- المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) أَلَا يُمْكِنُ القَوْلُ بِأَنَّ حَلَّ السِّحْرِ بِالسِّحْرِ هُوَ مِنْ بَابِ الضَّرُوْرَاتِ؛ وَالقَاعِدَةُ الأُصُوليَّةُ تَقُوْلُ: (الضَّرُوْرَاتُ تُبِيْحُ المَحْظُوْرَاتِ)؟ (١)
الجَوَابُ: لَا يَجُوْزُ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَاتٍ:
١) أَنَّ صُوْرَةَ النَّهْي فِي الحَدِيْثِ عِنْدَمَا سُئِلَ ﵊ عَنِ النُّشْرَةِ - وَهِيَ لِلمَسْحُوْرِ قَطْعًا - مُطَابِقَةٌ لِلنَّهْي - بِقَوْلِهِ ﵊ عَنْهَا (هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ) -، فَكَيْفَ جَازَتِ النُشْرَةُ بِالسِّحْرِ مِنْ بَابِ الشِّفَاءِ؛ مَعَ أَنَّ النَّصَّ بِخِلَافِهَا!!
٢) أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ إِتْيَانِ الكُهَّانِ أَصْلًا كَمَا فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (وَمِنَّا رِجَالٌ يَأْتُوْنَ الكُهَّانَ. قَالَ: (فَلَا تَأْتُوْهُمْ). (٢)
فَإِنَّهُ حَتَّى لَو انْدَفَعَتْ بِهِ الضَّرُوْرَةُ - جَدَلًا - فَإِنَّه لَا يَصِحُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِهِ فِيْمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إنَّ اللهَ خَلَقَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، فَتَدَاوُوا، وَلَا تَتَدَاوُوا بِحَرَامٍ). (٣)
وَقَدْ حَذَّرَتِ الشَّرِيْعَةُ مِنْ إِتْيَانِ الكُهَّانِ وَالعَرَّافِيْنَ وَالسِّحْرةِ، وَلَا يَخْفَى - إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - أَنَّ إِتْيِانَ النَّاسِ إِلِيْهِم هُوَ مِنْ بَابِ الالْتِجَاءِ إِليْهِم مِمَّا يُلِمُّ بِهِم مِنَ المَصَائِبِ فِي أَمْوَالِهِم وَأَبْدَانِهِم؛ فَجَاءَ التَّحْذِيْرُ مِنْهُم عَامًّا - رُغْمَ ذَلِكَ - وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُم مُعْتَبَرًا شَرْعًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ). (٤)
٣) مِنْ جِهَةِ القَاعِدَةِ المَذْكُوْرَةِ؛ فَلَا رَيْبَ أَنَّ القَاعِدَةَ صَحِيْحَةٌ، وَلَكِنَّ حَمْلَهَا عَلَى هَذِهِ المَسْأَلَةِ غَيْرُ صَحِيْحٍ، فَالضَّرُوْرَةُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ - وَهِيَ حِفْظُ الدِّيْنِ، وَالنَّفْسِ، وَالنَّسْلِ، وَالمَالِ، وَالعَقْلِ (٥) - وَلَكِنْ لِلعَمَلِ بِهَذِهِ القَاعِدَةِ هُنَاكَ قُيُودٌ، هِيَ:
أ) أَنْ لَا يَجِدَ سِوَى هَذَا المُحَرَّمِ.
وَهَذَا غَيْرُ مُحَقَّقٍ هُنَا، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى شَرَعَ لِعِبَادِهِ فِي عِلَاجِ السِّحْرِ الكَثِيْرَ المُبَاحَ مِنَ القُرْآنِ وَالرُّقَى وَالتَّعْوِيْذَاتِ وَالأَدْوِيَةِ المُبَاحَةِ - كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ عَنِ ابْنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.
ب) أَنْ تَنْدَفِعَ بِهِ الضَّرُوْرَةُ.
وَهَذَا غَيْرُ مُحَقَّقٍ هُنَا، لِأَنَّ السِّحْرَ ضَارٌّ وَلَيْسَ بِنَافِعٍ مُطْلَقًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ (طَه:٦٩). (٦)
ج) أَنَّ الضَّرُوْرَةَ تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا.
وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ هُنَا، فَالضَّرُوْرَاتُ الخَمْسُ أَوَّلُهَا حِفْظُ الدِّيْنِ، فَلَا يُبْذَلُ مَا هُوَ أَعْلَى لِتَحْصِيْلِ مَا هُوَ أَدْنَى - وَهُوَ حِفْظُ النَّفْسِ - (٧)، فَالأَنْفُسُ لَا يَجُوْزُ حِفْظُهَا بِالشِّرْكِ، فَالسِّحْرُ لَا يَكُوْنُ إِلَّا بِالشِّرْكِ، وَالَّذِيْ يَأْتِي السَّاحِرَ وَيَطْلُبُ مِنْهُ حَلَّ السِّحْرِ؛ هَذَا فِيْهِ الرِّضَى بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ! وَبِأَنْ يُشْرِكَ ذَاكَ بِاللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ مَنْفَعَتِهِ! وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ. (٨)
وَفِي الحَدِيْثِ (لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا؛ وَإِنْ قُطِّعْتَ أَوْ حُرِّقْتَ). (٩)
(١) وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الحَنَابِلَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَقَرِيْبٌ مِنْهُ قَوْلُ الحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ ﵀ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (٢٣٣/ ١٠): (قَوْلُهُ (النُّشْرَةُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ): إِشَارَةٌ إِلَى أَصْلِهَا، وَيَخْتَلِفُ الحُكْمُ بِالقَصْدِ؛ فَمَنْ قَصَدَ بِهَا خَيْرًا كَانَ خَيْرًا، وَإِلَّا فَهُوَ شَرٌّ). وَهُوَ مَرْدُوْدٌ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ ﵀ وَنَفَعَ بِعِلْمِهِ: (هَذَا وَلَا خِلَافَ عِنْدِي بَيْنَ الأَثَرَيْنِ، فَأَثَرُ الحَسَنِ يُحْمَلُ عَلَى الاسْتِعَانَةِ بِالجِنِّ وَالشَّيَاطِيْنِ وَالوَسَائِلِ المُرْضِيَةِ لَهُم كَالذَّبْحِ لَهُم وَنَحْوِهِ - وَهُوَ المُرَادُ بِالحَدِيْثِ -، وَأَثَرُ سَعِيْدٍ عَلَى الاسْتِعَانَةِ بِالرُّقَى وَالتَّعَاوِيْذِ المَشْرُوْعَةِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِلى هَذَا مَالَ البَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ، وَهُوَ المُرَادُ بِمَا ذَكَرَهُ الحَافِظُ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ؛ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّن يُطْلِقَ السِّحْرَ عَنِ المَسْحُوْرِ؟ فَقَالَ: (لَا بَأْسَ بِهِ). وَأَمَّا قَوْلُ الحَافِظِ: (وَيَخْتَلِفُ الحُكْمُ بِالقَصْدِ؛ فَمَنْ قَصَدَ بِهَا خَيْرًا كَانَ خَيْرًا؛ وَإلَّا فَهُوَ شَرٌّ). قُلْتُ: هَذَا لَا يَكْفِي فِي التَّفْرِيْقِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجْتَمِعُ قَصْدُ الخَيْرِ مَعَ كَوْنِ الوَسِيْلَةِ إِلَيْهِ شَرٌّ، كَمَا قِيْلَ فِي المَرْأَةِ الفَاجِرَةِ: (لَيْتَهَا لَمْ تَزْنِ وَلَمْ تَتَصَدَّق». الصَّحِيْحَةُ (٢٧٦٠).
(٢) مُسْلِمٌ (٥٣٧).
(٣) حَسَنٌ. الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ (٢٥٤/ ٢٤) عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ مَرْفُوْعًا، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيْرِ أَيْضًا (٣٤٥/ ٩) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَوْقُوْفًا عَلِيْهِ بِلَفْظِ (إنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُم فِيْمَا حَرَّم عَلَيْكُم)، وَعَلَّقَهُ البُخَارِيُّ (١١٠/ ٧) مَجْزُوْمًا بِهِ وَصَحَّحَهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ ﵀ فِي الفَتْحِ. مُخْتَصَرًا مِنَ الصَّحِيْحَةِ (١٦٣٣).
(٤) صَحِيْحٌ. البزَّارُ (٥٢/ ٩) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (٢١٩٥).
(٥) ذَكَرَهَا الإِمَامُ الشَّاطِبِيُّ ﵀ فِي كِتَابِهِ (المُوَافَقَاتُ) (٢٠/ ٢)، وَتَرْتِيْبُهَا هُوَ مِنَ الأَعْلَى إِلَى الأَدْنَى.
(٦) هَذَا وَإِنْ كَانَ التَّدَاوِي عُمُوْمًا مَحْمُوْلٌ عَلَى الظَّنِّ الغَالِبِ وَلَيْسَ عَلَى اليَقِيْنِ؛ وَلَكِنَّ التَّدَاوِي بِالسِّحْرِ الظَّنُّ الغَالِبُ الرَّاجِحُ فِيْهِ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ، بَلْ كَمَا مَرَّ سَابِقًا فِي الآيَاتِ الكَرِيْمَاتِ، وَكَمَا فِي الحَدِيْثِ (مَنْ تَعَلَّقَ شَيئًا وُكِلَ إِلَيهِ) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (١٨٧٨١) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ مَرْفُوْعًا.
وَتَأَمَّلْ كَوْنَ عُمَرَ سَمَّى الجِبْتَ سِحْرًا، كَمَا سبقَ؛ فَهُوَ لَا خيرَ فِيْهِ مُطْلَقًا.
(٧) هَذَا عَلَى فَرْضِ أَنَّ المَسْحُوْرَ شَارَفَ عَلَى المَوْتِ، وَإِلَّا فَالسِّحْرُ غَالِبُهُ يَجْرِي مَجْرَى المَرَضِ الَّذِيْ يَعْتَري الإِنْسَانَ عَادَةً.
(٨) قَالَهُ الشَّيْخُ صَالِحُ آلِ الشَّيْخِ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ (التَّمْهِيْدُ) (ص٣٣١)؛ بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ.
قُلْتُ: وَلَا يَرِدُ عَلَينَا فِي هَذِهِ النُّقْطَةِ الأَخِيْرَةِ الاسْتِدْلَالُ بِحَدِيْثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ﵁ فِي إِكْرَاهِهِ عَلَى الكُفْرِ - وَهُوَ صَحِيْحٌ. رَوَاهُ الحَاكِمُ (٣٣٦٢)؛ وَسَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - وَذَلِكَ لِأَنَّه يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: حَديْثُ عَمَّارٍ فِيْهِ الكُفْرُ ظَاهِرًا فَقَطْ لِقَوْلِهِ ﷺ (كَيْفَ تَجِدُ قَلبَكَ؟ فَقَالَ عَمَّاُر: مُطْمَئِنًّا بِالإِيْمَانِ)، أَمَّا هُنَا فَفِيْهِ كُفْرٌ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، عَدَا عَنْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ شَرَعَ لَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(٩) حَسَنٌ. الأَدَبُ المُفْرَدُ (١٨) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (١٤).
1 / 248