وقدم لها بطاقة بيضاء وقلم رصاص فكتبت:
جوزفين صدقي مديونة لصاحب هذه البطاقة بحياتها.
بقي أن أرجو منك ألا تذكري شيئا لصاحبة هذا البيت عن أمرك، بل لا تكلميها شيئا؛ لأنها موصاة ألا تكلمك بشيء. - ليكن كما تقول.
ثم نهض أحمد بك يريد الانصراف، فأمسكت جوزفين يده لتقبلها، فاختطفها من كفيها وقال: ليكن الله معك. من يدري إن كنت أراك بعد؟ ليتني أقدر أن أعطيك عنواني لتكتبي لي إذا احتجت إلى مساعدتي المالية، أو سواها مما أقدر عليه. - إني ممتنة لك كل عمري.
الفصل السادس عشر
جزاء سنمار
ما ارتفعت الشمس فوق الأفق قامتين حتى كان الشرطة يحيطون بقصر الأميرة نعمت هانم، وبعض رجال القنصلية النمساوية يراقبون عملهم، ثم دخل المأمور وبعض الشرطة إلى القصر وقبضوا في الحال على الخدم وحجروا عليهم جميعا في غرفة واحدة، وعند ذلك شعرت الأميرة نعمت بضوضاء وجلبة وأصوات، فنادت فلم تسمع صوت مجيب، فخرجت من غرفتها لترى ما الخبر، فالتقت بالمأمور فسألت: ما الخبر؟ - بأمر الحكومة أفتش قصرك يا مولاتي. - عم تفتش؟ - عن جثة امرأة مسممة.
فارتعدت الأميرة لهذا الكلام، وقالت: يالله! ماذا تقول؟ - أقول إن رسالة مجهولة الإمضاء وردت إلى القنصلية النمساوية تبلغها أن امرأة نمساوية تدعى جوزفين محظية الأمير نعيم مسممة في قصر الأميرة نعمت هانم، فأبلغت القنصلية المحافظة فأرسلت عددا من الشرطة للتفتيش. - لا أكاد أفهم ما تقول؛ لأن جوزفين التي تذكرها ليست في القطر المصري، بل هي مع عشيقها في أوروبا كما كتبت لنا بخط يدها، ولا علم لي بشيء مما ذكرت. - على أني أفتش على كل حال؛ لأني مأمور بالتفتيش. - ولكن يشق علي جدا أن أرى شرطة تفتش قصري كأني متهمة بجناية. - ولكن التفتيش يؤيد براءتك يا مولاتي، فاسمحي به عن طيب خاطر؛ إذ لا مناص منه. - فتش فتش، لا بأس، فقد نفذ المقدر بإلباسي هذا العار.
وكانت ترتجف من شدة الغيظ كأن مجرى كهربائيا قويا جدا يجري في أسلاك أعصابها، فجعل المأمور يفتح غرفة بعد الأخرى ويبحث في كل جهة فيها، وبقي نحو ساعة يطوف غرف القصر كلها، حتى إنه لم يدع مقاس قدم إلا وفتشه فلم يجد شيئا، ثم نزل وفتش خزانات القصر السفلى واحدة واحدة، وقلب الأمتعة والأوعية ونظر السقوف، ثم طاف في الحديقة فلم يجد أثرا لدفن البتة، فعاد مقتنعا تمام الاقتناع أن القصر خال من جثة ميت، وما كان الظهر حتى عاد الشرطة بخفي حنين.
أما الأميرة نعمت فكانت تتلظى غيظا من جراء ذلك، وبعد أوبة الشرطة جلست في غرفتها، وجعلت تفتكر في سبب هذه الوشاية الكاذبة، وفي من هو الواشي، فحارت ولم يترجح لها إلا أن أحمد بك نظيم هو الواشي نكاية فيها؛ لإهانتها له في المساء السابق، وكان هذا الفكر ينمو ويقوى عندها إذ لم يخطر لها سواه، وأخيرا أقنعت نفسها بأنه هو الحقيقة بعينها، فأرسلت رسولا واستدعت أحمد بك فحضر في الحال، وكان قد حزر من نفسه سبب هذه الدعوة؛ لأنه كان عالما بأمر دسيسة سنتورلي والأمير عاصم كما هي، فظن أن الأميرة قد استدعته لتكلفه أن يبحث لها عن الواشي وسبب الوشاية، فلم يخطر له أنها تتهمه بها.
نامعلوم صفحہ