هو ذئب كاسر يدخل الحظيرة فيظنه الراعي خروفا وينام مطمئنا وعند مجيء الظلام يثب على النعاج ويخنقها نعجة إثر نعجة، هو نهم يحترم موائد الطعام أكثر من مذابح الهيكل، وطامع يتبع الدينار إلى مغاور الجن ويمتص دماء العباد مثلما تمتص رمال الصحراء قطرات المطر، وبخيل يحرص على أنفاسه ويدخر مالا يحتاجه، هو محتال يدخل من شقوق الجدران ولا يخرج إلا بسقوط البيت، ولص صخري القلب ينتزع الدرهم من الأرملة والفلس من اليتيم، هو مخلوق عجيب له منقار النسر ومقابض النمر وأنياب الضبع وملامس الأفعى، خذوا كتابه ومزقوا ثوبه وانتفوا لحيته وافعلوا به ما شئتم ثم عودوا وضموا الدينار في كفه فيغفر لكم ويبتسم بمحبة، اصفعوا خده وابصقوا بوجهه ودوسوا عنقه ثم أجلسوه على موائدكم فيتناسى ويتهلل ويحل حزامه لينمو جوفه بمآكلكم ومشاربكم، جدفوا على اسم ربه واقذفوا بعقائده واسخروا بإيمانه ثم ابعثوا إليه بجرة من الخمر أو بسلة من الفاكهة فيسامحكم ويبرركم أمام الله والناس، يرى الامرأة فيحول وجهه قائلا بأعلى صوته: «ابتعدي عني يا ابنة بابل.» ثم يهمس بسره قائلا: «الزيجة أفضل من التحرق.» يرى الفتيان والصبايا سائرين في موكب الحب فيرفع عينيه نحو السماء ويهتف قائلا: «باطلة الأباطيل وكل شيء تحت الشمس باطل.» ثم يختلي ويتنهد قائلا: «لتفن الشرائع وتضمحل التقاليد التي أبعدتني عن غبطة الحياة، وأحرمتني ملذات العمر.» يقول للناس مستشهدا: «لا تدينوا لئلا تدانوا.» ولكنه يدين بقساوة جميع الذين يسخرون بمكارهه ويبعث بأرواحهم إلى الجحيم قبل أن يبعدهم الموت عن هذه الحياة، يحدثكم رافعا عينيه بين الآونة والأخرى نحو العلاء أما فكرته فتظل منسابة كالأفعى حول جيوبكم، يناديكم بقوله لكم: «يا أولادي ويا أبنائي.» وهو لا يشعر بالعاطفة الأبوية ولا تبتسم شفتاه لرضيع ولا يحمل طفلا على منكبيه، ويقول لكم هازا رأسه بتخشع: «لنترفعن عن العالميات لأن أعمارنا تضمحل كالضباب وأيامنا تزول كالفيء.»
وإذا نظرتم جيدا رأيتموه متمسكا بأذيال الحياة متشبثا بأهداب العمر، متأسفا على ذهاب الأمس، خائفا من سرعة اليوم، مترقبا مجيء الغد، يطلب منكم الإحسان وهو أوفر منكم مالا فإن أجبتموه يبارككم علنا وإن منعتموه يلعنكم سرا، في الهيكل يوصيكم بالفقراء والمحتاجين وحول منزله يصرخ الجائعون وأمام عينيه تمد أيدي البائسين فلا ينظر ولا يسمع، يبيع صلاته ومن لا يشتري يكون كافرا بالله وأنبيائه محروما من الجنة والنعيم، هذا هو المخلوق الذي يخيفكم أيها المسيحيون، هذا هو الراهب الذي يمتص دماءكم أيها الفقراء، هذا هو الكاهن الذي يرسم إشارة الصليب بيمينه ويقبض على قلوبكم بشماله، هذا هو الأسقف الذي تقيمونه خادما فينقلب سيدا، وتطوبونه قديسا فيصير شيطانا، وترفعونه نائبا فيصبح نيرا ثقيلا، هذا هو الظل الذي يتبع أرواحكم منذ بلوغها هذا العالم حتى رجوعها إلى الأبدية، هذا هو الرجل الذي جاء في هذه الليلة لكي يدينني ويرذلني لأن روحي تمردت على أعداء يسوع الناصري الذي أحبكم ودعاكم إخوة له ثم صلب من أجلكم.»
