السجع شعر العربية الثاني، وقواف مرنة ريضة خصت بها الفصحى، يستريح إليها الشاعر المطبوع، ويرسل فيها الكاتب المتفنن خياله، ويسلو بها أحيانا عما فاته من القدر، القدرة على صياغة الشعر، وكل موضع للشعر الرصين محل للسجع؛ وكل قرار لموسيقاه قرار كذلك للسجع؛ فإنما يوضع السجع النابغ فيما يصلح مواضع للشعر الرصين، من حكمة تخترع، أو مثل يضرب، أو وصف يساق؛ وربما وشيت به الطوال من رسائل الأدب الخالص، ورصعت به القصار من فقر البيان المحض؛ وقد ظلم العربية رجال قبحوا السجع وعدوه عيبا فيها، وخلطوا الجميل المتفرد بالقبيح المرذول منه: يوضع عنوانا لكتاب، أو دلالة على باب، أو حشوا في رسائل السياسة، أو ثرثرة في المقالات العلمية؛ فيا نشء العربية؛ إن لغتكم لسرية مثرية؛ ولن يضيرها عائب ينكر حلاوة الفواصل في الكتاب الكريم، ولا سجع الحمام في الحديث الشريف، ولا كل مأثور خالد من كلام السلف الصالح.
النقد
فن قديم كريم وتالد من رأس مال الحضارة في علوم الأدب وفنونه، توارثه الأواخر عن الأوائل، فأخذته حضارتهم فحسنته على عادتها، وضخمت كتابه، ووسعت أبوابه، وهذبت أصوله، ووضعت قيوده، حتى صار من دعائم الصحافة؛ وأضحى ظل التأليف ومعرض العبقريات ومرآة آثارها في مسائل الأدب وشتى مطالبه؛ والنقد حارس الأدب ومكمل الكتاب والكتب، وهو آلة إنشاء، وعدة بناء. وليس كما يزعمه الزاعمون معول هدم، ولا أداة تحطيم.
والناقد مستهدف يعرض عقله وبضاعته وخلقه وحكمه على الناس، وربما ارتد معوله إليه ما يرتد سلاح البغي إلى صاحبه فهدمه على المكان، والناس يرون وهو لا يرى من سكرة الغرور، ومن نقد على غضب أسخط الحق، ومن نقد على حقد احترق، وإن ظن أنه حرق، ومن نقد على حسد لم يخف بغيه على أحد، ومن نقد على حب حابي وجمح به التشيع.
الزهرة
صورة الرقة ورمز العاطفة، وهيكل الخير والحب والجمال. قديما أولع بها الناس وقديما ظلموها؛ أما هي فطالما ملأت حدائقهم بهاء وحسنا، وحجراتهم زينة وطيبا؛ وجملت عري ثيابهم وحسنت أعراسهم وولائمهم؛ فكانت منصة للعروس وإكليلا، وشارة للمائدة ومنديلا، وسفرت بين العشاق فحسنت رسالة ورسولا.
وأما هم، فما أشد ما جنوا عليها! فطموها عن عصارة العود، وفجعوها في وثير المهود، وأبدلوها من طول الفضاء وعرضه بالبواطي الضيقة، ومن سماء الروض وأرضه بالجدران المزهقة، ومن ماء العيون بماء الجرار، ومن شعاع الفضاء الطلق بشعاع النافذة والكوة.. ظلم عبقري، وإحسان، جزي بغير إحسان.
الساقية
أصوات السواقي في سماء الليل، وعلى فضاء الريف، أم تنغيم الملائكة في الأراغيل؟ أم خوار الثور خرج من الأرض وقد أخذه الضجر، وناء قرناه بذنوب البشر؟
نغم كالنفخ في الغاب، طبيعة قادرة ساحرة لها في كل شيء موسيقى حتى في الليف والخشب، فيا قينة الأجيال، ما هذه الدموع الفواجر، التي لم تغرف من شئون ولم ترسلها محاجر؟ وما هذه الضلوع الهاتفة بالشكوى، الصارخة من البلوى، وما عرفت الهوى، ولا باتت ليلة على الجوى؟ حدثينا عن القرون الأولى، قرون خوفو ومينا.
نامعلوم صفحہ