الشريعة، وما هي الشريعة؟ من رآها نازلة مع نور الشمس من أعماق السماء؟ وأي بشري رأى قلب الله فعلم مشيئته في البشر، وفي أي جيل من الأجيال سار الملائكة بين الناس قائلين: «احرموا الضعفاء نور الحياة، وأفنوا الساقطين بحد السيف، ودوسوا الخطأة بأقدام من حديد.»
وظلت هذه الأفكار تتزاحم على فكرتي وتتساهم عواطفي حتى سمعت وطء أقدام قريبة مني، فنظرت وإذا بصبية قد ظهرت من بين الأشجار، واقتربت من الجثث الثلاث متحذرة متلفتة بخوف إلى كل ناحية، حتى إذا ما رأت رأس الفتى المقطوع صرخت جزعا، وركعت بجانبه وطوقته بزنديها المرتجفتين، وأخذت تستفرغ الدموع من عينيها، وتلامس شعره الجعدي بأطراف أصابعها، وتنتحب بصوت عميق جارح خارج من صميم الكبد، ولما أنهكها البكاء وغلبتها الحسرات، أسرعت تحفر التراب بيديها حتى إذا ما حفرت قبرا وسيعا، وجرت إليه الفتى المصروع، ومددته على مهل موجع، ووضعت رأسه المضرج بالدماء بين كتفيه وبعد أن غمرته بالتراب غرست نصل السيف الذي قطع عنقه على قبره، وإذ همت بالانصراف تقدمت نحوها، فأجفلت وارتعشت خوفا ثم أطرقت والدمع السخين يتساقط كالمطر من مقلتيها وقالت متنهدة: «اشكني إلى الأمير إن شئت فخير لي أن أموت وألحق بمن خلصني من قبضة العار من أن أترك جسده طعاما لقشاعم الطير والوحوش الكواسر.» فأجبتها قائلا: «لا تخافي مني أيتها المسكينة. فأنا قد ندبت حظ فتاك قبلك بل خبريني كيف أنقذك من قبضة العار.»
فقالت والغصص تقطع صوتها: «جاء قائد الأمير إلى حقولنا ليتقاضى الضرائب ويجمع الجزية ولما رآني نظر إلي نظرة استحسان مخيفة ثم فرض ضريبة باهظة على حقل والدي الفقير يعجز الغني عن دفعها فقبض علي ليقتادني قهرا إلى صرح الأمير بدلا من الذهب فاسترحمته بدموعي فلم يحفل واستحلفته بشيخوخة والدي فلم يرحم فصرخت مستغيثة برجال القرية فجاء هذا الشاب وهو خطيبي وخلصني من بين يديه القاسيتين فاستشاط غضبا وهم أن يفتك به فسبقه الشاب وامتشق سيفا قديما معلقا على الحائط وصرعه به مدافعا عن حياته وعن عرضي، ولكبر نفسه لم يفر هاربا كالقتلة المجرمين بل لبث واقفا بقرب جثة القائد الظلوم حتى جاء الجند وساقوه إلى السجن مكبلا بالقيود.»
قالت هذا ونظرت إلي نظرة تذيب الفؤاد وتثير الشجون وولت مسرعة ورنات صواتها الموجعة تولد بين تموجات الأثير اهتزازا وارتعاشا.
وبعد هنيهة نظرت فرأيت فتى في ربيع العمر يتقدم ساترا وجهه بأثوابه حتى إذا ما بلغ جثة المرأة الزانية وقف بقربها وخلع عباءته وستر بها أعضاءها العارية وأخذ يحفر الأرض بخنجر كان معه ثم حملها بهدوء وواراها التراب ساكبا مع كل حفنة قطرة من أجفانه. ولما انتهى من عمله جنى بعض الزهور النابتة هناك ووضعها على القبر منحني الرأس منخفض الطرف. وإذا هم بالذهاب أوقفته قائلا: «ما نسبة هذه المرأة الساقطة إليك حتى سعيت مخالفا إرادة الأمير ومخاطرا بحياتك لكي تحمي جسدها المرضوض من طيور السماء الجوارح؟»
فنظر إلي وأجفانه المقرحة من البكاء والسهر تتكلم عن شدة حزنه ولوعته وبصوت مخنوق ترافقه التنهيدات الأليمة قال: «أنا هو ذلك الرجل التعس الذي رجمت من أجله، أحببتها وأحبتني مذ كنا صغيرين نلعب بين المنازل. نمونا ونما الحب معنا حتى صار سيدا قويا نخدمه بعواطف قلبينا فيستميلنا إليه ونهابه بسرائر روحينا فيضمنا إلى صدره. ففي يوم وقد كنت غائبا عن المدينة زوجها والدها كرها من رجل تكرهه ولما رجعت وسمعت بالخبر تحولت أيامي إلى ليل طويل حالك وصارت حياتي نزاعا مرا متواصلا. وبقيت أصارع عواطفي وأغالب ميول نفسي حتى تغلبت علي وقادتني مثلما يقود البصير ضريرا أعمى. فذهبت إلى حبيبتى سرا وأقصى مرامي أن أرى نور عينيها وأسمع نغمة صوتها فوجدتها منفردة تندب حظها وترثي أيامها فجلست والسكينة حديثنا والعفاف ثالثنا، ولم تمر ساعة حتى دخل زوجها فجأة ولما رآني أوعزت إليه نياته القذرة فقبض على عنقها الأملس بكفيه القاسيتين وصرخ بأعلى صوته «تعالوا وانظروا الزانية وعشيقها» فهرول الجيران ثم جاء الجند مستطلعين الخبر فأسلمها إلى أيديهم الخشنة فاقتادوها محلولة الشعر ممزقة الأثواب. أما أنا فلم يمسني أحد بضرر لأن الشريعة العمياء والتقاليد الفاسدة تعاقب المرأة إذا سقطت، أما الرجل فتسامحه.»
