أما الباشا فخرج من حجرة ابنته يفكر فيما يشغلها عن هذه الأمور، فعاد إلى النافذة وإذا بصاحب الفندق داخل محييا، فرد الباشا التحية، فقال له الرجل: لقد شرفتنا يا سعادة الباشا، وحلت البركة، فهل تأمر بخدمة؟ قال: لا، تفضل اجلس. فجلس متأدبا، ولكنه شاهد أن نزيله في ارتباك فأحب استطلاع أمره، فاستخدم طرقا مختلفة إلى أن قال: ولعل حضرة الهانم لم تسر من نزولها في هذا الفندق؛ لأنها لا تستطيع التسلية لعدم وجود السيدات.
فقال الباشا: ذلك حقيقي، ولا سيما وأن عوائدنا لا تسمح لها بالظهور أمام الرجال كما يفعل الإفرنج ومن جرى مجراهم.
فخاف صاحب الفندق أن ذلك ربما أورث لها مللا، فقال له: ولكن ذلك يا سيدي أمر سهل، وإذا أذنت سعادتك أن تتشرف امرأتي بمعرفة ابنتكم لعلها تأنس بها، فتجد سلوى عن وحدتها.
فسر الباشا لذلك وقال: نعم نعم، لقد نطقت بالصواب؛ فافعل ولك الفضل، فإذا شرفت السيدة فإنني أرسل معها الخصي ليوصلها إلى ابنتي، ولا أشك أنها تأنس بها. فخرج صاحب الفندق، ولما التقى بامرأته أخبرها أن عنده سيدة مصرية تود الاستئناس بها، فلبست أحسن ما عندها من الثياب والحلي.
الفصل الحادي والستون
الدبوس
وسارت مع زوجها حتى دخل على الباشا، فاستقبلها الباشا مطرقا ولم يرفع إليها نظرا؛ جريا على عادة بلاده، وأمر ببخيت فحضر حالا، فقال له: اذهب يا بخيت بحضرة السيدة إلى سيدتك فدوى، وعرفها بها؛ لعلها تستأنس بمعاشرتها في وحدتها. فلبى بخيت طائعا وقال: حاضر يا سيدي. وسار بالمرأة حتى أتى باب غرفة سيدته، فأوقفها خارجا ودخل وحده ليستأذنها، فرآها متكئة مبهوتة لا تبدي حراكا، فخاف عليها من تلك الحالة، فأخذ يلاطفها ويستعطفها أن تترك الهواجس من بالها إلى أن قال: وقد جاءت امرأة صاحب الفندق لتسلم عليك وتسليك، وها هي خارج الحجرة، فهل أدعوها إليك؟ قالت: دعنى يا بخيت وشأني؛ فإني لا آنس ببشر، ولم يعد لي أنيس إلا الخلوة؛ لعل خياله يمر بمخيلتي؛ فذلك هو أنيسي. قالت ذلك وبكت، فقال: ما لنا وللبكاء يا سيدتي، فلا تجعلي هذا دأبك؛ إذ لا فائدة منه، واتركي الأقدار تجري في أعنتها؛ فربما تنالين بغيتك ولو بعد حين.
فقالت: دعني يا بخيت. إنك تحبني، ولكنك لم تفعل معي فعلا تستوجب لأجله محبتي، فإنك لم تقل أمامي إلا أقوالا تدل على شهامة وغيرة، ولكنها لم تأتني بفائدة تذكر ... وسكتت هنيهة ثم قالت: ولكن ما الذي في يدك؟ ألعلك قادر على مقاومة الأقدار؟
فقال بخيت: إنك، يا مولاتي، توقدين في قلبي نارا تحرق حشاشتي بهذا الكلام، ولا أقول لك شيئا الآن سوى أني مستعد أن أبذل حياتي في سبيل مرضاتك، وليس لي مجال لأقول أكثر من ذلك؛ لأن سيدة في انتظار إذنك خارجا ، فانهضي غير مأمورة، وأذني لها في الدخول، فإنها تسليك، فإذا لم تؤانسي منها تعزية، فلا تعودي على مجالستها مرة أخرى، وإنما يظهر لي أنها أنيسة لطيفة الذات؛ لأن أهل هذه المدينة يتخرجون في أساليب المحادثة وأنواع الإيناس؛ لكثرة نزول الغرباء بين ظهرانيهم.
فقالت: دعها تدخل. ونهضت ترتب ثوبها وتنظم غرفتها، فلما دخلت المرأة قابلتها بوجه بشوش، وأذنت لها بالجلوس، فبادأتها المرأة بالحديث قائلة: أهلا وسهلا بك يا حبيبتي. إنك لقد شرفتنا بقدومك.
نامعلوم صفحہ