لكن رغم ذلك يجب علينا ألا نخلط الأوراق فيما يخص القارئ، فإذا سلمنا بضرورة وجود المتلقي في المعادلة، ففي هذه الحالة علينا أن ندرك ما الذي سنقدمه له، وهنا الفارق الحقيقي بين الكاتب النخبوي المبتعد في عليائه، وبين الكاتب النخبوي الذي يسعى إلى تغيير ذائقة القارئ، وفتح مجال جديد للتلقي، وسحب القارئ معه إلى فضاء أرحب وأوسع، وهذا هو ما يقصده فلاديمير نابوكوف بقوله: «إن كان القارئ - على أية حال - يخلو من العاطفة والصبر؛ صبر العالم وشغف الفنان، فمن الصعب عليه أن يستمتع بقراءة الأدب العظيم.»
يقول ساراماغو في حوار معه نشرته «باريس ريفيو» إن «المواضيع المفرطة بالجدية بطبيعتها لا تجذب القارئ، وإنه لأمر محير أنني أحظى بمراجعات ممتازة من الولايات المتحدة.» إذن ربما يستسيغ البعض الكتابة السهلة التي يمكن ببساطة بيعها، لكن الأصعب بالفعل هو أن تجبر القارئ على شراء كتاب لم يتعود على قراءته.
هذا المقال ليس دفاعا عن ظاهرة البيست سيلر، فكثير من الكتب التي توضع تحت هذا التصنيف رديئة وتقع في الاستسهال، وبعضها يصبح هكذا لأنه يتم التسويق جيدا لها ، لكن هذا ليس مبررا لاستباق نجاح أي عمل ناجح باتهامه بالسقوط في الشعبوية؛ فالشعبوية ليست عدو الجودة، كما أن الجودة ليست نقيض الانتشار، وفي ظني أن ثالوثا مقدسا يدير أية عملية إبداعية بأكملها: «العمل الفني، والمبدع، والمتلقي» كل واحد منهم يقوم بدور تحفيزي للآخر؛ لا نستطيع أن نسقط أحد هذه الأضلاع الثلاثة من المعادلة ونقول إنها كاملة. الكاتب يحتاج إلى أن يرى عمله في كتاب/فيلم/أغنية/رقصة/موسيقى؛ لكي يستطيع أن يقدم عملا آخر، بل إن وجود القارئ هو أحد أسباب استمرار وتطور العملية الإبداعية؛ إذ يقوم بعمل المحفز والمقوم طوال الوقت، فمن دون نصوص سابقة، لم يكن من الممكن أن نرى نصوصا أكثر تطورا، لتستمر تروس الآلة الإبداعية في الدوران والتجديد.
عزيزي الكاتب ... كلنا قراء.
الصورة التقليدية للشاعر
في عام 1880 قرر الشاعر الفرنسي آرثر رامبو (20 أكتوبر 1854-10 نوفمبر 1891) الاتجاه إلى الشرق متنقلا ما بين الإسكندرية والحبشة وعدن، مستغلا ما تبقى له من عمر في فعل ما لا يتخيل البعض أن شاعرا يستطيع فعله.
عمل «رامبو» في تجارة السلاح وتجارة العبيد في إثيوبيا، في التهريب وقطع الطرق في السويس، كاتبا في شركة للبن، شيالا في البندقية، عاملا مفتول العضلات على متن سفينة سكر إنجليزية، مغامرا في أفريقيا ... حتى داهمه في عدن ورم في ساقه، فاضطر للعودة إلى فرنسا في مايو عام 1891، لتبتر ساقه، ثم انتشر السرطان في جسمه حتى مات. «رامبو» الذي أسماه الشاعر بول فرلين «الرجل الذي انتعل الريح» أشهر من قرر أن يحطم الصورة التقليدية للشاعر، الصورة المحفوظة في الذاكرة الجمعية، ومع ذلك استطاع أن يكون شاعرا مجيدا.
إذا كنت شاعرا، فلا بد أنك تعرف هذه الصورة التقليدية للشاعر، لا بد أنك قابلت - ذات يوم - شخصا يقول لك إنه كان يكتب الشعر «أيام الثانوية» وتوقف، أو أن لديه «كراريس وكشاكيل» ممتلئة بمثل هذا الكلام. وإذا اشتركت في الملتقيات الجامعية الشعرية، فلا بد أنك قابلت عشرات الأشخاص الذين يكتبون الشعر - أو يظنون أنفسهم كذلك - وإذا مررت من أمام محطة مترو جمال عبد الناصر بالإسعاف بالقاهرة، فلا بد أنك تعثرت مرة في شخص يسأل عن طريقة تسجيل قصائده أو أغانيه في الشهر العقاري «حتى لا يسرقها أحد».
كل ما مضى مشاهد محفوظة يعرفها معظم الشعراء، ويدركون معها أن الجميع كانوا شعراء في يوم ما ثم أنقذهم الله. كما تكشف هذه المشاهد عن النظرة الشعبية التقليدية ل «الشاعر» التي تبدأ من صورة أمير الشعراء «أحمد شوقي» الشهيرة وهو يسند وجنته إلى يده، ولا تنتهي عند السؤال الغريب: «طيب إنت بتكتب عن إيه؟» أو «سمعنا حتة حب!» وهي الصورة التي نراها دائما في الأفلام المصرية عندما يكون بطل الفيلم شاعرا، فيكتب قصائد على طريقة اللمبي «الشوق الشوق، الحب الحب، الحضن الحضن»، على حد تعبيره!
لكن هذا لا يمنع أيضا وجود شعراء يؤمنون بالصورة التقليدية للشاعر، الذي يجب أن يجلس في أحد مقاهي وسط البلد، ويدخن النارجيلة ويلعب النرد. ويبدو الأمر بالنسبة إلى البعض الآخر «وجاهة اجتماعية» ليس أكثر، مثلما في بعض المجتمعات القبلية التي لا بد أن يكون كبيرها شاعرا، وبعض الطرق الصوفية أيضا؛ لأن هذا هو المتوارث عن أجيال سابقة.
نامعلوم صفحہ