الفصل الثامن
مناشدة الغرام من وراء اللثام
وفيما هو في حيرة أنزل ستار المرسح لانقضاء الفصل، وابتدأ وقت الاستراحة بينما يبتدئ الفصل التالي، فهم بالخروج من خلوته، وإذا بعبد طواشي قد انتصب أمامه وهو طويل القامة، دقيق العضل، ممتلئ الجسم، لا نبات في عارضيه، عليه لباس إفرنجي أسود، وعلى رأسه طربوش أحمر، فلما رآه شفيق هابه لغريب منظره، فبادره الطواشي بألطف إشارة محييا، ثم قال له: أيريد سيدي أن يتكرم علي بذكر اسمه الكريم؟ قال: اسمي شفيق.
فقال له: إن أحد أصدقائك يود مقابلتك الساعة 11 ونصف بجانب باب حديقة الأزبكية القبلي، فتعجب شفيق من ذلك وقال له: من هم هؤلاء الأصدقاء؟ قال: قلت بعض الأصدقاء وأريد صديقا واحدا، قال: من هو؟ قال: هو (وهمس في أذنه) السيدة فدوى. فخفق قلب شفيق خفوقا سريعا، واصطكت ركبتاه، وأخذته القشعريرة، ولكنه تجلد جهد طاقته، ونظر إلى العبد نظرا مملوءا من الوداعة يظهر له امتنانه، وقال: إني سأتمم ما أمرت به، ولكني الآن أفتش عن صديق لي تاه مني في هذا الملعب ولا أعلم أين مقره، ولا أرى مفارقة هذا المكان قبل أن أقف على أثره، أو أتحقق أين ذهب. ثم خرج إلى خارج الملهى، فإذا بعربة عزيز لا تزال في انتظاره، فعلم أنه لم يخرج، فوقف يفكر في أمر فدوى واستدعائها إياه في ذلك الوقت، وكيف تكون مقابلته إياها. وكلما تصور ذلك يخفق قلبه، ثم يعود فيذكر ضياع رفيقه، فتحدثه نفسه أن يجيب داعي الوجد فيسير إلى فدوى، فتناديه المروءة كيف تذهب قبل أن تجد رفيقك.
وما زال مترددا والخصي ينتظره خارجا حتى كانت الساعة الحادية عشرة ونصف، فوقع في حيرة بين أن يلبي طلب سالبة لبه، أو أن يفتش عن صديقه، فدفعه دافع الوجد إلى أن يسير إلى فدوى ثم يعود بعد ذلك للتفتيش عن عزيز، فاصطحب الخصي إلى الحديقة فوصلا الرصيف بإزاء عمود مصباح غازي، وقد لحظ مركبة فدوى فاضطرب وامتقع لونه فتعثر في سيره حتى كاد لا يقوى على المسير، فلما أقبل على المركبة شاهد فدوى مستطلة من النافذة وهي في أبدع ما يكون من الجمال، وقد زايلها الوجل والاضطراب، فوقف خاشعا يتأمل وجهها الطافح بهاء وحياة، وعينيها الدعجاوين الممتلئتين ذكاء ودعة، يحرسهما حاجبان مزججان يكتنفهما لثام أبيض شفاف، ويتراءى من ورائه مبسم كله معان، ويتجلى في وجهها وقار يزينه الحياء.
فلما وقعت العين على العين ترامت السهام من الجانبين، وبادرته فدوى بالتحية مبتسمة، ثم مدت يدها إليه تصافحه وقد غلب عليها الحياء وأحست بقشعريرة انتظمت كل أطرافها، وتصبب جبينها عرقا، ولم تقو على تسكين اضطرابها، فلما أدرك شفيق منها هذا وقد تصافحت الأيدي حتى ارتعدت فرائصه ولم يستطع الوقوف فأسند يده إلى نافذة العربة، وحاول تسكين روعه فلم يستطع ثم رفع بصره إليها وهم بمخاطبتها فامتنع عليه الكلام ولم يقو على إدامة النظر فأطرق حياء ووجدا، وأخيرا تجلد وقال: أطلب إليك المعذرة يا سيدتي لتأخري بضع دقائق عن الموعد الذي ضربته، وما تأخرت إلا لأني كنت أبحث عن رفيق لي ولم أظفر به حتى الآن.
قالت: لعله صديقك الذي كان معك في العربة؟ قال: نعم. فتكلفت الابتسام، وأرادت التكلم فمنعها الحياء. والتبس الأمر على شفيق فسألها: أهناك أمر تعرفينه عن صديقي عزيز؟ فلم تجب وظهر اضطرابها جليا عند ذكر اسم عزيز، فتشاغلت بتثنية طرف اليشمك بين أناملها وبقيت مطرقة. فقلق شفيق، وأدرك أن هناك شيئا لا تريد التصريح له به، وهم بسؤالها ولكنه استحيى فأجل هذا إلى ما بعد الحديث الذي استقدمته لأجله، وأصاخ بسمعه ينتظر ما تقول.
فقالت: ربما تعجب من أني دعوتك الليلة لأخاطبك على انفراد وأنت شاب لم يسبق لي معرفة بك من قبل فضلا عما تعلمه من عادتنا في التحجب عن كل رجل إلا أقرب ذوي قربانا. وربما تنسب ذلك مني إلى الخفة والطيش.
فابتدرها شفيق قائلا: معاذ الله فأنت أرفع من أن تهبطي إلى مثل هذا وقد خصك الله بكمال الذات والصفات.
فنظرت إليه بعين الحب نظرة خرقت أحشاءه، ولم تقو على مكاشفته بما في فؤادها فقالت بصوت منخفض: لا يعرف ما في القلوب إلا الله، وما جرأني على أن أدعوك إلى هذا الموقف إلا الشهامة التي أبديتها لإنقاذي من العار، إذ جعلتني أحس فضلك وكرم أخلاقك وأشعر بأني مقصرة عن شكرك، ولا أقول مكافأتك لأنها أمنية لا يمكنني الوصول إليها ولو ضحيت نفسي بين يديك. فالآن أرغب إليك في أن تتقدم إلي بما تشاء لعلي أقوم بشيء من الواجب.
نامعلوم صفحہ