وكان يسره أن يقول على الدوام: «لقد كنت طوال حياتي جنديا شجاعا، وسأقضي حياتي كلها وأنا جندي شجاع، أؤدي واجبي وأعبد ربي ولا أشكو شيئا، وماذا يريد أندراي؟ ألا لعنة الله علي إن كنت أعرف!»
وكانت جدتي وشورا تعرفان أن هذا القول يؤلمني؛ ولذلك كانتا تعملان على إسكاته، وتقولان له: إن أندراي رجل متعلم، يعرف العالم على حقيقته، ولا يقتصر علمه على الأتراك والأكراد.
وكان فيودور بنتليفتش يقول وهو مكتئب حزين: «قد يكون هذا صحيحا، قد يكون هذا صحيحا.» ثم يضيف إلى قوله هذا تلك العبارة التي يبغي بها مجاملتي: «نعم، إن أندراي نزيل السجن، ولكنه لم يسجن لأنه سرق أو قتل، إنه سجين سياسي، وما أعظم الفرق بين هذا وذينك.»
وكنت أتلقى من والدتي رسائل تحتوى على الدوام نتفا من الأخبار عن أبي، وكانت عمتي شورا تقرأ هذه الرسائل بصوت عال قبل أن أعرف أنا القراءة، وكان يحدث أحيانا أن ينسى فيودور بنتليفتش نفسه، فيفوه بألفاظ شديدة قاسية طعنا على ابنه العنيد، وحدث في إحدى هذه المرات أن ثرت ثورة عنيفة صرخت في أثنائها صرخة قوية، وعضضت وأنا في سورة الغضب يد جدي ولكنه لم يضربني بالسوط كما كنت أتوقع، بل أخذ يهدئ من روعي، ويضمني بحنان إلى صدره، ويقول إنه يسره أن أدافع عن أبي و«إن هذا دمي يجري في عروقك، فنحن آل كرافتشنكو قوم أوفياء.»
وكنت بين الفينة والفينة أقضي عطلة آخر الأسبوع عند صديق من أصدقاء أبي، وهو رجل يعمل في صناعة المعادن كنت أدعوه عمي متيا، وكأني وأنا في بيته كنت أقضي الوقت مع أبي نفسه، بل إنه يفضله بما يبعثه من المتعة والحماسة وجودي مع ثلاث بنات صغيرات حسان خبيثات، وقد كبرن كلهن وأصبحن من أجمل النساء وأحبهن إلي، وكانت صلاتي بهن في مستقبل أيامي لا تقل عن صلاتي بأقاربي من دمي ولحمي.
وكان العم متيا يتحدث عن الحرية والعدالة، وعن ميلاد عالم جديد، كما كان يتحدث أبي عنها، وكثيرا ما كان يقرأ علينا موضوعات من مؤلفات هرزل وجوركي وتولستوي من صحائف ثنيت أطرافها، يقرؤها على مهل وبصوت ينم عن الإيمان والتقوى، شبيه بصوت جدي وهو يقرأ الكتاب المقدس، لكن أكثر ما كنت أحبه هو أن يوقظني عمي متيا قبل الفجر لنذهب سويا إلى الصيد، فكنا نقضي اليوم في الغابات في جهد متواصل ثم نعود وأنا أحمل على كتفي بندقيته وكيسا مملوءة بالأرانب والدجاج البري وأفاخر بها كأني أنا الذي صدتها.
أما جدي فكان يحب صيد السمك، فكان نهر الدنيبر بيته الثاني، يقضي فيه كثيرا من وقته، وبينا كان قارب الصيد يطفو فوق ماء النهر الهادئ، وبينا كنا نترقب ابتلاع السمك للشص، كان هو يعيد على سمعي قصصه المحبوبة عن الأتراك الذين قتلوا بالألوف، وعن الروس وبخاصة الأوكرانيين والقوزاق الذين كانوا يعودون على الدوام بجر الحقائب بالأسلاب، محلاة صدورهم بأوسمة الشرف، وكانت قصصه تزداد حماسة وإثارة لشعوري؛ لأن زوجته لم تكن إلى جانبه تكبح بفكاهتها جماح خياله.
فإذا علت الشمس في كبد السماء شددنا القارب إلى أيكة من الأشجار على شاطئ النهر وخلعنا ملابسنا وأخذنا نسبح في الماء نضربه بأيدينا وأرجلنا، ووجوهنا تطفح بالبشر، ولا نكاد نذكر أن بيني وبين جدي ما يقرب من ثلاثة أرباع قرن، فإذا حل بنا التعب وعضنا الجوع، عدنا إلى البيت ممتلئين نشاطا وقوة، نحمل صيد اليوم، فتأخذ جدتي نتاليا مكسمفنا بعضه لتقليه في فناء الدار، وكان ذلك الصيد يكفينا ويكفي بعض الأصدقاء الأعزاء، وتبقى منه بقية لليوم الثاني تطهيها جدتي وتصنع منها ذلك الصنف الذي انفردت هي بطهيه دون سائر النساء.
وكنا نحن آل كرافتشنكو نعيش في ألكسندروفسك معيشة شبه عسكرية لا يخفف من حدتها إلا رقة بابشكا المدنية، ولم يكن العمل الذي يقوم به زوجها مجرد ضرورة تحتمها الظروف، بل كان فوق هذا واجبا تأمره نفسه بأدائه، ولا يفترق في شيء عن أداء الصلاة وإضاءة المصباح طول الليل تحت الصورة المقدسة، والتصدق على السائلين. وكنا نأوي إلى فراشنا مبكرين، ونستيقظ وشروق الشمس؛ لنعمل في الحديقة وفي البستان ومع الماشية، وحتى في أيام الدراسة لم أكن أعفى من هذه الأعمال، فقد كان يطلب إلي أن أقوم بنصيبي منها قبل الفطور، وأما الدروس فلم تكن القواعد التي رسمها جدي تعدها عملا حقا مهما بذلت فيها من جهد، وكان يدربني على الاغتسال والاستحمام بالماء البارد في الهواء الطلق مهما تكن حالة الجو، كما يجب أن «يفعل الرجال والجنود»، ويعلمني أن أتحمل الألم دون شكوى أو تذمر، كما عودني من صغري ألا أتأثر بالحر أو البرد.
وكانت المرة الوحيدة التي عاقبني فيها جدي حين ذهبت وحدي في السابعة أو الثامنة من عمري إلى حلاق يقص لي ضفائر شعري، وكانت كوبيكات شورا هي التي أمكنتني من أن أثبت رجولتي بهذه الطريقة قبل أن يحل أوانها، وعدت إلى المنزل والعطور القوية تفوح من رأسي، وألقى علي جدي نظرة استشاط على أثرها غضبا، وكان العقاب الذي حل بي مناسبا لما ارتكبت من جرم، فقد جاء جدي بمقص من مقصات الضأن، وأخذ يفسد به ما صنعه الحلاق، على مرأى من جيرتي ورفاقي، ثم جاء بعدئذ بالماء والصابون وغسل بهما قحف رأسي المشوه ليمحو منه الروائح الخليقة بالبنات.
نامعلوم صفحہ