156

At-Tawdih ar-Rashid fi Sharh at-Tawhid

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

اصناف

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) زَعَمَ بَعْضُهُم أَنَّ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ القُبُوْرِ مَسَاجِدَ هُوَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ القُبُوْرَ تَتَنَجَّسُ بِسَبَبِ مَا فِيْهَا؛ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ سَبَبُ تَحْرِيْمِ الصَّلَاةِ فِيْهَا، لِذَلِكَ إِذَا كَانَتِ القُبُوْرُ قَدِيْمَةً (مُنْدَرِسَةً) فَلَا بَأْسَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيْهَا لِزَوَالِ العِلَّةِ؟!
الجَوَابُ: دَعْوَى أَنَّ العِلَّةَ هِيَ النَّجَاسَةُ مَرْدُوْدٌ مِنْ أَوْجُهٍ، وَبِرَدِّهَا يَبْقَى النَّهْيُ قَائِمًا (١)، وَالأَوْجُهُ هِيَ:
١) أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي النُّصُوْصِ أَبَدًا مَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ أَوْ يُوْمِئُ إِلَيْهَا.
٢) أَنَّهُ إِنْ كَانَ المَيِّتُ مُسْلِمًا فَهُوَ لَيْسَ بِنَجِسٍ أَبَدًا، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِنَّ المُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ). (٢)
وَإِنْ قِيْلَ بِنَجَاسَتِهِ مَيِّتًا فَقَط فَلَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الأَنْبِيَاءِ (٣)، وَقَدْ وَرَدَتِ النُّصُوْصُ بِذَمِّ أَهْلِ الكِتَابِ لِاتِّخَاذِهِم المَسَاجِدَ عَلَى قُبُوْرِ أَنْبِيَائِهِم.
٣) أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ العِلَّةُ النَّجَاسَةَ لَمَا جَازَتْ صَلَاةُ الجَنَازَةِ فِي المَقَابِرِ أَيْضًا. (٤)
٤) أنَّ النُّصُوْصَ النَّبَوِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أنَّ العِلَّةَ فِي النَّهْي هِيَ تَعْظِيْمُ الصَّالِحِيْنَ (٥) حَيْثُ قَرَنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَدِيْثِهِ عَنِ النَّصَارى بَيْنَ أُمُوْرٍ هِيَ (كَنِيْسةُ النَّصَارَى- العَبْدُ الصَّالِحُ - بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ- صَوَّرُوا) فَالجَمْعُ بَيْنَ البِنَاءِ وَالتَّصْوِيْرِ وَالصَّلَاحِ هُوَ لِدِلَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ التَّعْظِيْمُ، وَقَدْ عُلِمَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُم ﴿يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِيْنِكُمْ وَلَا تَقُوْلُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيْحُ عِيْسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُوْلُ اللهِ﴾ (النِّسَاء:١٧١). (٦)
قَالَ الشَّافِعِيُّ ﵀: (وَأَكْرَهُ أَنْ يُعَظَّمَ مَخْلُوْقٌ حَتَّى يُجْعَلَ قَبْرُهُ مَسْجِدًا مَخَافَةَ الفِتْنَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ بَعْدِهُ مِنَ النَّاسِ). (٧)
٥) إِذَا كَانَتِ العِلَّةُ نَجَاسَةُ المَيِّتِ فَلَا يَصِحُّ النَّهْيُ؛ لِوُجُوْدِ القَدْرِ الكَبِيْرِ مِنَ التُّرَابِ بَيْنَ سَطْحِ الأَرْضِ وَبَيْنَ المَيِّتِ. (٨)
وَأَخِيْرًا فَيُمْكِنُ القَوْلُ بِأَنَّ العِلَّةَ هِيَ النَّجَاسَةُ مِنْ جِهَةِ نَجَاسَةِ الشِّرْكِ، وَهِيَ نَجَاسَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ بَاقِيَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ بِالاسْتِحَالَةِ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ. قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا المُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ﴾ (التَّوْبَة:٢٨). (٩)

