصرف التي كان يحتفظ بها معه عادة.
نامعلوم صفحہ