أما شفيق فكان يستطلع أحوال أهل الخرطوم، فعلم أنهم في ضيق، وأنهم سينتظرون نجدة من إنكلترا لإنقاذهم، فمضى الشهر والشهران والثلاثة ولم تأت تلك النجدة، حتى أصبح أهل الخرطوم في يأس، وأمسى شفيق قليل الرغبة في الفرار إلى الخرطوم؛ خوفا من أن يفر من بلاء فيقع في أعظم منه، فإنه إذا دخل الخرطوم فلا يقدر على شيء ينفعها به، ولكنه يجعل نفسه عرضة للقتل إذا ظفر المتمهدي بالمدينة، وهو الظافر بها إذا لم تسرع الحملة الإنكليزية بالمجيء، فوقع في حيرة لا يدري أيسير إلى الخرطوم ويعرض نفسه للخطر والجوع، أم يبقى مع الدراويش ويحارب حكومته وإخوانه.
وبعد قليل، جاء المتمهدي من الأبيض وانضم إلى جنوده في الخرطوم، فأصبحت قوة المهدويين عظيمة، حتى لم يعد عند شفيق ريب بسقوط المدينة إذا لم تأت الإنكليز لنجدتها، وعليه نزع من فكره أمر الفرار في الأحوال الحاضرة، ولكنه أحب مشورة صديقه حسن. وكان قد جاء إلى هناك، فقال له: ما رأيك بالفرار إلى الخرطوم؟ فضحك حسن قائلا: والله لو آنست من الفرار نفعا لكنت أول الفارين، ولكنني أؤكد لك أن الخرطوم لا تستطيع المقاومة طويلا؛ لأنها في ضيق من قلة المؤن كما قد علمت. وإذا كان الإنكليز لم تأت أخبارهم بالمجيء حتى الآن، فلم يعد يرجى منهم مساعدة، فالخرطوم لا تلبث أن تسقط في أيدي جماعتنا، فالأفضل أن تكظم ما بك لنرى ماذا يأتي به الغد.
فصبر شفيق نفسه منتظرا بابا للفرج، وفيما هو جالس يوما يفكر جاءه حسن ضاحكا وقال له: ما الذي يهمك الآن في هذه الغربة، قال: يهمني أن أعرف ما جرى بأهلي. ألا تظن وقت رجوع الجواب من القاهرة قد آن، قال حسن: بلى، وهذا هو الرسول قد عاد، فاسأله عما تشاء. فلما خلا به قال الرسول: إني سألت في قنصلاتو إنكلترا عن والدكم فلم ينبئني عنه منبئ، وإنما علمت أنه باع أمتعته وفرشه وهاجر الديار المصرية، ولا يعلمون إلى أين توجه، فلم أستطع تسليم الكتاب إليه، فذهبت إلى بيت الباشا فقيل لي إنه في بر الشام، فوجدت امرأته في البيت فدفعت إليها الكتاب ولم تعطني جوابا. فأخذ شفيق يندب نفسه ويبكي وهو قلق على والديه وعلى فدوى؛ لا يدري مقرهم.
وأخبرهم الرسول أن الحكومة الإنكليزية أعدت حملة تبعث بها لإنقاذ غوردون باشا والخرطوم، فسره مجيء الحملة واستبشر، ولكن الكدر غلب عليه، على أنه تجلد وعاد إلى حسن وشكره على تلك المنة، وأعطى الرسول أجرته، فالتفت إليه حسن قائلا: ما وراءك يا شفيق؟ قال: إن ورائي خبرا يسرك وخبرا يسوءني، قال: قل. ماذا عسى أن يكون ذلك؟ قال: أقوله لك على شرط أن تحفظه سرا؛ لأنه لم يبلغ أحدا غيري في جميع السودان، حتى ولا غوردون نفسه، فقال حسن: إنك، يا أخي، ماس صدق إخلاصي لك، وهل تعهد بي غير الإخلاص؟ قال: لا، ولذلك أخبرك أن الجنود الإنكليزية قد خرجت من مصر قادمة على النيل لإنقاذ الخرطوم، فما ترى؟
فبهت حسن وصرخ قائلا: هل ذلك صحيح؟ قال: نعم، ونحمد الله أن وقت النجاة قد دنا، فما العمل؟ قال شفيق: لم يعد لي صبر على الذهاب إلى الخرطوم، فقال حسن: ولكن تمهل يا أخي؛ إن في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة.
فقال شفيق: أنخاف بعد الآن والإنكليز قادمون لإنقاذنا، ونحن نعلم أن المتمهدي نفسه يقر بعدم استطاعته التغلب على الخرطوم إذا وصلها الإنكليز؟ فالرأي أن نفر إلى الخرطوم ونلتجئ إلى غوردون؛ لعلنا نفيده في شيء، فقال له حسن: أما أنا فلا أستصوب العجلة في هذا الأمر.
قال شفيق: أما أنا، فالأرجح أنني أخرج من هذا المعسكر إلى الخرطوم في هذين اليومين، فلم يوافقه حسن على ذلك، ثم رأى الأصوب أن يتربص بضعة أيام.
الفصل السادس والسبعون
مجيء الإنكليز لإنقاذ غوردون
وبعد يسير، علم المتمهدي بوصول الحملة إلى كورتي، واهتمامها بالقدوم في صحراء البيوضة إلى المتمة وشندي، ومنها إلى الخرطوم، فبعث من رجاله حملة تحت قيادة موسى ولد حلو وأبي صافية؛ لتقطع عليهم الطريق عند آبار أبي طليح وراء المتمة بمسافة يوم؛ حتى يمنعوهم من الوصول إلى النيل، فبلغ ذلك شفيقا، فسر وابتهج لتحقق أمر الحملة ومجيئها، ولكنه تربص ليعلم ماذا يكون من أمر الملتقى بين الفريقين هناك؛ ليتحقق لديه ظنه.
نامعلوم صفحہ