أيها السادة، أعداء الوطن عديدون، ومصائب الوطن عديدة، وبديهي أن ازدياد الأعداء يزيد من واجبات الوطنيين المخلصين لبلادهم، فلا تظهر الوطنية الحقة إلا في أوقات الخطر ولا تعرف الهمم العالية إلا عند المصائب، وغني عن البيان أن الأمة بأسرها كارهة للاحتلال، راغبة في الجلاء والحرية وقد أظهرت هذه الرغبة في ظروف عديدة وجاهرت بها حينا بعد حين، إلا أنها كسائر الأمم في حاجة لأن يرشدها أبناؤها المتعلمون ورجالها الخبيرون، ويسرني كما يسر كل مصري صادق أن الناشئة المصرية عارفة بواجباتها نحو الوطن العزيز، فهم أبناء الوطن وهم رجال المستقبل وبهم تحيا البلاد وبهم تقوم.
ولكن هناك فئة من المصريين لا أنكر إخلاص رجالها للوطن العزيز، ولكن أنكر عليهم اليأس الذي يتظاهرون به في كل وقت وفي كل مكان، فهم ما عملوا ولا يعملون للبلاد عملا نافعا ولكنهم جعلوا اليأس علة عدم العمل وعلة الكسل، فإن سألتهم: لم لا تقومون بعمل عمومي نافع للبلاد؟ أجابوك: نحن يائسون من مستقبل الوطن معتقدون بظلمة الأيام الآتية.
فبالله كيف يستطيع طبيب أن يحكم على عليل بعدم الشفاء قبل أن يفحص داءه ويعطيه الدواء؟! على أننا نرى الكثير من الأطباء لا ييأس أبدا من شفاء المريض حتى في آخر لحظة من حياته، فكيف ييأس رجال من بني مصر من مستقبل البلاد؟ وهم وإن كانوا قد خبروا داء مصر فيعلم الله ويعلم الناس أنهم إلى اليوم ما قدموا لها الدواء، كيف نيأس من المستقبل والمستقبل بيد الله وحده وكثيرا ما تأتي الحوادث بخلاف المنتظر وبغير حساب؟ ألم يكن الكثير من المصريين ومن غير المصريين في يأس من مستقبل الدولة العلية ويعتقدون أنها على مقربة من الموت، فها هي اليوم قد ساعدتها الحوادث التي ساقها الأعداء مؤملين البطش بها، فظهرت بمظهر القوة والحياة، وأصبحتم جميعا فرحين بسلامتها معتقدين حسن مستقبلها.
كيف نيأس من المستقبل وقد أرانا التاريخ أمما حكمها الأجانب قرونا طويلة ثم قامت بعد الذل والاسترقاق مطالبة بحقوقها وأخرجت الأعداء من ديارها واستردت حقوقها وحريتها.
هي النفوس الصغيرة التي يخلق عندها الأمل بكلمة أو بتلغراف، ثم يستولي عليها اليأس بكلمة أو بتلغراف. أما النفوس العالية الكبيرة فيدوم الأمل ما دام الدم في العروق وما دامت الحياة.
وأي حياة ترضاها النفوس الشريفة مع اليأس، أيجمع المرء في جسم واحد الموت والحياة؛ إذ اليأس موت حقيقي وأي موت؟!
كيف نيأس ونحن جميعا عالمون بأن ما يظهر طويلا في حياة الأفراد هو قصير في حياة الشعوب؟ فعشر من السنوات في حياة الإنسان طويلة حقا ولكنها في حياة الأمة قصيرة جدا. على أنه إذا كان اليائسون معتقدين صحة أفكارهم فعار عليهم أن يقوموا في الأمة بوظيفة تثبيط همم الآملين. والآملون في البلاد كثيرون بل الأمة كلها مؤملة خيرا في المستقبل، وإن لم تظهر إلى الآن أعمال الآملين فستظهر بعد قليل وسترى الأمة المصرية وأمم العالم أجمع أن للوطن المصري أبناء مخلصين يقدرون الوطنية قدرها ويعرفون لمصر حقوقها ولا يخافون الاحتلال وقوته بل يجاهدون في سبل خلاص البلاد منه أشد الجهاد وأحسنه. ولا غرو فإن سبيل خدم الوطن عديدة وإن أهمها إعلان الحقيقة في كل بلد وفي كل زمان، فالحرية بنت الحقيقة وما انتشرت الحقيقة في أمة إلا وارتفعت كلمتها وعلا شأنها، فالحقيقة نور ساطع إذا انتشر اختفى الظلم والظلمة وانتشرت الحرية والعدل، فكما أن الأفراد لا تسلب حقوقهم ولا يعتدي اللصوص على أمتعتهم إلا في ظلام الليل الحالك، فكذلك شأن الأمم لا تسلب حقوقها ولا يعتدي العدو على أملاكها إلا إذا كانت الحقيقة مجهولة فيها وكانت هي عائشة في الجهل والظلام.
فيا أيها المصريون المخلصون لمصر، انشروا الحقيقة في أمتكم وفي الأمم الأخرى، قولوا للمصري إنه إنسان من بني الإنسان له حقوق الإنسان تروه رجلا كرجال الأمم الحرة يحمل لواء الوطن بكل قوة وإقدام. قولوا للفلاح المصري إنه خلق إنسانا ككل إنسان وإن الله أعطاه في الحياة حقوق أكبر الأفراد، وإن له صوتا لو رفعه سمع في الملأ الأعلى، وإنه ما خلق لأن يعمل لغيره بل ليعمل لوطنه ولنفسه تروه عندئذ أشد الناس دفاعا عن حقوق الأمة والوطن. قولوا للأمة المصرية إنها أمة كسائر الأمم من أقدس حقوقها أن تحكم نفسها بنفسها وألا تنفذ رغائب غيرها وأن تكون في بلادها عالية الكلمة قوية السلطة لا يرد لها رأي ولا يخالف لها أمر؛ هنالك تجدون الأمة حية والشعب قويا ولا ترون أولئك الذين يهزءون برغبة الشعب ورغبة نوابه ويسخرون من رغائب الأمة ومن مطالبها.
انشروا الحقيقة عن مسألة مصر في كل بلد وفي كل ناد، فليس المصريون وحدهم هم أصحاب الحقوق في مسألة مصر ضد المحتلين، بل معهم أمم كثيرة من أمم أوروبا لها في مصر مصالح توافق مصالحهم ولا توافق مصالح المحتلين، وخير ما يعمل لمصلحة مصر هو أن تنضم الأمم الأوروبية إلى الأمة المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي؛ ففي ذلك الخلاص وفي ذلك السلام.
ولسنا أيها السادة بأنصار دولة دون دولة بل نحن أنصار الوطن المصري وطن الآباء والأجداد وموطن الأبناء والأعقاب، فإن ظهرت دولة من الدول بمظهر المحبة لمصر والميل لمساعدتها كنا أكبر أصدقائها وأعظم أنصارها، فمصلحة وطننا قبل كل مصلحة، وهي هي المصلحة الوطنية التي تفرض علينا أن نشكر من صميم فؤادنا الذين رفضوا من سياسيي أوروبا العمل مع الإنجليز ضد مصر والذين أوقفوا الإنجليز عند حد الاحتلال في البلاد. وهي هي المصلحة الوطنية التي تفرض علينا أن نشكر كل رجل من أي أمة كان يدافع عن حقوق وطننا ويساعدنا على استرداد حريتنا وحقوقنا الشرعية.
نامعلوم صفحہ