فمن تبين هذين الحدين وكان بصيرا سليم العقل طليق الذهن من إسار الوهم حار لا شك في كثرة ما يراه من أهل التعصب على قلة من يمر به من المتساهلين. وعجب وحق له العجب من بني نوعه كيف يداخلهم التعصب فيما يعتقدون وما يرون، وقد عجزت أفهامهم عن إدراك الكثير من أسرار هذا الوجود، وقام لهم في كل حركة وكل سكنة من أفكارهم دليل على امتناع الكمال على الإنسان وكان لهم في تعصب الأولين عبرة لو كانوا يعتبرون!
ألم يروا كيف تعاقبت المذاهب وتوالت الآراء، وتتابعت قضايا العلوم الإنسانية معدودة في عصورها من الحقائق وفيما يلي تلك العصور من الأوهام. ولا أذكر العقائد الدينية متسلسلة من بوذا إلى زرادشت إلى كونفوشيوس إلى سائر دعاة الدين كراهة أن يتوهم في قصدها بالذات، بل حسبي الإشارة إلى تعاقب الوهم والحقيقة والخطأ والصواب في قضايا العلم عبرة للمتعصبين.
ألم يكن القول بسكون هاته الأرض قضية مسلمة، وبدوران الشمس من حولها حقيقة معلومة، وبانقسام البسيطة سبعة أقاليم علما يقينا؟ أولم يكن طب أبقراط إلهاما، وفلسفة أرستطاليس كشفا، وتعبير ابن سيرين حقا؟ فماذا تقول عن الذين تعصبوا لهاته الأوهام على من كان في ريب منها فألزموه الصمت والخسف، وعاملوه بالشدة والعنف؛ حرصا على ما يتوهمون من الحق والحق بريء منهم لو يعلمون؟
ولقد رجعت إلى المحفوظ من أخبار الأمم حتى بلغت الحد الذي يدخل التاريخ منه في ظلمات الريب والخفاء، فما مر بي جيل من الناس، ولا حقبة من الزمان، إلا رأيت من آثار التعصب في الدين والرأي ما ينقبض له الصدر استنكافا، وتثور منه النفس استنكارا، ثم عدت إلى الفطرة الإنسانية لاستكشاف العواطف الطبيعية، فرأيت فيها من السذاجة والسلامة ما ينطبق على حكم التساهل من كل الوجوه، فعلمت أن التعصب على قدم وجوده حادث طارئ على الإنسان، تولد عن مفاسد الرياسة في الجماعات، وتأصل بالعادة والتقليد حتى صار في النفوس من الملكات، يظهر ذلك لمن تدبر قدم التعصب في جنب خروجه عن الطباع، ويعلمه من تأمل أحوال الرياسة في صدور هيئات الاجتماع.
ولعلي أوجزت وأجملت والأمر محتاج إلى الإيضاح والتفصيل، فأقول:
قد اجتمعت آراء المفكرين على أن الرياسة قد حصلت بدأة بدء للمتمولين أو الأقوياء، وفي الحالين لم يأمن الرؤساء على سطوتهم أن تزول بفقد الثروة أو انحطاط القوة، فالتمس النبهاء منهم تأييدها بما لا تؤثر فيه النوازل ولا يضعفه كرور الأيام، فوضعوا للجماعات أحكاما، كل رئيس وما توهم فيه المصلحة أو ما رأى ميل قومه إليه، فرضي كل أناس مشربهم، وقالوا هذا هو الحق الذي لا ريب فيه، وقال غيرهم من الأقوال: بل الحق ما نحن عليه فأنتم في ضلال مبين، فوقعت بينهم الإحن، وشبت أعقابهم على العداوات، حتى قويت روابط الأوهام، فتقطعت صلات الأرحام، فصار من الفضيلة أن يقتل الإنسان أخاه إن خالفه فيما يراه. وامتلأت رءوس الخلق عنادا، فملئوا الأرض فسادا، فعدت المظالم عدلا وسميت المذابح جهادا.
ولا أحاول استيعاب المفاسد والنوائب التي نشأت عن التعصب في الدين والرأي، فذلك تاريخ الحروب والفتن والغارات والمهاجرات من صدر الاجتماع الإنساني إلى الماية السالفة في بلاد الغرب وإلى هذه الأيام في بلاد الشرق. بل الغرب على انتشار العلوم فيه وحصول الحرية لأكثر ساكنيه لم يخل إلى الآن من آثار ذلك الداء العياء.
نعم، لا نرى فيه الآن أفرادا وجماعات من الناس يذوقون ألوان العذاب ثم يقتلون صبرا شهداء ما يعبدون كما وقع لأهل النصرانية في دولة الرومان، ولا نجد ألوفا من السكان المستأمنين يخرجون من أرضهم بالقوة أو تهدر دماؤهم لاستمساكهم بما كان يعبد آباؤهم كما جرى لليهود في إسبانيا، ولا نبصر ديوان عقاب ونقمة يحكم بالتشهير والحرق والتعذيب والموت على من اتهم بالشك في رواية المجاذيب عن بعض النساء عن بعض الأطفال كما كان ديوان التفتيش في كثير من ممالك الإفرنج، ولا نلقى مئات ألوف من نبهاء الخلق الأمناء الصادقين يبيتون في منازلهم ويؤخذون بالسيف تقتيلا لمجرد أنهم يفهمون من آي الكتاب خلاف ما يفهم غيرهم من الناس كما حل بالبروتستانت عام 1572 في بلاد الفرنسيس، ولا نجد أيضا جماعات من الخلق لا يستطيعون النطق بما يعتقدون ولا الظهور بما يعبدون، ولا أفرادا من الجماعة يعاقبون بالسجن أو التبعيد لأنهم يأكلون ألبان حيوانهم، في زوايا أكواخهم، يوم يأكل ساداتهم ألوان الأسماك الشهية، ويشربون معتقة الخمور في غرف القصور.
نعم، لا نرى كل ذلك في الغرب الآن ولا نكاد نبصره في الكثير من أقطاره مأخوذا بما أوضح من رأيه وما أشاع من مذهبه وإن خالف رأي الأكثرين. ولكن هذا التساهل في الهيئات، أرسخ منه في الأفراد إلا الذين تطهروا من أدران التقليد وسلموا من علل الأوهام، وغالبوا الملكات الحاصلة عن العادات وترفعوا إلى مقام السذاجة الأعلى وقليل من هم.
وإلا فما هذا الذي نراه من التحامل على بقايا آل إسرائيل في بلاد الروس والألمان؟ وما ذلك الذي مر بنا من مظاهر الإحن بين الكاثوليك وغيرهم في تلك البلاد؟ وماذا الذي نسمع به الآن من الخلاف والشقاق بين الشيع المتباينة في فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وغيرها من أعرق البلاد في التساهل والحرية؟
نامعلوم صفحہ