اسرار قصور
أسرار القصور: سياسية، تاريخية، غرامية، أدبية
اصناف
وانحدر السلطان يلعن وزراءه وضباطه وجنده، وخصوصا نجله يوسف عز الدين؛ لأنه كان رئيس حرسه، وكان في تلك الليلة نائما لم يعرف شيئا ...
وعادت مهرى تبكي وتنتحب وتندب سوء حظها. وإذا بصوت يقول: الوقت أثمن من أن يضاع بالبكاء والنحيب، فيجب أن نعلم بقية السلطانات والحرم بسرعة التأهب؛ لأنه يجب مفارقة السراي قبل بزوغ الفجر. فرفعت السلطانة نظرها ومسحت دموعها، وإذا القائل رئيس الخصيان، فصاحت به أو هذه تعزيتك لي الساعة؟ - مولاتي البكاء لا يرد الفائت، والحكمة تقضي بالنظر في المستقبل. - آه يا ليتني مت قبل الساعة، وكنت نسيا منسيا ... وبعد فهل تعرف إلى أين ساروا بالسلطان؟ - سمعت رديف لما ركب مع السلطان الزورق الذي أعدوه له يأمر البحارة بالاتجاه إلى أسكى سراي. - أو هذه هي السراي التي اختاروها منفى لسلطانهم في عاصمته نفسها، آه يا رباه ... صوب انتقامك إلي، وأوقفه عندي، فأنا وحدي المسيئة وأنا وحدي المذنبة.
وطاف الخصيان يوقظون الحرم والنساء، ويعلمونهم بالتأهب للخروج من السراي، فلما عرفن السبب أخذن يولولن ويصخبن، فيملأن جوانب السراي بكاء ونحيبا، وقد تأهبن للمسير فجمعن أثمن ما عندهن من المال والجواهر، وأخذ الخدم ينقلونهن إلى الزوارق. وهكذا أخلين تلك السراي في أقل من ساعة من الزمان.
وركبت والدة السلطان مع السلطانة مهرى، وبقية السلطانات وأولادهن في زورق خاص استلم صلاح الدين دفته بيده غير آذن لأحد باستلامه، فلما ابتعد الزورق عن السراي تنهدت مهرى من أعماق قلبها، فتبسم لها صلاح الدين ابتسامة خفيفة دلالة على الظفر، فأدارت مهرى وجهها كي لا تراه، وقضت السلطانات تلك المسافة بالبكاء والنحيب، واستمطار اللعنات على الخائنين، فلما وصلن إلى السراي التي خصصت للسلطان عبد العزيز عهد صلاح الدين بالدفة إلى أحد البحارة، وانحدر قبل الجميع يساعد السلطانات على الانحدار إلى الرصيف، ولكن السلطانات رفضن مساعدته، وفضلن عليها خطر السقوط في البحر، وقابلنه بالشتائم. وجاءت مهرى آخر الجميع متكئة على ذراع جاريتها، فزلت قدم الجارية فسقطت وكادت تجر السلطانة مهرى معها، فذعرت هذه وصاحت مستغيثة، وإذا بيد قوية نشلتها فأنجتها من السقوط، ووضعتها على الرصيف سالمة، فالتفتت إلى صلاح الدين، وقالت له: جزاك الله جزاء ما فعلت معي. ودخلت السراي التي انتقوها منفي لذلك السلطان العظيم الشأن. •••
ولم يبزغ فجر 30 أيار حتى بدأت المدافع تدوي في أرجاء الأستانة مبشرة بإبدال السلطان بغير إهراق نقطة من الدم أو حدوث أقل مناوشة أو خصام، الأمر الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ آل عثمان منذ نشأتهم إلى يومنا هذا.
وقد أوجبت تلك الثورة السلمية التي لم تطل أكثر من ليلة دهشة العالم قاطبة، وأعجب بها الأوروبيون خاصة، وقابل الشعب خلع السلطان عبد العزيز وتولي ابن أخيه السلطان مراد الخامس بمزيد الفرح والسرور، وتوسموا في أميرهم الجديد طلائع الحرية والإصلاح، وهب السكان يريدون المظاهرة بفرحهم، فبلغهم أن السلطان الجديد خارج من السر عسكرية إلى سراي طلمه بغجه فامتلأت بهم الشوارع والطرق على اختلاف أجناسهم وأديانهم يهنئون بعضهم بعضا بذلك العهد الجديد.
وعند الساعة الثالثة من النهار ركب السلطان عربة فاخرة وحده، ولبس في يديه قفازا أبيض، وكانت تلك المرة الأولى التي لبس فيها سلطان القفاز في مثل تلك الساعة، فقابله الناس بالتهليل والدعاء، وطفق هو يحييهم مبتسما، وملامح الأنس واللطف بادية على محياه فاجتذب أفئدة الجميع. وكان الياوران يحيطون به من كل جانب تحت رئاسة صلاح الدين بك الذي كاد لا يصدق أن يرى ما يرى فاجتاز الموكب جسر قره قوى، ثم غلطه سراي حتى طلمه بغجه. وقبل أن تجتاز العربة الباب تقدم ضابط يعرفه السلطان، ورفع إليه كتابا مختوما، فتناول السلطان الكتاب بتلهف؛ لأنه عرف من حامله حسن بك أنه من عمه، وتشوق الناس لمعرفة فحوى الكتاب، وإذا بجرائد المساء صدرت ناشرة صورته، فعرف الناس حينئذ اعتراف السلطان المخلوع بتولي ابن أخيه، ورضوخه له، وتسليمه أمره إليه، وهذه صورة الكتاب:
شوكتلو عظمتلو أفندم
اسمح لأحقر رجل من رعيتك أن يكون في مقدمة المهنئين لك، سائلا الله المتعال أن يطيل ملكك، ويجعل لك مستقبلا سعيدا، ورجائي الوحيد إليك أن تحرص على حياتي، وأن تأذن لي بالإقامة مع عائلتي في القسم الذي بنيته لجلالتك في سراي جراغان.
وأسأل الله أن يلهمك بحكمته السامية ما فيه خير الأمة والدولة. وإذا كنت أتجاسر على تقديم رأيي فهو ألا تضع ثقتك في جيشك، فقد ضحيت كل شيء من أجله وهو الذي خانني. وفي الختام أسأل الله عز وجل أن يهبك عمرا طويلا وعيشا هنيئا.
نامعلوم صفحہ