كان ما أحسسته في نفسي من خيبة الرجاء أعمق مما أستطيع أن أصارح به نفسي، بله أن أصارح به الناس، ولهذا السبب عينه تجنبت المشاركة في المناقشات السياسية، لكنني إنسان من البشر، وروسي إلى أخمص القدم، فكنت أجد نفسي حينا بعد حين أفرط في الحديث مع أصدقاء وثقت فيهم، وبعدئذ كنت أقضي أسابيع في قلق وهم خشية أن يكون قد بلغ عني واحد من هؤلاء.
فلما وقع الاغتيال في لننجراد، اهتزت نفوس الطلاب اهتزاز الأمل الذي بعثه فيهم وهم الخيال، أفيكون هذا العمل الإرهابي تعبيرا عن حركة شعبية حقيقية؟ أيمكن أن تكون الشرطة السرية بكل ما لها من قوة قد فشلت في اقتلاع جذور المعارضة المستورة؟ فنحن بعد هذا كله لم نزل جزءا من أمة نشأت على ذكريات الحركات الثورية السرية والمؤامرات السياسية وقذف القنابل في سبيل الحرية.
لكن حادث الاغتيال قد بعث في نفوسنا إلى جانب الرجاء رعشة الخوف التي تغلغلت فينا إلى الصميم، فلم يكن لنا إزاءه محيص عن حركات تطهيرية أخرى، بل قد حدث بالفعل أن سارعت الهيئة الحاكمة إلى الإعلان عن نواياها، إذ أعلنت أن كل تذاكر الحزب لا بد من مراجعتها وتجديدها، ولم يطلقوا على الحركة المعتزمة اسم «التطهير» لكنها ستكون في حقيقة أمرها حركة محاكمات تعود إلينا من جديد قبل أن يكتمل عام واحد بعد حركة التطهير السياسية التي شملت أرجاء البلاد جميعا.
كان صديقي في الدراسة «م» واحدا من الشيوعيين القلائل الذين كنت أبيح لنفسي معهم أن أعلق برأي صريح على الشئون السياسية، فقد أحسسنا حالة نفسية مشتركة بيننا بثت فينا الجرأة كلما انفردنا معا، فلم يلبث «م» بعد موت «كيروف» أن دعاني للقاء طائفة من الأصدقاء في منزل «أندريه س» وهو طالب لم تكن قد توثقت بينه وبيني الصلات، «سنشرب الشاي ونشقق أطراف الحديث.» هكذا قال لي، لكنني ترددت في الذهاب؛ لأنني شممت رائحة الخطر في مثل هذه الدعوة العابرة، غير أن حب الاستطلاع من ناحية وحالتي العقلية المضطربة من ناحية أخرى جذباني في نهاية الأمر إلى الذهاب في الموعد المضروب.
كان «أندراي» مديد القامة شاحب اللون في نحو الثلاثين من عمره، سمح المحيا أزرق العينين غائرهما، وكان واسع الاطلاع ذرب اللسان حتى في الموضوعات التي لا توحي بالإفاضة في الحديث مثل مراحل صنع الصلب، فكان محبوبا من الجميع محترما من الجميع.
وجدت «م» في غرفة «أندراي» الصغيرة ذلك المساء، ومعه طالبان من معاهد غير معهدنا، وتحلقنا حول وعاء الشاي المتوهج في ضوء الغرفة الخافت الذي كان مصدره مصباحا واحدا صغيرا، وأخذنا نتنقل في الحديث على غير نهج مرسوم، نطوف حول الموضوع الذي كان يشغل عقولنا جميعا، دون أن نقع فيه، كأنما كان كل منا يسبر غور الآخرين، ولقد لحظت شيئا عجيبا وهو أن الحاضرين أخذوا ينادون بعضهم بعضا بأسماء زائفة، فكانت هذه الحقيقة وحدها كفيلة أن تصبغ جماعتنا بصبغة التآمر، وهي صبغة تشيع في النفس فزعا، لكنها في الوقت نفسه تغري بالمضي في الطريق، فاللعب بالنار عند كثير من الروس مما يخلب الألباب.