وعاد الشاب نحو المدينة ساترا وجهه بأثوابه ولبثت أنا ناظرا متأملا متنهدا وجثة اللص المشنوق ترتجف قليلا كلما هز الهواء أغصان الشجرة كأنها تسترحم بحراكها أرواح الفضاء لتهبط وتمددها على صدر الأرض بجانب قتيل المروءة وشهيدة الحب.
وبعد ساعة ظهرت امرأة ضعيفة الجسم ترتدي خرقا بالية ووقفت بقرب المشنوق تقرع صدرها باكية ثم تسلقت الشجرة وقضمت حبل الكتان بأسنانها فسقط الميت على الأرض سقوط الثوب البليل. فنزلت المرأة وحفرت قبرا بجانب القبرين ووضعته فيه: وبعد أن غمرته بالتراب أخذت قطعتين من الخشب وصنعت منهما صليبا وغرسته فوق رأسه. ولما تحولت نحو الوجهة التي جاءت منها أوقفتها قائلا: «ما غرك أيتها المرأة فجئت تدفنين لصا سارقا؟»
فنظرت إلي بعينين غارقتين مكحولتين بأشباح الكآبة والشقاء وقالت: «هو زوجي الصالح ورفيقي الحنون ووالد أطفالي. خمسة أطفال يتضورون جوعا أكبرهم في الثامنة وأصغرهم رضيع لم يفطم ... لم يكن زوجى لصا بل كان زارعا يفلح أرض الدير ويستغلها ولا يحصل من الرهبان إلا على رغيف نتقاسمه عند المساء ولا تبقى منه لقمة إلى الصباح ... مذ كان فتى وهو يسقي بعرق جبينه حقول الدير ويزرع عزم ساعديه في بساتينه. ولما ضعف وانتهبت أعوام العمل قواه وراودت الأمراض جسده أبعدوه قائلين: «لم يعد الدير محتاجا إليك فاذهب الآن وعندما يشب أبناؤك ابعثهم إلينا لكي يأخذوا مكانك في الحقل» فبكى وأبكاني واسترحمهم باسم يسوع واستحلفهم بالملائكة والقديسين فلم يرحموه ولم يشفقوا عليه وعلي وعلى صغارنا العراة الجائعين. فذهب يطلب عملا في المدينة وعاد مطرودا لأن سكان تلك القصور لا يستخدمون إلا الفتيان الأقوياء. ثم جلس على قارعة الطريق مستعطيا فلم يحسن الناس إليه بل كانوا يمرون به قائلين: «الصدقة لا تجوز على مغلوب التواني والكسل» ففي ليلة وقد برح العوز بنا حتى صار أطفالنا يتلوون جوعا على التراب. والرضيع بينهم يمص ثديي ولا يجد لبنا. تغيرت ملامح زوجي وذهب مستترا بالظلام ودخل قبوا من أقبية الدير حيث يخزن الرهبان غلة الحقول وخمر الكروم وحمل زنبيلا من الدقيق على ظهره وهم بالرجوع إلينا. لكنه لم يسر بضع خطوات حتى استيقظ القسس من رقادهم وقبضوا عليه وأوسعوه ضربا وشتما وعندما جاء الصباح أسلموه إلى الجند قائلين: «هو لص شرير جاء لكي يسرق آنية الدير الذهبية» فاقتاده الجند إلى السجن ثم إلى المشنقة ليملأوا أجواف العقبان من جسده لأنه حاول أن يملأ أجواف صغاره الجياع من فضلات الغلة التي جناها بأتعابه إذ كان خادما للدير.»
وذهبت المرأة الفقيرة ولكلامها المتقطع أشباح محزنة تتصاعد وتتسارع إلى كل ناحية كأنها أعمدة من الدخان يتلاعب بها الهواء. •••
نامعلوم صفحہ