اللهم صل على محمد وآله وصحبه وسلم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى
[السؤال الأول عن حديث الجساسة]
سألتم -رضي الله عنكم وأدام لكم التوفيق وأرشدكم إلى سواء الطريق- عن حديث فاطمة بنت قيس، في الجساسة، وهل فيه علة لأجلها لم يخرجه البخاري فإنه لا يقال [إنه] تركه لأجل الطول، فإنه ليس في الباب شيء يغنى عنه.
صفحہ 23
وأيضا فإن الصحابة [رضي الله عنهم] اختلفوا وشكوا في ابن صياد حتى بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فلو سمعوا هذه الخطبة لما أشكل عليهم، ولا يمكن أن تكون فاطمة بنت قيس [رضي الله عنها] سمعته وحدها، (إذ هو) خاص، بل هو أمر عام، انتهى.
والجواب: إن هذا السؤال يتضمن أمورا،
أولها: أنه لم يخرجه البخاري، وانفرد بإخراجه مسلم فأقول: ليست له علة
صفحہ 24
قادحة، تقتضي ترك البخاري لتخريجه وطوله لا يقتضى العدول عنه، فإنه أخرج (عدة) من الطوال، ولم يختصرها في بعض المواضع، مع أن حاجته منها إنما هي لبعض الحديث، كما في حديث الإفك، حيث أخرجه بطوله في كتاب الشهادات في باب تعديل النساء.
صفحہ 25
ومن جملة الطوال، ما أكثره من كلام الراوي لا من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي سفيان [رضي الله عنه] في قصة هرقل.
والذي عندي أن البخاري أعرض عنه لما وقع (من) الصحابة رضي الله عنهم في أمر ابن صياد، ويظهر لي أنه رجح عنده ما رجح عند عمر وجابر وغيرهما [رضي الله عنهم] من (أن) ابن صياد هو الدجال. وظاهر حديث فاطمة بنت قيس يأبى ذلك، فاقتصر على ما رجح عنده، وهو على ما يظهر بالاستقراء من صنيعه يؤثر الأرجح على الراجح، وهذا منه.
الأمر الثاني: مما تضمنه السؤال، الإشارة إلى أن الصحابة [رضي
الله عنهم] لو سمعوا الخطبة التي نقلتها فاطمة بنت قيس [رضي الله عنها] لما شكوا حتى بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في ابن صياد.
فأقول: بل ورد أن بعض الصحابة الذين سمعوا الخطبة كما سمعتها فاطمة [رضي الله عنها] استمروا على الشك في كون ابن صياد هو الدجال. كما سأبينه.
الأمر الثالث: الإشارة إلى أن فاطمة بنت قيس [رضي الله عنها]
صفحہ 26
تفردت برواية الخطبة المذكورة، مع استبعاد أن تكون سمعتها وحدها، فما السر في كون بقية من سمعها [معها] لم يرووها كما روتها؟
فأقول:لم تنفرد فاطمة [رضي الله عنها] بسماعها ولا بروايتها، بل جاءت القصة مروية عن جماعة من الصحابة غيرها، ودل ورودها علينا من رواية عائشة أم المؤمنين، وأبي هريرة، وجابر وغيرهم [رضي الله عنهم] على أن جماعة آخرين رووها، وإن لم تتصل بنا روايتهم.
أما حديث عائشة وأبي هريرة [رضي الله عنهما] فهو عند الإمام أحمد في مسنده، أورده في مسند فاطمة بنت قيس [رضي الله عنها] فقال فيه:
حدثنا يحيى بن سعيد -هو القطان- حدثنا مجالد (عن) عامر -هو الشعبي- قال: قدمت المدينة فأتيت فاطمة بنت قيس [رضي الله عنها] فحدثتني أن زوجها طلقها .. .. فذكر الحديث.