كنت حديث عهد بهذا الحديث السياسي الخطر، أما الآخرون فقد كانوا فيما يظهر يألفونه منذ بعيد، وما هو إلا أن نسينا ما اصطنعناه من حرص، وحمي النقاش بيننا رويدا رويدا في حادث اغتيال «كيروف» فاحتدت الأصوات تدريجا، وازدادت الأعين بريقا، وازددنا بفعل كلامنا التهابا، وأخذنا نتحدث عن «طاغية الكرملن» ونبدي علائم العطف على «الشعب الروسي المظلوم»، فخيل إلي على نحو ما أنني أعود بالذاكرة إلى حياة طفولتي من جديد؛ حيث كان يجتمع أبي مع أصدقائه الثائرين في دار استقبالنا المتفرعة من «طريق بوشكين» على نقاش سياسي محتدم في موضوع الظلم القيصري.
قال أندراي: «نحن نعتبر رصاصة» نيقولاييف بمثابة الفاتحة لانقلاب.» فرنت كلمة «نحن» هذه التي قالها رنين المنذر بالخطوب، ولم أدر قط من هؤلاء الذين يعنيهم بهذه الكلمة، «نعم إنها بمثابة الفاتحة لانقلاب، فقد كانت رصاصة لا تدعو إليها الضرورة ثم كانت مجلبة للأذى، فلا بد لستالين أن يلتمس ثغرة ينفذ من خلالها إلى مذبحة تطهيرية يشنها على فريق المنشقين من الحزب، وها هو ذا قد وجد الثغرة مهيأة، فلم يعد الأمر أمر «نيقولاييف» وحده، بل قضي الأمر فيه وفي أصدقائه جميعا، الموقف الآن هو أن عصبة الكرملن قد بات في يدها أقوى المبررات للإجهاز على نقدة الحزب ومعارضيه إجهازا لا يبقي منهم أحدا.» - «اذكروا قولي هذا يا رفاق، إن مئات الألوف، لا بل قد يبلغون ألوف الألوف، أولئك الذين سيدفعون الثمن لرصاصة «نيقولاييف»، لئن جاز لنا حتى الساعة أن نحلم بالحرية والديمقراطية تسودان الحزب، فهذا الحلم قد تقشع وزال، تقشع وزال، ها أنا ذا أعيدها لكم، لقد تبددت آخر ذرة من الأمل! إنه لن يمضي طويل وقت حتى ترون الروسيا تدمى إلى حد الفناء!»
وأخذ يذرع الغرفة بخطاه وهو منفعل، وسرعان ما تأثرنا جميعا بانفعاله وجيشانه، وأحسسنا إحساس ركاب السفينة التي أخذت في الغرق، ودوامة الماء باتت قاب قوس من خياشيمهم، وسكت «أندراي» برهة ثم مال في ترنح المخمور، ومضى يقول: «كان «ستالين» و«فوروشيلوف» حاضرين حين كان «نيقولاييف» يسام العذاب، لقد شاءت لي المصادفة أن أعلم ذلك يا رفاقي، لقد كانوا يريدون منه أسماء ناس، تتلوها أسماء وأسماء ... أرادوا منه أسماء ناس يكونون غذاء لسعير نيرانهم، وليس ما يهمنا الآن هو أي الأسماء قد اعتصرها المستجوبون من «نيقولاييف»، فهؤلاء سيكتبون تقريرهم على النحو الذي يشتهيه ستالين، كائنة ما كانت الأسماء، وبعدئذ تسيل الدماء دفاقة في هدوء، تستند إلى مبررات نظرية.»
كان أصغر عضو في جماعتنا طالبا ضئيل الجسم شاحبا، وما كان أجمله حين نهض فوقف فجأة بجسمه النحيل وأخذ ينشد مقطوعة من شعر «رايلييف»:
نامعلوم صفحہ