32

خائن بائس، رحال.

فور أن أدركت أنهم ليسوا مجموعة من الغرباء الضالين بل ينتمون إلى طائفة المينونايت، لم يوح مظهرهم لها بالخجل أو الكآبة. الواقع أنهم بدوا مرحين جدا؛ حيث مرروا كيسا من الحلوى، فطفق الصغير والكبير يأكل منه. جلسوا على المقاعد المحيطة بها.

لا عجب أنها كانت تشعر بحالة مزرية من البرد والرطوبة. أطاحت بها نوبة لم يلاحظها أحد غيرها. يمكنك أن تقول أي شيء حيال ما حدث، لكن ما حدث كان يرقى لأثر نوبة تعتري المرء. اعترتها النوبة، فتركت لمعانا في بشرتها، وطنينا في أذنيها، وخواء في صدرها، واضطرابا في بطنها. كانت تواجه ضربا من الفوضى والحيرة الشديدتين، مآزق مفاجئة وحيلا مرتجلة وترضيات متلاشية.

لكن تلك الصحبة من المحسوبين على طائفة المينونايت مباركة. صوت مؤخراتهم وهي تتحرك على المقاعد، وطقطقة كيس الحلوى بين الأيادي، وصوت الشفاه وهي تمصمص بتأن، والحوارات الخافتة. اقتربت فتاة صغيرة من لويزا ومدت إليها يدها بكيس من الحلوى دون أن تتطلع إليها، وتناولت لويزا النعناع المحلى بالزبد الاسكتلندي. دهشت لويزا إذ أمسكت بقطعة الحلوى في يدها، وفوجئت إذ تلفظت بكلمة «شكرا»، وإذ تذوقت في فمها المذاق الذي كانت تتوقعه. طفقت تمص قطعة الحلوى بتأن مثلهم تماما، وهو ما جعل هذا المذاق يدوم لبعض الوقت.

أضيئت المصابيح ولو أن المساء لم يسدل أستاره بعد. وفي الأشجار أعلى المقاعد الخشبية، علق أحدهم أسلاكا تتدلى منها مصابيح صغيرة ملونة لم تلاحظها لويزا إلا الآن؛ جعلتها تلك المصابيح تفكر في الاحتفالات، والكرنفالات، وقوارب المنشدين في البحيرة.

سألت المرأة الجالسة إلى جوارها: «ما هذا المكان؟» •••

في اليوم الذي توفيت فيه الآنسة تامبلين تصادف أن كانت لويزا مقيمة في الفندق التجاري. كانت تعمل مندوبة مبيعات متجولة آنذاك لصالح شركة تبيع القبعات والأشرطة والمحارم والإكسسوارات وملابس النساء الداخلية لمحلات التجزئة. سمعت الحوارات التي تدور في الفندق، وخطر لها أن المدينة سرعان ما ستكون بحاجة إلى أمينة مكتبة جديدة. كانت منهكة جدا من جر حقائب عينات بضاعتها كلما استقلت قطارا أو ترجلت منه، ومجهدة من عرض منتجاتها في الفنادق وحزم حقائبها وفكها. ذهبت فورا وتحدثت إلى مسئولي المكتبة؛ السيد دود والسيد ماكليود. بدا الاثنان وكأنهما يشكلان فريق استعراض مسرحي، ولو أن هيئتهما لم توح بذلك. كان الأجر زهيدا، لكن حالها لم يكن على ما يرام وهي تعمل بنظام العمولة. أخبرتهم أنها أنهت دراستها الثانوية في تورونتو، وعملت في مكتبة إيتون قبل أن تغير مسارها وتعمل مندوبة مبيعات متجولة. لم تر أنه من الضروري أن تخبرهم بأنها لم تعمل هناك سوى خمسة أشهر إذ اكتشفت أنها مصابة بالسل، وأنها أودعت مستشفى لأربع سنوات بعدها. على أية حال، شفيت من السل، وجفت البقع التي أصابت جلدها وقتها.

نقلتها إدارة الفندق إلى إحدى غرف النزلاء الدائمين في الطابق الثالث. كان باستطاعتها أن ترى طبقات الثلوج المتراكمة أعلى أسطح المباني. كانت مدينة كارستيرز تقع في واد نهري، وكان تعداد سكانها يتراوح بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف نسمة، وكان بها شارع رئيسي طويل يمتد منحدرا من أعلى التل مرورا بالنهر وصعودا إلى التل مرة أخرى، وكان هناك مصنع متخصص في صناعة البيانو والأرغن.

كانت البيوت قد بنيت منذ زمن بعيد، والساحات شاسعة رحبة، والشوارع تتراص على جانبيها أشجار الدردار والقيقب النضرة. لم تكن حاضرة بالمدينة قط كلما أثمرت الأشجار، بالتأكيد ذلك يصنع فارقا كبيرا. لا بد أن كثيرا من الأشياء الظاهرة تخفيها الأشجار كلما أورقت.

كانت سعيدة ببدايتها الجديدة، ومعنوياتها هادئة وممنونة، فقد سبق لها أن فتحت صفحات جديدة، ولم تفتح الحياة ذراعيها لها كما كانت تأمل، لكنها كان مؤمنة بالقرارات السريعة الحاسمة، وتدخلات القدر غير المتوقعة، وتفرد مصيرها.

نامعلوم صفحہ