صفحہ 27
وفيه: فلما أردت أن أخرج، قالت: اجلس، حتى أحدثك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الأيام، فصلى صلاة الهاجرة، ثم قعد -يعني على المنبر- ففزع الناس، وقال: اجلسوا أيها الناس، فإني لم أقم مقامي هذا الفزع، ولكن تميم الداري أتاني فأخبرني خبرا يمنعني من القيلولة من الفرح .. .. الحديث بطوله.
وفيه: قال عامر: فلقيت المحرر بن أبي هريرة فحدثته بحديث فاطمة بنت قيس [رضي الله عنها] فقال: أشهد على أبي أنه حدثني كما حدثتك فاطمة، غير أنه قال: إنه في نحو المشرق.
قال: ثم لقيت القاسم بن محمد، فذكرت له حديث فاطمة بنت قيس [رضي الله عنها]، فقال: أشهد على عائشة [رضي الله عنها] أنها حدثتني كما حدثتك فاطمة غير أنها قالت: الحرمان عليه حرام؛ مكة والمدينة.
صفحہ 28
قلت: وقد أخرج أبو داود في السنن هذا الحديث من رواية مجالد، لكنه اقتصر على حديث فاطمة بنت قيس [رضي الله عنها] ولم يسق لفظه، بل أحال به على طريق أخرى، عن فاطمة [رضي الله عنها] قبله. ولم يتعرض للزيادة في آخره.
وأخرجه بن ماجة من رواية مجالد أيضا مقتصرا على حديث فاطمة بنت قيس [رضي الله عنها].
وأخرج أبو يعلى من طريق أبي هريرة [رضي الله عنه] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استوى على المنبر فقال: حدثني تميم، فرأى تميما في ناحية المسجد، فقال يا تميم: حدث الناس بما حدثتني .. .. فذكر الحديث باختصار.
وهذا لا ينافي ما وقع في رواية فاطمة بنت قيس [رضي الله عنها] لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم قص القصة كلهما كما في رواية فاطمة [رضي الله عنها] ثم رأى تميما [رضي الله عنه] فأمره أن يقص عليهم ما قص عنه تأكيدا، ويستفاد من ذلك مشروعية طلب علو الإسناد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما حديث جابر [رضي الله عنه] فأخرجه أبو داود وقال:
صفحہ 29
حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا ابن فضيل [هو محمد]، عن الوليد بن عبد الله بن جميع، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر: إنه بينما أناس يسيرون في البحر، فنفد طعامهم، فرفعت لهم جزيرة، فخرجوا يريدون الخبز فلقيتهم الجساسة، فقلت لأبي سلمة: ما الجساسة؟ قال: امرأة تجر شعر جلدها ورأسها، قالت: في هذا القصر رجل؟ قال: فذكر الحديث.
صفحہ 30
وفيه: وسأل عن نخل بيسان، وعين زغر قال: هو المسيح، فقال لي ابن أبي سلمة: إن في هذا الحديث شيئا ما حفظته، قال: شهد جابر أنه ابن صياد، فقلت: فإنه قد مات، قال: وإن مات، قلت: فإنه أسلم، قال: وإن أسلم، قلت: فإنه دخل المدينة، قال: وإن دخل المدينة.
وأخرجه أبو يعلى بإسنادين، رجال أحدهما رجال الصحيح، كذا قاله شيخنا الهيثمي في الزوائد.
والواقع أن السند الذي أشار إليه، هو سند أبي داود بعينه، فإن أبا يعلى أخرج الحديث عن واصل بن عبد الأعلى به.
الأمر الرابع في إيضاح هذا الإشكال: وهو أن ابن صياد على ما
تضمنته الأخبار الواردة فيه ولد بالمدينة ونشأ بها، وجرى له في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أمور، منها في الصحيحين:
صفحہ 31
توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المكان الذي هو فيه، ووجده في قطيفة له فيها زمزمة وأن أمه أعلمته بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم فثار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لو تركته بين)).
