حسنا؛ أنا أيضا غاضب مثل آلان. لم أبلغ عمره، ولم أقدم ما قدم، لكني لا أستطيع أن أمنع نفسي من الغضب؛ لأنني لم أقدم إجابة لأي سؤال بحثت عنه. أعتقد أن هذا أيضا هو حال كل من قرر أن يختار الكتابة طريقا له، أن يجد إجابة لأسئلة نمت في نفسه صغيرا، فلم يجد طريقة للإجابة عنها سوى أن يكتب، لكنه رغم ذلك يفشل في الوصول إلى تلك الإجابة «النموذجية»؛ ربما لأنه لو توصل إليها فسيتوقف عن الكتابة، ربما لأن هذه الإجابة هي سر الكون، سر الوجود الإنساني ذاته.
مشكلة الأسئلة الكبيرة أنها ستظل كبيرة، تتنقل مع القصيدة من كونها قصيدة عامة، قصيدة كونية، إلى القصيدة المغرقة في الذاتية. الأسئلة الكبيرة نفسها، الموت الذي يطارد ملايين اللاجئين في قصيدة سياسية هو نفسه الموت الذي يطارد شابا منغلقا على ذاته في حجرة في حي فقير. الأمر لا يتعلق برفاهية الإجابة عن السؤال، بل بالقدرة عليه؛ فلا رفاهية هنا في البحث عن إجابة، بل هو قدر محتم، محتم تماما كأنه الموت، كأنه الأسئلة الكبيرة التي بلا جواب.
يقولون إن مهمة الفن هي طرح الأسئلة. لكن «الفنان» رغم ذلك يظل يتعذب بتلك الأسئلة التي لا يعرف الإجابة عنها، من كتاب إلى آخر، ينقلها إلى القارئ، كأنه يلقي هما بعيدا عنه في وجه من يحملقون في وجهه، وهذا جزء من دور الفن الذي لخصه قول الشاعر الأمريكي روبرت فروست: «إذا لم يذرف الكاتب الدموع فلن يذرفها القارئ، وإذا لم يتفاجأ الكاتب فإن القارئ لن يتفاجأ.» بل ربما كانت هذه الأسئلة هي التي تمنح «الفن» قيمته.
السؤال الأكبر - وربما الأخير - هو «جدوى الفن». وعلى الرغم من قدم السؤال، فإنه يبدو الآن ملحا بشدة في ظل تغيرات سياسية واجتماعية شديدة الدراماتيكية، فماذا يفعل الشعر للأطفال في الحرب؟ كيف ستعوض الرواية الأرامل والسبايا في مناطق الصراع؟ ماذا ستقدم السينما للفقراء النائمين على الرصيف؟ وإذا رأيت أن هذه الأسئلة تبدو شديدة التشاؤم أو السطحية أو الجدلية، فإن أندريه تاركوفسكي يجيبك في كتابه «النحت في الزمن» بأنه قبل الذهاب إلى المعضلات الخاصة بطبيعة الفن: «من المهم تحديد فهم الهدف الجوهري للفن في حد ذاته. لماذا يوجد الفن؟ من يحتاجه؟ وهل يحتاجه أحد بالفعل؟ هذه أسئلة لا يطرحها الشاعر فحسب، بل أيضا أي فرد يقدر الفن ويدرك قيمته، وحتى المستهلك، وفق التعبير الشائع الدال على العلاقة المعاصرة بين الفن وجمهوره.» ويستدل تاركوفسكي على هذا بقول الشاعر ألكسندر بلوك: «الشاعر يخلق التناغم من حالة الفوضى.» وبأن «بوشكين» آمن بأن الشاعر موهوب بالنبوءة، لكنه يرى في النهاية أن كل فنان محكوم بقوانينه الخاصة، وهذه القوانين ليست إلزامية أبدا لأي شخص آخر؛ لأن «غاية الفنون كافة هي أن تفسر للفنان نفسه، ولأولئك المحيطين به، معنى وجوده وما يعيش الإنسان لأجله ودفاعا عنه، أن تفسر للناس سبب ظهورهم على هذا الكوكب، وإذا كان التفسير أمرا غير وارد، فعلى الأقل أن تطرح الأسئلة.»
