قالت: «الجمعة مساء.» - «عندي محاضرة - لسوء الحظ - هذه الجمعة أيضا، فليكن لقاؤنا يوم الخميس.» - «آسفة يا حبيي؛ لأني أتوقع أن تشغلني مشغلة هامة يوم الخميس.»
وكانت ريبتي قد أرهفت حسي، فأشرقت علي عندئذ حقيقة لم أتبينها قبل ذلك الحين وهي أن «إلينا» من عدة أشهر لم تخل لي يوم الخميس من كل أسبوع، فاعتزمت أن أتعقبها هذا الخميس - إذا استطعت ذلك - لعلي أعلم من أمرها شيئا.
وجاءت ليله الخميس مظلمة ممطرة مما يسر عملية التعقب على رجل لم يحترف مثل هذا العمل، فلما أبصرت بها تعتلي سيارة عامة وثبت على سلم السيارة الخلفي، حتى إذا ما نزلت بالقرب من وسط المدينة، نزلت وتابعتها على مبعدة في الجانب الآخر من الطريق، فرأيتها تدنو مما بدا لي كأنه دار خاصة، ودقت الجرس وفتح لها الباب رجل يرتدي حلة، فأدخلها وتلفت يمنة ويسرة في حذر ثم أغلق من دونه الباب.
ووقفت إلى جوار باب بحيث أتمكن من رؤية الدار واضحة، وظللت أرقبها ما يقرب من ساعتين، فرأيت داخلها ناسا يجيئون ويذهبون، وكان هنالك من أضواء المنازل المجاورة ومن الضوء الذي انبعث من الباب عند فتحه ما مكنني من رؤية وجوههم، وكان الرجل ذو الحلة كلما فتح الباب نظر إلى الطريق نظرة فاحصة كأنما يريد أن يستوثق أنها تخلو من المشاهدين، ومعظم من قصد الدار كان من النساء، عرفت منهن عددا، فإحداهن سيدة معروفة في المدينة بأسرها، معروفة بجمالها وفتنة حديثها حين تستضيف الأضياف، وهي زوجة طبيب مشهور، وأستاذ في أمراض النساء، وأخرى كانت مغنية ذائعة الصيت في دار الأوبرا من المدينة، وكان من القادمين مهندس بارع طالما رأيته في المؤتمرات الفنية عضوا، وقد عرفت من الزائرات طائفة، عرفتهن إذ كن واقفات أمام الباب ينتظرن أن يفتح لهن، فعرفت فيهن سيدات كثيرا ما رأيتهن في المسرح ومباريات الرياضة البدنية وهن في «دنيبروبتروفسك» بمثابة سيدات الطبقة الراقية.
وأخيرا جاءت «إلينا» من داخل الدار يصحبها رجلان يرتديان معطفين من معاطف المطر، التي يلبسها المدنيون، لكن أحدهما فتح معطفه ليخرج سيجارة من جيبه الداخلي، فرأيت أنه يرتدي حلة عسكرية لم تدع لي مجالا لشك في أن صاحبها من الشرطة السرية، فعرفت عن «إلينا» كل ما أردت أن أعرف، فهي تنتمي بغير شك إلى فرقة الجواسيس التي انبثت في كل ثنية من ثنايا مجتمعنا السوفيتي!
فاضطرب رأسي اضطراب الهلع، وأخذت أتقلب في سريري ذلك الليل، أحاول ترتيب خواطري، فما كان لي من الوجهة النظرية - باعتباري شيوعيا - أن أنقم على الشرطة السرية في تجسسها الذي تغلغلت به في كل ركن من أركان البلاد، ولم يكن هنالك من جديد بالنسبة إلي في أن ألوف الناس يبدون كأنما تشغلهم في الحياة هذه المشغلة أو تلك، وهم في حقيقة أمرهم لا يشتغلون إلا بالتجسس، ولكن على الرغم من ذلك كله، فقد دهشت دهشة عميقة إذ علمت أن الفتاة التي أحببتها كانت فيما يظهر من أعضاء الشرطة السرية، فكأنما ظهرت مني غريزة دفينة تمقت التجسس، فاهتز كياني من جذوره هزا عنيفا.
كان منا نحن الشيوعيين من يعلم علم اليقين أن ألوفا من الأبرياء رجالا ونساء يزج بهم في السجون أو يدفع بهم إلى معسكرات العمل الشاق، لكننا ندس مثل هذا العلم في أعماق رءوسنا فلا يطفو، وقد كنا نفسر لأنفسنا هذه الحالة بأنها تدبير «وقائي»، أو كنا نغضي عن الجانب الخلقي من الأمر إغضاء ونأبى أن ننظر إلى الأمر بأبصار زالت عنها الغشاوة، أيمكن أن تكون «إلينا»، وهي القريبة من فؤادي الحبيبة إلى نفسي قد أنزلت بالأبرياء عذابا وموتا؟ كنت كلما فكرت في هذا الكشف الفظيع، ازدادت حالتي يأسا، فقد مزقني الجذب من جانبين: فحب هنا وهلع هناك.
أرسلت إلى «إلينا» رسالة قصيرة في الصباح التالي أنبئها أن قد اضطرتني ظروف إلى مغادرة المدينة نحو أسبوع، وانتقلت إلى دار أحد الأصدقاء خشية أن تجيء إلى دارنا بحثا عني، أو أن أصادفها في الطريق في الحي الذي نسكنه معا، حتى إذا ما أقبل الخميس التالي كنت في مخبئي عبر الشارع أرقب تلك الدار وما يحيط بها من سر عجيب، فرأيت «إلينا» هناك للمرة الثانية، كما رأيت آخرين، معظمهم نساء، واتضح لي الآن ما يعملون وعلى أي نظام يسيرون، فكل هؤلاء - بمن فيهن من زوجات الموظفين الأعلام - كن يقدمن تقاريرهن عما عملن طيلة الأسبوع، ولعلهن كذلك كن يتلقين الأوامر، فدار خاصة كهذه جعلت مثل هذه المهمة أيسر وآمن من الاجتماع في المركز الرسمي للشرطة السرية.
عدت إلى داري ذاك المساء، وكتبت إلى «إلينا» أقول: إن أسبابا لا قبل لي بالإفصاح عنها تضطرني اضطرارا ألا أراها بعد ذاك، وقلت كذلك: إن كل ما بيننا من صلات قد بلغ الآن ختامه، وإني لأشكر فضلها إذا ما قبلت قراري في هذا الأمر ولم تحاول أن تستأنف العلاقة التي كانت تربطنا، والتي استحال عليها أن تعود فتربطنا من جديد.
وكان هذا القرار كأنما هد قوائمي هدا بحيث لا أستطيع عملا أو تفكيرا واضحا، وانقطعت عن المعهد وأخذت أذرع شوارع المدينة ساعات بعد ساعات، أحاول عبثا أن أنسى عذابا أليما، على أن حالتي هذه إنما كانت تخفي وراءها شوقا مضنيا لرؤية «إلينا» كما كانت تخفي وراءها قلقا مؤرقا خشية أن أكون في ظني بها آثما.
نامعلوم صفحہ