هل حان وقت تجاور الأرواح؟ هل يمكن لجزء من روحه مجاورة نصف روحي؟ هل سيقبل نصف حياة؟ هل سأسامحه في نصفه الآخر؟ كانت الأسئلة تفيض وتنحسر، وهو دائما يقف كتمثال ديفيد، لم تكن تفاصيله بكمال التمثال، أضاف أنجلو ملامحه لكنه لم يمسس روحه، لم يبدأه من قطعة حجر، بل كانت البداية من تمثال لم يكتمل، حمل روح عبد الله، ليرفع أنجلو بنيانه، ويخلد ديفيد، ويقدس روح عبد الله.
آن الأوان، أن أقبل زيارته، ديفيد، الواقف بثقة، عاريا، يمد يده ... لي؛ ليصطفي قلبي لجواره، آن الأوان للذهاب، لم أعد أهاب رفقته، قررت الذهاب إليه، بلا موعد.
يد ديفيد
ذرات الغبار العالقة بخيوط النور المنسدلة من باب الشرفة، تصنع خطا مائلا، يبدأ بموضع قدمي وينتهي بكسر صغير أعلى الباب، لسعة صغيرة بقدمي، تعلن موعد الصلاة؛ فخرجت للشرفة، أصلي للبحر، ومن خلفي تصدح ابتهالات ديبوسي، أسقطت ملابسي عني وأنا عائدة لحجرة جدتي حيث أقيم، التقطت فستانا يشبهني، يشبهه أيضا، حذائي الخفيف بيدي، ونزلت السلم فراشة حافية بالكاد تلمس أطرافها سلمات تفصلها عن الطريق، وانتعلت حذائي عند رصيف الوصول.
تركت نسمات البحر تملأ مسام جلدي؛ فأنا الآن على سفر، سائق الأجرة العجوز سألني: «محطة مصر؟» ابتسمت له مؤكدة حدسه، نعم، مصر، حين نزلت لم يقل لي تصحبك السلامة، بل قال تعودين سالمة، أومأت برأسي، وابتسمت شاكرة، تذكرة للقاهرة، وجلسة بجوار النافذة، وقطار المحافظات يقف كلما لمح حائرا بالطريق، قطار الحائرين ينهي رحلته بمحطة مصر، بالقاهرة، وينطلق الحائرون بالعاصمة، لم أكن منهم؛ فقد أنهى البحر حيرتي.
عجوز آخر يقلني لجامع أحمد بن طولون، كادت أنفاسي المتسارعة تحملني لقمة تلك المئذنة الملتفة الصاعدة، راجعت عنوانه، اقتربت من بيت قديم، تطل منه رائحته، رجل ضئيل الحجم يسألني عما أريد، وحين نطقت اسمه، صاح بصوته لأعلى، وأطل وجه عبد الله من سطح البيت، كما هو، يهبط الدرج حافيا، بنطاله الترابي اللون، قميصه الكتاني المفتوح الصدر، مد يده يلتقط يدي، لم يحافظ على مسافة ذراعه بيننا، بل جذبني خلفه، دفعني أمامه، حتى وصلنا لمشغله، لم تكن غرفة بسطح المبنى، بل مبنى صغيرا بسطح المبنى، الموسيقى والفوضى، ثنائي المكان الواضح.
تفضلت كما طلب، عبارات قصيرة، أراقبه بصمتي الكامن، ويراقبني بقلق تلميذ في اختبار مدرسي، ربما لم يكن يعرف الأجوبة، فقرر التحايل ببعض النبيذ، دعاني للبعض منه، لم أشرب من قبل، ولم أرفض يده الممدودة بكأس النبيذ المصنوع منزليا بجنوب أفريقيا، أظهرت بعض الاهتمام، كنت سأظهره لو كان مصنوعا بحي الجمرك بالإسكندرية أيضا، بللت شفتي كما طلب مني، وكأنني ركبت قاطرته، أو ارتديت ملابسه؛ فقد تمدد وجهه، عاد طفلا عبوسا، المحتال الجميل، سألني لم أتيت، وأجبته لأرى لوحاته الزفت، أشار للوحة فوق السرير، دوامة سوداء تبتلع كل شيء، الألوان بدت مستغيثة، والدوامة تسحقها بقوة شفط، وددت لو عرفت كيف تخرج الألوان من الجهة الأخرى، بوابة زمنية تحيي وتميت، ألوانا، وأكوانا، وأزمنة.
سألته كيف تتخلص تلك الألوان من الدوامة السوداء؟ فأجاب بأن تتعرى من نفسها، بدا خبثه الذكوري في رده، لم يعرفني بعد، سألني إن كنت أخجل من العري؟ أعادني لنفسي، أجبته بأن من يتخفون خلف ملابسهم هم من يخجلون مني، ربما فاجأه ردي؛ فأراد نفي تهمة الخجل عنه، قام خالعا ملابسه، وسألني السير على سور السطح، خرج عاريا، وأنا خلفه فلم تكن ملابسي ما تخفيني، ولا قلتها ما يخيفني، انتظرت حتى صعد السور ليمد لي يده، ديفيد، يمد يده، لي أنا.
صعدت، أحاطني، رداء حراري يحيطني، يجعلني أكثر اتزانا، وأنا أسير على السور الحجري، بين يدي ديفيد، ليخيرني بين السقوط خارج السطح وداخله؛ فاجأته باختياري المئذنة، ربما لم يكن ينتظر ردي؛ فقد حملني وقفز بي داخل السطح، يجذبني للداخل مرة أخرى، لميلاد آخر، وبعث آخر، وخلود آخر، كان صمتي صلاة وأنا أرتحل معه عارية، حرة، لم تعد ملابسي تحد فطرتي، لم أشعر بأقل من الحياة، ولن أقبل بأقل منها. - هيا لنرسم. - أنا لا أجيد الرسم، مجرد ...
قاطعني: «لن نستخدم فرشاة.» قبل أن أفهم كانت الألوان المخلوطة بالنفط تغطي جسدي، خلطها، أذابها، وأذابني بين أطيافها، جذبني للأرض فوق ملاءة السرير التي جذبها قبلي.
نامعلوم صفحہ