كتب في فندق بسول ببيروت
غرة مايو سنة 1884
ثم ختمت الكتاب وبعثت به مع بخيت، فسلمه إلى عبود وأوصاه بالإسراع، فاستعفى هذا من الفندق، وسار في باخرة قاصدا الديار المصرية؛ ليسير منها على النيل إلى الخرطوم؛ لعلمه أن طريق سواكن لم يعد يمكنه سلوكها لاستفحال أمر عثمان دقنا فيها، فوصل القاهرة في شهر مايو سنة 84، فركب القطار إلى أسيوط، ومن هناك اكترى جملا سريع الجري، وسار على البر الغربي في عطمور الأربعين، قاصدا دنقلا، ومديرها يومئذ مصطفى بك ياور، فوصلها في أواخر يونيو (حزيران)، فإذا بأهل المدينة في هرج ومرج، واستعداد إلى حرب، فسأل عن السبب، فقيل له: إنهم سائرون لمقاتلة الدراويش في الدبة، وكان عبود يظن أن الطريق إلى الخرطوم آمنة، فلما سمع الخبر وقع في حيرة، ثم أخذ يطوف في الأسواق لتحقق الأمر، فدخل وكالة شاهد فيها بعضا من التجار السوريين، فتقرب من أحدهم واستطلعه كنه الخبر، فأكد له إياه وأخبره أن الطريق من هنا إلى الخرطوم لا يستطيع رجل أو جماعة قليلة أن يقطعها؛ لأن الدراويش قد انتشروا فيها، والخرطوم في حصار شديد، فارتبك في أمره، فقال له التاجر: وما غرضك من الخرطوم؟ قال: إني أفتش عن سيدي هناك، قال: لا يمكنك الوصول إليه كما هي، ولا سيما إذا لم يفز رجالنا بقتال العصاة. أما إذا فازوا فقد تنفتح الطريق، وأملي أن مصطفى بك يقوى على أولئك؛ لأنه رجل من الأولياء الأتقياء إذا أطلق عليه الرصاص لا يخترق لحمه، وإذا سار إلى حرب فلا يستصحب من السلاح إلا حربة قصيرة في يد، والسبحة في اليد الأخرى، ولا يكف عن الصلاة والدعاء ما طالت المعركة.
وفيما هما في الحديث إذا بجماعات الجند يسيرون، فعلم أنهم يريدون الدبة، ورأى وراءهم فارسا نحيف الجسم، قصير القامة، عليه الجبة والقفطان ، وفي ركبه جماعة من الحشم، فسأل عنه فقيل له: إنه المدير ذاهب في رجاله لمقاتلة العصاة.
فالتفت عبود إلى صديقه التاجر قائلا: وما رأيك الآن؟ قال: الرأي عندي أن نلبث هنا لنرى ماذا يكون من أخبار الحرب، وإني أدعوك إلى منزلي لتقيم عندي الليلة وما بعدها، حتى تعلم ماذا يتم. فامتدح عبود تلك الشهامة، واستأنس بذلك التاجر؛ لأنه ابن وطنه، وكان قد هاجر إلى دنقلا مع والده صغيرا، وأما التاجر فكان أكثر استئناسا به.
فسارا به إلى بيته، وعبود ينقم على ذلك التأخر خوفا من حبوط مسعاه، فلما وصلا المنزل إذا به بيت حقير مبني بالطين، بابه صغير لا يدخله الإنسان إلا ساجدا، فبات تلك الليلة بعد أن تناول العشاء وهو يفكر في أمره، وأصبح وهو في شاغل، وبعد مضي بضعة أيام وصلت الأخبار بانتصار المدير على العصاة، فظن ذلك الانتصار كافيا لإخماد الثورة، وفتح الطريق، وحملته العجلة على أن يسرع إلى المسير في أقرب الطرق إلى الخرطوم، واستشار صديقه، فأشار عليه أن يتربص قليلا وقال له: قد بلغني أن الحكومة الإنكليزية أقرت على إرسال حملة إلى الخرطوم لإنقاذ غوردون، وستمر بدنقلا فتسير برفقتها. فأجاب عبود أنه لا يستطيع صبرا، فقال له: إذا كان لا بد من سفرك، فأقرب طرق الخرطوم من هنا طريق في الصحراء جنوبا ماؤها قليل، فقال: لا بأس، إني أسير فيها. فاستحضر له خبيرا يرافقه، فجعل عبود ثيابه وأوراقه كلها في حصير صغير صنع السودان يقال له برش، ولف البرش عليها، وربطه وشده إلى رحل الجمل، وركب وسار مع خبيره، ولكنه لم يكد يبعد عن دنقلا مسيرة يوم حتى أدركه جماعة من العرب سلبوه ثيابه وكل متاعه، ولم ينج من الموت إلا بالجهد، فعاد إلى دنقلا وقد فقد الرسم والكتاب في جملة الأمتعة، فأخذ يندب سوء حظه. وقد ندم على ما فعل؛ لأنه لم يصغ إلى رأي صديقه، فلما عاد إليه عنفه على عمله، وأشار عليه أن يتربص إلى مجيء الحملة فيسير برفقتها.
الفصل الرابع والسبعون
مسير الدراويش إلى الخرطوم
فلنترك صاحبنا عبودا في انتظار الحملة، ولنعد إلى شفيق في الأبيض حيث تركناه ينتظر الفرج من عند الله، فلبث حتى إذا كان ذات صباح علم أن المهدي أمر باستعراض جيشه استعراضا عاما.
وفي صباح الغد، حضر الجميع إلى ساحة متسعة خارج البلدة؛ حيث استعرضت الجنود، ثم جاء المهدي وخلفاؤه وأمراؤه، فوقف المهدي بعد الصلاة للخطبة في الجماهير، فسأل شفيق حسنا عن سبب هذا الجهاد، فقال: إن الحملة سائرة لمحاصرة الخرطوم. فلما انتصب المهدي للخطابة صمت الناس وأطرقوا إصغاء لقول زعيمهم.
نامعلوم صفحہ