صفحہ 32
ومنها: التقاء النبي صلى الله عليه وسلم وسؤاله [إياه] عما يرى، وأنه خبأ له الدخ، وغير ذلك مما تضمنته الأخبار الدالة على وجوده في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ثم بقاءه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وغزوه مع المسلمين وحجه، واعتماره، وتزوجه بالمدينة، وولد له بها وفي ذلك قصص له مع أبي سعيد الخدري، ومع ابن عمر رضي الله عنهما وكان هو يتبرأ من ذلك إذا بلغه أن الناس يرمونه (بأنه) الدجال.
ويستدل بأنه غيره بالأمور التي هو متصف بها إذ ذاك مما يخالف صفات الدجال، لكن ظهرت عليه مخايل تنبئ على صدق فراستهم فيه، حتى أنه كان يرمز أحيان ويكاد يصرح بأنه هو، ولذلك كان جماعة من الصحابة [رضي الله عنهم] يجزمون بأنه هو، كما في الصحيحين عن عمر، وعن جابر [رضي الله عنهما].
وأخرج الإمام أحمد من حديث أبي ذر [رضي الله عنه] قال: لأن أحلف عشر مرار أن ابن صياد هو الدجال، أحب إلى من أن أحلف أنه ليس به. وسنده صحيح.
صفحہ 34
ومن حديث ابن مسعود [رضي الله عنه] قال: لأن أحلف تسعا أن ابن صياد هو الدجال أحب إلى من أن أحلف واحدة (أنه ليس به).
أخرجه الطبراني.
وقد ثبت أن أبا ذر [رضي الله عنه] من أصدق الناس لهجة، وأن عمر [رضي الله عنه] ينطق الحق على لسانه فلا يقدمان على الحلف بأن ابن صياد الدجال، إلا بعد وضوح ذلك لهما.
ولكن توقف النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك في قوله لعمر [رضي الله عنه] لما أراد قتله: ((إن يكن هو فلن تسلط عليه)) يقتضى عدم الجزم.
ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن لا يفصح بحاله فاستمر على التردد.
صفحہ 35
وفي تقريره تميما [رضي الله عنه] على قصة الجساسة، وما ذكر معها، مما يقوي التردد فيه، ومع ذلك ففي قول من قال في الحديث الذي أخرجه أبو داود كما تقدم أنه ابن صياد ولو أسلم، ولو دخل المدينة، ولو مات، إشارة إلى أن أمره ملتبس، وأنه جائز أن يكون ما ظهر من أمره إذ ذاك، لا ينافى ما يقع منه بعد خروجه في آخر الزمان، وحينئذ فيحتمل في طريق الجمع بين خبر تميم الداري وما عرف من حال ابن صياد، أن الله سبحانه وتعالى أخرجه إلى الجزيرة المذكورة على الصفة المذكورة في ذلك الوقت، حتى رآه تميم ومن معه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما سمع منه في ذلك ليكون موعظة وتحذيرا من فتنته إذا خرج.
وفيه إشارة إلى أن أموره ملتبسة، غير متضحة. ويحتمل أن يكون الله سبحانه وتعالى أظهر لأولئك مثالا على صفته بما يؤول إليه حاله، بعد أن يتحول من المدينة الشريفة التي من شأنها أن تنفي خبثها، وأنه يسجن في تلك الجزيرة إلى أن يأذن الله تعالى في خروجه في الوقت الذي يريده، ويكون ذلك من جملة الأمور التي يستمر فيها خفاء حاله، وعدم الوقوف على حقيقة أمره، لما يريده الله تعالى من الإفتتان به في أول أمره وفي آخره.
وقد اختلف في الوقت الذي فقد فيه، فأخرج أبو داود من طريق
صفحہ 36
الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: فقدنا ابن صياد يوم الحرة. وسنده صحيح.
(وجزم جماعة بأنه مات في هذا الحدود، ولكن وقع لي أمر يقتضى أنه لم يمت، وإن كان فقد).