وتهلل وجه الشاب المكتوف وقد شعر باليقظة الروحية المتمايلة في صدور سامعيه واتضحت له تأثيرات كلامه في وجوه الناظرين إليه فرفع صوته وزاد قائلا: «قد سمعتم أيها الإخوة بأن الشيخ عباس قد أقامه الأمير أمين الشهابي سيدا على هذه القرية، وسمعتم أيضا بأن الأمير قد أقامه المليك حاكما على هذا الجبل، فهل سمعتم أو رأيتم القوة التي أقامت المليك ربا على هذه البلاد؟ أنتم لا ترون تلك القوة متجسدة ولا تسمعونها متكلمة ولكنكم تشعرون بوجودها في أعماق أرواحكم، وتسجدون أمامها مصلين مبتهلين وتنادونها بقولكم: «أبانا الذي في السماوات.» نعم إن أباكم السماوي هو الذي يقيم الملوك والأمراء وهو القادر على كل شيء، ولكن هل تعتقدون بأن أباكم الذي أحبكم وعلمكم سبل الحق بواسطة أنبيائه يريد أن تكونوا مظلومين ومرذولين؟ هل تعتقدون بأن الله الذي ينزل السحاب مطرا، ويستنبت البذور زرعا، وينمي الزهور أثمارا، يريد أن تكونوا جياعا محتقرين لكي يبقى واحد بينكم منتفخا متلذذا؟
هل تعتقدون بأن الروح السرمدي الذي يوحي إليكم محبة الزوجة والرأفة بالبنين والشفقة على القريب يقيم عليكم سيدا قاسيا يظلمكم ويستعبد أيامكم؟ هل تعتقدون بأن النواميس الأزلية التي تحبب إليكم نور الحياة تبعث إليكم بمن يحبب إليكم ظلمة الموت؟ هل تعتقدون بأن الطبيعة قد بعثت القوى في أجسادكم لكي تعود وتخضعها أمام الضعف؟ أنتم لا تعتقدون بهذه الأشياء لأنكم إن فعلتم تكونون كافرين بالعدل الإلهي جاحدين نور الحق الذي يضيء على جميع الناس. إذا أي شيء يجعلكم أن تساعدوا الشرير على نفوسكم؟ ولماذا تخافون مشيئة الله الذي بعثكم أحرارا إلى هذا العالم وتصيرون عبيدا للمتمردين على ناموسه، كيف ترفعون أعينكم نحو الله القوي وتدعونه أبا ثم تحنون رقابكم أمام الإنسان الضعيف وتدعونه سيدا؟ كيف يرضى أبناء الله أن يكونوا عبيدا للبشر؟ أما دعاكم يسوع إخوة فكيف يدعوكم الشيخ عباس خدما؟ أما جعلكم يسوع أحرارا بالروح والحق فكيف يجعلكم الأمير عبيدا للحيف والفساد؟ أما رفع يسوع رؤوسكم نحو السماء فكيف تخفضونها إلى التراب؟ أما سكب يسوع النور في قلوبكم فكيف تغمرونها بالظلام؟
إن الله قد بعث أرواحكم في هذه الحياة كشعلات مضيئة تنمو بالمعرفة وتزيد جمالا باستطلاعها خفايا الأيام والليالي فكيف تلحقونها بالرماد لتبيد وتنطفيء، إن الله قد وهب نفوسكم أجنحة لتطير بها سابحة في فضاء الحب والحرية فلماذا تجزونها بأيديكم وتدبون كالحشرات على أديم الأرض، إن الله قد وضع في قلوبكم بذور السعادة فكيف تنتزعونها وتطرحونها على الصخر لتلتقطها الغربان وتذريها الأرياح، إن الله قد رزقكم البنين والبنات لكي تدربوهم على سبل الحق وتملأوا صدورهم بأغاني الكيان وتتركوا لهم غبطة الحياة إرثا ثمينا فكيف تهجعون وتخلفونهم أمواتا بين أيدي الدهر، غرباء في أرض مولدهم، تعساء أمام وجه الشمس؟ أوليس الوالد الذي يترك ابنه الحر عبدا يكون كالوالد الذي يسأله ابنه خبزا فيعطيه حجرا؟ أما رأيتم عصافير الحقل تدرب فراخها على الطيران فكيف تعلمون صغاركم جر القيود والسلاسل؟ أما رأيتم زهور الأودية تستودع بذورها حرارة الشمس فكيف تسلمون أطفالكم إلى الظلمة الباردة.»
وسكت خليل هنيهة كأن أفكاره وعواطفه قد نمت واتسعت فلم تعد ترتدي الألفاظ ثوبا ثم قال بصوت منخفض: «إن الكلام الذي سمعتموه مني في هذه الليلة هو الكلام الذي طردني الرهبان من أجله، والروح التي شعرتم بتموجاتها في قلوبكم هي الروح التي أوقفتني مكتوفا أمامكم، فإن وثب علي سيد حقولكم وكاهن كنيستكم وصرعاني أموت سعيدا فرحا لأني بإظهاري لكم حقيقة ما يحسبه الظالمون جرما هائلا قد تممت مشيئة بارئي وباريكم.»
كان خليل يتكلم وفي صوته الجهوري نغمة سحرية تضطرب لها قلوب الرجال الناظرين إليه بإعجاب يشابه استغراب الأعمى إذا ما أبصر فجأة وتهتز لحلاوتها نفوس النساء المحدقات به بأعين طافحة بالدموع، أما الشيخ عباس والخوري إلياس فكانا يرتجفان غضبا ويتلويان كالمطروحين على وسائد من الأشواك، وقد حاول كل منهما أن يوقف الشاب عن الكلام فلم يستطع لأنه كان يخاطب الجمع بقوة علوية تشابه العاصفة بعزمها والنسيم برقتها.
ولما انتهى خليل من كلامه وقد تراجع قليلا إلى الوراء ووقف بجانب راحيل ومريم حدث سكوت عميق كأن روحه المرفرفة في جوانب تلك القاعة الوسيعة قد حولت بصائر القرويين نحو مكان قصي وانتزعت الفكر والإرادة من نفسي الشيخ والكاهن وأوقفتهما مرتعشين أمام أشباح ضميريهما المزعجة.
حينئذ وقف الشيخ عباس وقد تقلصت ملامحه واصفر وجهه وانتهر الرجال الواقفين حوله قائلا بصوت مخنوق: «ما أصابكم أيها الكلاب؟ هل تسممت قلوبكم وجمدت الحياة في داخل أجسادكم فلم تعودوا قادرين على تمزيق هذا الكافر المهزار؟ هل اكتنفت روح هذا الشيطان أرواحكم وكبلت بسحره الجهنمي سواعدكم فلم تستطيعوا إبادته؟»
قال هذه الكلمات وامتشق سيفا كان بجانبه وهجم على الفتى المكتوف ليوقع به فتقدم رجل قوي البنية من بين الشعب واعترضه قائلا بهدوء: «أغمد سيفك يا سيدي لأن من يأخذ بالسيف، بالسيف يهلك.»
نامعلوم صفحہ