فأجبته: «لماذا سجنتم زوجي؟ إنك تعلم كما أعلم أنا أن زوجي بريء، ولو كان لك أم أو أخت لأخذتك الشفقة علي، ليس في مقدوري أن أتجسس لكم؛ لأن التجسس ليس من خلقي، وإن الموت لخير لي منه، لكني مستعدة أن أعمل أي شيء تريدون مني غير ذلك إنقاذا لزوجي؛ لأني كلما تصورت آلامه مادت بي الأرض.»
ومضيت في الكلام لا أسكت، فأقول وأعيد ما أقول مرات، أتوسل مرة وأتهم مرة، وجعل هو ينصت إلى قولي في صبر جميل، حتى إذا ما أرهقني الكلام إرهاقا لم أستطع معه الاسترسال فيه، دنا مني وربت على كتفي تربيتا توشك ألا تجده إلا من والد.
قال: «إن الحياة قاسية يا «إلينا بتروفنا»، وإذن فلا بد للإنسان أن يواجه الواقع، وواجبك أن تفكري في نفسك أولا، ففيم هذا العناء؟ لماذا ترفضين العمل معنا؟» - «إذن فاسمع لماذا، فقتل أبي البريء سبب لهذا، وقتل ألوف الناس من أمثاله ألوف من الأسباب كذلك، ولن أحمل ضميري عبء ما تسفحه سائر الزوجات والأمهات من دماء وعبرات حتى ولو كانت الغاية سلامة زوجي، هذا هو السبب.»
قال: «أفهم جزعك هذا من الدماء والعبرات، لكن كوني عاقلة ما استطعت، فلن نكلفك أعمالا تؤدي إلى دماء ودموع، وكل ما نطلبه هو أن تعملي مع الأجانب، فبلادنا تحيط بها ضباع الرأسماليين التي تعوي رجاء أن تثور الثورة وتنسفح الدماء، ولست أبغي عليك الآن ضغطا، لكنك إذا ما غيرت من رأيك فأنا رهن إشارتك في كل وقت، إن أباك قد مات ويستحيل لما فات أن يعود، لكن زوجك لا يزال يحتاج إلى نجاة، ونجاته متوقفة عليك لا علي.»
ومع ذلك فقد وعد أن تصل إلى «سرجي» ما أبعثه إليه من رسائل الطعام، حتى يقضى في أمره بصورة رسمية وينفى، ولم يمض بعد ذلك إلا أسابيع قلائل حتى أنبئت أن قد حكم عليه بعشر سنوات ينفقها في عمل شاق بمعسكر من معسكرات الاعتقال في جبال أورال.
لبثت أمدا طويلا أحارب في نفسي إغراء الالتحاق بالشرطة السرية، وكنت أكابد الشوق إلى «سرجي» وكان الكفاح قد نال مني فأجهدني، فلماذا أسبح في الخيال على نحو ما فعل دون كيشوت ما دام العصر الذي أعيش فيه يسوده الباطل والإجحاف؟ وكم من مرة صممت أن أخطو الخطوة القاضية، لكني في كل مرة كنت أسمع في اللحظة الأخيرة صوتا في طوية نفسي، صوتا أعمق جذورا من أن يجد عند العقل تعليله، كنت أسمع هذا الصوت يقول: «لا، لا ينبغي لك أن تفعلي.» إن فكرة التجسس، التي من شأنها أن تتظاهري بالصداقة لمن تدبرين له أن ينتهي إلى الموت، كانت تثير في نفسي امتعاضا، حتى لقد أصابتني بالعلة في جسدي.
وظللت نحو عام كامل أبعث بالرجاء في إثر الرجاء إلى نواح مختلفة من الحكومة، طالبة أن يعاد النظر في قضية زوجي، وبالطبع لم يثمر رجائي، ثم حدث بعد ذلك حادث، وذلك أني كنت أزور معرضا من معارض التصوير الأوكراني مع صديق صادقته أيام الطلب في مدرسة الفن الجميل، وإذا أنا أرى وسط الزحام الرفيق «ت» وفي صحبته امرأة رائعة الجمال، وأدركت من موقفه إزاءها أنه كان في قبضتها ولم تكن هي في قبضته، فجعلت أرقبهما في اهتمام فوجدتها رعناء ووجدته مصغيا لها مطيعا كأنما هو غلام أحب وهجره الحبيب.
إذن فها هو ذا موظف الشرطة السياسية الذي لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلا، والذي في يده تصريف القضاء لعشرات الألوف، ها هو ذا ينساق كالشاة لامرأة وضاءة المحيا! فلعل هذا التناقض فيما رأيت قد أوحى إلي بما أوحى، ولقد بدت لي الفكرة الطارئة شديدة الغرابة والشذوذ، لكني صممت على تنفيذها.
ولم يكن عسيرا علي أن أعلم من ذا تكون هذه الصديقة التي شهدتها مع الرفيق «ت»؛ فتعقبتها في محل سكنها وارتقبتها عند مدخل العمارة الجديدة التي كانت تسكن فيها، ثم تتبعتها إذ هي تصعد السلم، وبينا هي تحرك المفتاح في باب شقتها دنوت منها في شجاعة وبدأتها بالكلام.
قلت لها: «نشدتك الله يا سيدتي أن تأذني لي بالكلام معك بضع دقائق.»
نامعلوم صفحہ