صفحہ 37
فأخرج أبو نعيم في أوائل تاريخ أصبهان له من طريق جعفر بن سليمان الضبعي، عن شبيل بن عزرة قال: حدثني حسان بن عبد الرحمن عن أبيه، قال: لما افتتحنا أصبهان، كان بين عسكرنا وبين اليهودية -يعني بلدا بأصبهان- فرسخ، فكنا نأتيها فنمتار منها فأتيتها يوما، فإذا اليهود يزفنون ويضربون، فأتيت صديقا لي منهم، فقلت: ما شأنكم؟ أتريدون أن تنزعوا يدا من طاعة [الله]؟ فقال: لا، ولكن ملكنا الذي نستفتح به على العرب، يدخل المدينة غدا، فذكر القصة.
وفيها أنه بات هناك، فلما أصبح رأى اليهود مجتمعين، وبينهم رجل، عليه قبة من ريحان وهم حوله يزفنون ويضربون، قال: فنظرت فإذا هو ابن صياد، فلم نره بعد، انتهى.
فإن ثبت هذا الأثر فلعله لما خرج من المدينة النبوية، صحبه العسكر الواصل إلى أصبهان، ودخلها أحد منها إلى المقر الذي يحبس فيه إلى أن يؤذن له في الخروج.
وقد أخرج أحمد في مسنده، بسند حسن، عن أنس [رضي الله عنه] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يخرج الدجال من يهودية أصبهان)).
صفحہ 39
وأخرج الطبراني من حديث عمران بن حصين [رضي الله عنه] رفعه قال: ((يخرج الدجال من قبل أصبهان)).
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب في أمره، ونسأل الله تعالى أن يعيذنا من فتنته، إنه سميع بصير.
صفحہ 40
[السؤال الثاني: عن أحاديث في سنن أبي داود ظاهرها الصحة ولم
يخرجها الشيخان]
فصل: وسألتم رضي الله عنكم عن أحاديث في سنن أبي داود ظاهرها الصحة إلى الغاية، ولم يخرجها الشيخان، وليس شيء يغني عنها، ولا يركن القلب [إلى] أن يكون تركها لأجل الطول.
وأقول في الجواب عن ذلك: إنه لا يلزم من الحديث إذا كان ظاهره الصحة أن يكون في أعلى درجات الصحيح التي قد عرف بالاستقراء أن محط قصد الشيخين تخريج مثل ذلك، وأنه إن وقع عندهما (أو عند أحدهما) ما ظاهره يخالف ذلك، فلكل منهما في كل من ذلك عذر يتعسر أن يجاب عنه بقاعدة كلية، بل يجاب عن كل حديث طردا وعكسا بما يليق به، وسيظهر بعض ذلك عند (الجواب عن) الأحاديث التي ذكرت هنا مثالا، وهي ثلاثة:
الحديث الأول: فيما ذكرتم: قال أبو داود:
صفحہ 41
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد ، عن أيوب، عن عكرمة، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : ((أنه كان إذا أراد من الحائض شيئا، ألقى على فرجها ثوبا)).
صفحہ 42
فأقول: هذا الإسناد، ظاهره الصحة كما قلتم، لكنه ليس على شرط البخاري، من أجل حماد -هو ابن سلمة- وليس هو ابن زيد لأن موسى بن إسماعيل إذا روى عن حماد ولم ينسبه فهو ابن سلمة، وإذا روى عن حماد بن زيد، فإنه ينسبه، كما قدره ابن الصلاح ثم المزي ومن تبعهما.
وحماد بن سلمة لم يخرج له البخاري في الأصول، وإن أخرج له قليلا في المتابعات.
صفحہ 43
بل ومسلم وإن كان أكثر عنه لكنه لا يخرج له في الأصول، إلا عن نفر قليل ممن كان اشتهر بإتقان حديثهم مثل ثابت البناني، وإذا أخرج له عن غيرهم فإنما يخرج له في المتابعات.
ومن ثم يظهر أنه ليس على شرط مسلم [أيضا] لأنه عن أيوب، ومن أجل عكرمة، فإن مسلما لم يخرج له في الأصول شيئا، بل ولا في المتابعات إلا يسيرا.
صفحہ 44