هذه الإجابة التي يقدمها تاركوفسكي يمكن أن نضعها إلى جانب عشرات الإجابات التي حاولت - عبر تاريخ الكتابة - أن تقدم إجابة لسؤال الفن، ولجدواه، التي لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن «الأسئلة الكبرى التي بلا إجابة، بل يمكن اعتبار أن هذا هو السؤال الأخير الذي سيسأله الكاتب لنفسه قبل أن يضع القلم ويفارق الحياة، إن لم يكن - بطبيعة الحال - هو السؤال الذي يطارده قبل كل نص يكتبه.
هل الفن بهذه الطريقة نقيض المعرفة؟ الفن يبحث عن المعرفة، ليس بمعناها العلمي بطبيعة الحال؛ فمن يعرف كل شيء، من يملك كل الإجابات، لا يحتاج أن يكون شاعرا أو روائيا أو فنانا، لكن مع الفن تضحي المعرفة أيضا عذابا جديدا؛ لأنها تولد أسئلة أخرى، أكثر عذابا.» «شيمبوريسكا» في محاضرتها التي ألقتها في 7 / 12 / 1996 في استوكهولم، بمناسبة تسلمها جائزة نوبل في الأدب للعام 1996، قالت شيئا كهذا:
كل معرفة لا تنشئ بنفسها أسئلة جديدة، ستصير ميتة في وقت سريع، تفقد الحرارة المناسبة للحياة. في الحالات الأكثر تطرفا، المعروفة جيدا من التاريخ القديم والمعاصر، تستطيع هي أن تكون خطيرة للمجتمعات بشكل مميت؛ لذلك أعتز كثيرا بكلمتين صغيرتين هما: «لا أعرف». صغيرتان، لكنهما مجنحتان بقوة، توسعان لنا الحياة بمساحات تكمن فينا، وبمساحات معلقة فيها أرضنا الدقيقة. الشاعر كذلك، إذا كان شاعرا حقيقيا، يجب أن يكرر على نفسه باستمرار: «لا أعرف»، ويحاول أن يجيب عن ذلك بكل عمل من أعماله، لكنه حالما يضع نقطة تعتريه حيرة، ثم يبدأ بإدراك أن هذه الإجابة هي إجابة مؤقتة، غير كافية إطلاقا؛ لذلك يحاول مرة أخرى، وأخرى، وبعدها يربط مؤرخو الأدب هذه الأدلة المتوالية على عدم رضاه عن نفسه بمشبك كبير ويسمونها نتاجا أدبيا. «هاروكي موراكامي» روائي ناجح، ويعرف أنه ناجح، وأنه يبيع ملايين النسخ، وأن لديه آلاف المعجبين الذين يطاردونه في حفلات التوقيع؛ لدرجة أنك من الممكن أن تصفه - بصفاء نية - بالكاتب الشعبوي، لديه نظام معين في الكتابة، يكتب كل يوم بانتظام، لكن ذلك لم يمنعه من طرح الأسئلة.
يقول في حوار معه:
أحيانا أتساءل لماذا أنا روائي هنا والآن؟ لا توجد أي خطة عمل جعلت مني روائيا. شيء ما حصل فأصبحت كاتبا، وكاتبا ناجحا منذ الآن فصاعدا. فحينما أحل في الولايات المتحدة أو أوروبا، فالعديد من الناس يعرفون من أكون. إن ذلك يعتبر غاية في الغرابة. منذ سنوات خلت، ذهبت إلى برشلونة وأقمت حفل توقيع؛ ألف شخص قدموا، وكانت الفتيات يقبلنني. فوجئت كثيرا. ما الذي حدث لي؟
إذا كنت كاتبا مثلي، فأنت تعرف الآن أن الفشل في الإجابة عن سؤال، سواء أكان كبيرا أم صغيرا، عاما أم خاصا، هو الذي يدفع دوما لكتابة جديدة؛ كأنها متاهة استيقظت ووجدت نفسك فيها، ووجب عليك الخروج منها. كل سؤال جديد متاهة جديدة، تطل على الأسئلة/المتاهات الأخرى التي لا تنتهي. مع بداية كل نص تفرح كطفل أمسك أول الخيط، ومع نهاية النص يختفي الخيط تماما.
نامعلوم صفحہ