لا يمكن الإجابة بالنفي عن هذا السؤال، ولا بالإيجاب أيضا؛ لأن هناك عددا من الشركات الداعمة للمدونات لا تزال تعمل؛ مثل: «بلوجر»، أو «وورد برس»، أو «تمبلر»؛ وإن كان المحتوى نفسه وطريقة التعاطي معه وتأثيره قد تغيرت كثيرا. وربما لو عدنا إلى البدايات وتتبعنا مسار الأحداث، لأمكننا أن نستنتج بسهولة ما حدث.
عرف العالم المدونات في بدايات العقد الماضي، مع الحرب على العراق تحديدا؛ إذ استغلها صحافيون أجانب لنشر حقائق ما يدور، وبدأت بعد ذلك في الانتشار عربيا على أنقاض المجموعات البريدية والمنتديات (التي أصدرت «ياهو» أخيرا قرارا بإغلاق بعضها أيضا)، بل يمكن أن نقول إن هجرة كبيرة حدثت من المنتديات إلى المدونات حيث خصوصية أكثر، ومساحة أكبر للبوح، بعيدا عن رقابة المشرف على المنتدى.
كانت المدونات بمنزلة النافذة التي فتحت على البراح باب الحرية الأول، الذي يتيح لأي شخص أن يقول ما يشاء بعيدا عن الوجبات سابقة التجهيز التي تقدم في الإعلام الرسمي، أو الرقابة المفروضة على كل وسائل الإعلام. وربما لهذا السبب برزت المدونات السياسية في البداية، والتي لعبت دورا محوريا في الحراك السياسي الذي شهدته مصر خلال عام 2005. كان المدونون ينزلون الشارع، يصورون، يكتبون، يرصدون ما حدث، ثم يعودون ويرفعون ما صوروه وكتبوه على مدوناتهم؛ وهو الأمر الذي جلب لعدد منهم العديد من الجوائز؛ فانتشرت تسمية «الصحافة الشعبية» على ما يقدم.
إذا كانت المدونات قد ركزت في البداية على السياسة، وكانت تكتب باللغتين العربية والإنجليزية، مع غلبة الأخيرة، فإنها مع انتشارها بدأت تعود إلى معناها الحقيقي، وهي فكرة «التدوين»؛ أي أن يدون المرء يومياته وتفاصيل حياته، ثم انتشرت المدونات الثقافية، والفنية، وتنوعت وازدهرت بشكل مبهر، وكانت هي المتنفس الحقيقي لآلاف الشباب للتعبير عن آرائهم، قبل ظهور المواقع الإلكترونية المصرية، وخاصية التعليق على الأخبار، وبالطبع مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى.
كانت المدونات هي بداية فكرة «التشبيك» الحقيقية التي ازدهرت فيما بعد في فيس بوك وتويتر؛ حيث يتلقى المدون التعليقات على ما كتبه من مدونين آخرين، يبادلهم التعليق على ما كتبوه، وشيئا فشيئا تكون مجتمع المدونين، وهو ما برز - على سبيل المثال - في الحفل الذي أقاموه في نقابة الصحافيين المصريين منتصف عام 2006، تحت عنوان «غني يا بهية»، والذي غطته وسائل إعلام مصرية وأجنبية، وهو ما تكرر فيما بعد، وهذه القوة الإعلامية هي التي جعلتهم في المقابل يطالبون بحقوق الملكية الفكرية لمدوناتهم التي تتعرض للسرقة من بعض الصحف.
كان ذلك العام هو ذروة مجد المدونين؛ إذ أنشأت بعض الصحف صفحات خاصة - أول من فعل ذلك كانت صحيفة «الدستور» في إصدارها الثاني - لنشر التدوينات، واستكتبت بعضهم، واجتذبت دور النشر المدونات، حتى إن دار نشر عريقة مثل «الشروق» قررت أن تصدر كتبا للتدوينات، لعل أبرزها كتاب «عايزة أتجوز» الذي كان نشر في مدونة بالاسم نفسه؛ وهو الذي تحول إلى مسلسل درامي فيما بعد، كما جمعت الروائية «نهى محمود» تدوينات من مدونتها «كراكيب» في كتاب حمل الاسم نفسه، وأصدرت دار العين كتاب «عندما أسمع كلمة مدونة أتحسس مسدسي»، والذي جمع فيه الروائي «محمد كمال حسن» عددا من أبرز التدوينات الثقافية في ذلك الوقت، لمدونين تحولوا إلى نجوم في مجالاتهم الآن، بل إن عددا من دور النشر نشأت خصوصا في ذلك الوقت لنشر ما يكتب على المدونات، وتحويل «المدونين» إلى كتاب.
هذا الصراع بين صورة «المدون» على الإنترنت، وصورة «مؤلف الكتاب» أدى بالتبعية إلى انتصار «الصورة التقليدية»، وهرولة عدد من المدونين إلى إصدار «مدوناتهم» في كتب؛ وهو ما جعل الغث يختلط بالسمين، وباعد أيضا بينهم وبين مدوناتهم.
شعر المدونون بثقلهم النسبي، وتحولوا إلى نجوم على الفضائيات، وكتاب أعمدة في الصحف، وساهمت المدونات في تحققهم وانتشارهم، فتغيرت من ثم نظرتهم إلى مدوناتهم؛ لأن ثمة فارقا بين أن تكتب وأنت تعتقد أن لا أحد يراقبك ويعرفك وتعرفه وينتظر منك شيئا، وبين أن تكتب وتبوح بما داخلك لأنك تفعل ذلك، ويمكن اعتبار أن هذه الأسباب كانت بداية نهاية العصر الذهبي للتدوين.
في عام 2007، بدأ انتشار التدوين المصغر في «فيس بوك»، ثم «تويتر»، وهو ما وجد فيه عدد ممن لجئوا للتدوين لمجرد التواصل فقط، الفرصة لأن يهاجروا إلى كوكب أوسع وأشمل وأكثر «اجتماعية»، كما أن مشاهير التدوين اتجهوا أيضا إلى هناك؛ بحثا عن عدد أكبر من «المتابعين» على تويتر، أو «مجتمع مغلق قليلا» في فيس بوك، وتحول التعريف على شاشات الفضائيات من «مدون» إلى «ناشط على وسائل التواصل الاجتماعي».
خفت بريق التدوين قليلا مع الوقت، ربما لرحيل نجومه عنه، أو من جعلهم التدوين نجوما، خاصة مع التأثير الكبير الذي أحدثه «تويتر» و«فيس بوك» إبان ثورة 25 يناير 2011، لكن مع ذلك يدرك من يتابعون المدونات أن هذا العالم لم ينته، ولن ينتهي.
نامعلوم صفحہ