(١) وَعَلَى فَرْضِ كَوْنِ النَّجَاسَةِ هِيَ عِلَّةٌ فِي النَّهْي، فَهَذَا لَا يَعْنِي أَنَّهَا وَحْدَهَا العِلَّةُ، لِذَلِكَ فَإِنَّ انْتِفَاءَهَا لَا يَعْنِي زَوَالَ النَّهْي.
(٢) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (٢٨٥)، وَمُسْلِمٌ (٣٧١) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا. وَرَدَّ بَعْضُهُم عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَنْجُسُ بِدَلِيْلِ الأَمْرِ بِغَسْلِهِ قَبْلَ الدَّفْنِ.
قُلْتُ: وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِم، لِأَنَّهُ يُقَالُ بِأَنَّ هَذَا الغَسْلَ لَهُ قَدْ أَذْهَبَ نَجَاسَتَهُ - عَلَى فَرْضِ النَّجَاسَةِ -، عَدَا عَنْ كَوْنِ الأَمْرِ بِالغَسْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَعِنْدَ الحَاكِمِ (١٤٢٦) مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا (لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي غَسْلِ مَيِّتِكُمْ غُسْلٌ إِذَا غَسَّلْتُمُوْهُ، فَإِنَّ مَيِّتَكُمْ لَيْسَ بِنَجَسٍ؛ فَحَسْبُكُمْ أَنْ تَغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ). صَحِيْحٌ. صَحِيْحُ الجَامِعِ (٥٤٠٨).
(٣) عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوْعًا (إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ). صَحِيْحٌ. أَبُو دَاوُدَ (١٥٣١). صَحِيْحُ الجَامِعِ (٢٢١٢).
(٤) وَصَلَاةُ الجَنَازَةِ تَجُوْزُ فِي المَسَاجِدِ، فَإِذَا كَانَ المَيِّتُ نَجِسًا فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُدْخَلَ الجَنَازَةُ إِلَى المَسْجِدِ!
وَأَيْضًا لَا يَخْفَى حَدِيْثُ صَلَاةِ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ قَبْرِ المَرْأَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِيْ كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ (٤٦٠)، وَمُسْلِمٌ (٩٥٦).
(٥) كَمَا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُضَافُ لِذَلِكَ عِلَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ التَّشَبُّهُ بِالنَّصَارَى.
(٦) وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ (٧٣٥٨) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا، لَعَنَ اللهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُوْرَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ). صَحِيْحٌ. تَحْذِيْرُ السَّاجِدِ (ص٢٢).
(٧) أَوْرَدَهُ النَّوَوِيُّ ﵀ فِي المَجْمُوْعِ (٣١٤/ ٥).
وَقَالَ ﵀ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (١٣/ ٥): (قَالَ العُلَمَاء: إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ وَقَبْرِ غَيْرِهِ مَسْجِدًا خَوْفًا مِنَ المُبَالَغَة فِي تَعْظِيْمِهِ وَالِافْتِتَانِ بِهِ، فَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الكُفْرِ كَمَا جَرَى لِكَثِيْرٍ مِنَ الأُمَمِ الخَالِيَةِ.
وَلَمَّا احْتَاجَتِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِيْنَ وَالتَّابِعُوْنَ إِلَى الزِّيَادَة فِي مَسْجِدِ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ حِيْنَ كَثُرَ المُسْلِمُوْنَ؛ وَامْتَدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ دَخَلَتْ بُيُوْتُ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ فِيْهِ، - وَمِنْهَا حُجْرَةُ عَائِشَةَ ﵂؛ مَدْفِنُ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ﵄؛ بَنَوْا عَلَى القَبْرِ حِيْطَانًا مُرْتَفِعَةً مُسْتَدِيْرَةً حَوْلَهُ لِئَلَّا يَظْهَر فِي المَسْجِدِ - فَيُصَلِّي إِلَيْهِ العَوَامُّ وَيُؤَدِّي المَحْذُوْرِ - ثُمَّ بَنَوْا جِدَارَيْنِ مِنْ رُكْنَيْ القَبْرِ الشَّمَالِيَّيْنِ، وَحَرَّفُوهُمَا حَتَّى التَقَيَا؛ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ أَحَدٌ مِنِ اسْتِقْبَالِ القَبْرِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الحَدِيْثِ: (لَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذ مَسْجِدًا). وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ).
قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى مَا قَالَهُ أَهْلُ العِلْمِ فِي التَّفْسِيْرِ عَنْ قِصَّةِ أَوْثَانِ قَوْمِ نُوْحٍ أنَّهُم عَكَفُوا عَلَى قُبُوْرِهِم، ثُمَّ عَبَدُوْهُم.
(٨) وَفِي البُخَارِيِّ (١٨٦٨) قِصَّةُ نَبْشِ قُبُوْرِ المُشْرِكِيْنَ لِبِنَاءِ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، فَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ ﷺ بإزَالَةِ التُّرَابِ الَّذِيْ يُفْتَرَضُ أَنْ يَكُوْنَ هُوَ مَظَنَّةَ التَّنَجُّسِ.
(٩) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ ﵀ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (٢٠٨/ ٣): (وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ المَنْعَ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ حَالَ خَشْيَةِ أَنْ يُصْنَعَ بِالقَبْرِ كَمَا صَنَعَ أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ لُعِنُوا، وَأَمَّا إِذَا أُمِنَ ذَلِكَ فَلَا امْتِنَاعَ، وَقَدْ يَقُوْلُ بِالمَنْعِ مُطْلَقًا مَنْ يَرَى سَدَّ الذَّرِيْعَةِ - وَهُوَ هُنَا مُتَّجِهٌ قَوِيٌّ -).
قَالَ الشَّيخُ ابْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَعْلِيْقِهِ عَلَى الفَتْحِ: (بَلْ هَذَا هُوَ الحَقُّ، لِعُمُوْمِ الأَحَادِيْثِ الوَارِدَةِ بِالنَّهْي عَنِ اتِّخَاذِ القُبُوْرِ مَسَاجِدَ، ولَعْنِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ بِنَاءَ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُوْرِ مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ الشِّرْكِ بِالمَقْبُوْرِيْنَ فِيْهَا. وَاللهُ أَعْلَمُ).
قُلْتُ: وَالشِّرْكُ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَى أَصْحَابِهِ ﷺ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِم، وَفِي حَدِيْثِ (أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُم الشِّرْكُ الأَصْغَرُ) صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (٢٣٦٣٠) عَنْ مَحْمُوْدِ بْنِ لَبِيْدٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (٩٥١).
بَلْ إِبْرَاهِيْمُ نَفْسُهُ ﷺ قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ (إِبْرَاهِيْم:٣٥) فَهَلْ يُؤْمَنُ عَلَى غَيْرِهِ؟! بَلْ أَقُوْلُ: لَا يَأْمَنُ الفِتْنَةَ عَلَى نَفْسِهِ إِلَّا مَفْتُوْنٌ، وَاللهُ تَعَالَى هُوَ المُوَفِّقُ وَهُوَ الهَادِي لِلصَّوَابِ.

1 / 156