فتنهدت أرمانوسة تنهدا عميقا وسكتت، ثم قالت: «ولكني أخاف أن يصيبه سوء لأجلنا؛ إذ قد انتهت مهمته ولم يعد.»
فقالت: «ولكني كنت أوعزت إليه إذا لقي العرب أن يجتهد في تجسس أحوالهم، فلعله تأخر لهذا السبب.»
ومضى عليهما يومان في انتظار ما يكون، وفي صباح اليوم الثالث أفاقت أرمانوسة على صوت الناس وضوضائهم، فأرسلت بربارة تستطلع الخبر، فعادت تقول: «إن أهل بلبيس في قلق من أمر العرب؛ لأنهم هاجموا الفرما، وقد وصل إلى هنا بعض أهلها فارين من ساحة الحرب، واستقدم الحاكم بعضهم إلى منزله يستطلعهم أخبار العرب سرا؛ لأنهم شهدوا حربهم واختبروا قوتهم.»
فارتبكت أرمانوسة وزادت هواجسها وقالت: «هذه مصيبة أخرى يا بربارة، فقد أصبحت بين أربعة عوامل تتسابق إلى القضاء علي، أولها وأشدها وطأة علي ذلك الرجل الذي لا أحبه، وهذا هو رسوله ربما جاءنا غدا لكي يحملني إليه، بل إلى جنهم أعوذ بالله، وثانيها أبي الذي وافقه على هذه الفعلة، وهو عون له على شقائي، وثالثها هؤلاء العرب الذين جاءونا محاربين، وهم أشداء على ما يظهر، وربما ملكوا رقابنا عنوة، ورابعها، آه من رابعها!» وسكتت، فقالت بربارة: «أكملي العدد يا سيدتي، ما هو رابعها؟ ربما كنت أنا هو ذلك الرابع.» قالت: «لا يا بربارة، حاشاك، إنك وحدك تعزيتي في كل هذه النكبات، أما الرابع فهو قلبي، هذا الذي قد علق بأركاديوس وعصاني في هواه، وأنا بعيدة عنه يائسة من لقائه، وقد كان لي بقية أمل في رؤيته من قبل، أما الآن فأراني يئست من حبه.»
قالت ذلك وشرقت بدموعها، فقالت بربارة وقد انفطر قلبها: «دعي عنك الأوهام وتجلدي، فقد قلت لك: ألقي حملك علي، فإني ناصرتك بإذن الله، وعلي الضمان أن قسطنطين لن ينال منك شعرة، وأنك ستنالين من تحبينه رغم الناس كافة، فاصبري وتدبري الأمر بالحزم، واجلسي حتى أذهب إلى الحاكم وأسمع كلام الفارين لعلي آتيك منهم بقبس من نور.»
وتركتهما في الغرفة وذهبت توا إلى منزل الحاكم بجوار القصر، وكان الحراس يعرفونها فلم يمنعوها، فلما رآها الحاكم وقف لها واستقبلها، وأراد أن يدخلها غرفة الاستقبال فقالت له: «لا حاجة إلى ذلك، فإني جئت لأسمع كلام الفارين.» فدخل بها إلى غرفة فيها رجل عرفت من لباسه أنه من ضباط الجند، ولكنه ليس رومانيا، وإنما أصله من جند أنطاكية، فلما رأته علمت ما قاساه من أنواع العذاب قبل وصوله إلى بلبيس، وكان لا يزال في ثياب الحرب، وعليه الدرع، وقد تلطخت بالدماء، وفي كفه جرح أصابه من نبال كادت تخترق عنقه لو لم يستقبلها بكفه، فجلست على مقعد من الحرير المزركش، وجلس الحاكم إلى جانبها، ونادى الضابط فدنا منه فقال: «ارو لنا ما رأيت بلا زيادة أو نقصان.»
فقال وهو يتنفس الصعداء: «إني لا أكاد أصدق يا سيدي أني على قيد الحياة؛ لفرط ما قاسيته من التعرض للخطر، فإن هؤلاء العرب أشداء أقوياء ، ولا أظن جندنا يقوى على حربهم.»
فابتدره الحاكم قائلا: «اخفض صوتك لئلا يسمعك أحد فيقع الرعب في الناس، واشرح لنا حالك.» •••
قال الضابط: «علمنا منذ ثلاثة أيام بوصول العرب إلى ضواحي الفرما بعدتهم وخيلهم، فأخذنا في التأهب، فملأنا الأسوار بالجند، ورفعنا الأعلام، وأقمنا الصلوات في الكنائس، ونصبنا الصلبان على الأسوار، وظننا أنهم يتريثون قبل منازلتنا التماسا للراحة من وعثاء السفر، ولكننا لم نكد نتم التأهب حتى رأينا غبارهم يتصاعد، وجموعهم تزحف نحو المدينة، ثم انكشف ذلك الغبار عن جيش جرار تتقدمه الأعلام والفرسان، وما زالوا حتى عسكروا أمام المدينة، ولكننا لم نشاهد معهم خياما ولا أثقالا، فعلمنا أنهم تركوا الخيام بعيدا، فلبثنا ننتظر ما يكون منهم، وكنت أنا في حاشية حاكم الفرما نتشاور في أمرهم، وبعد الظهيرة بقليل رأينا واحدا منهم يتقدم نحو الأسوار حاملا علما أبيض، إشارة إلى أنه رسول، فلم نتعرض له، فلما وصل إلى السور أشار بيده أن معه كتابا يريد رفعه إلى كبيرنا، فأمرني الحاكم فنزلت إلى باب السور ففتحته، وأردت تناول الكتاب منه فأعرض عني، كأنه لا يريد أن يعطينيه، وفهمت منه أنه يريد تسليمه للحاكم يدا بيد، فاستأذنت في دخوله، فدخل بقدم ثابتة، كأنما هو داخل منزله، وكنت في أول الأمر مستخفا به لرثاثة لباسه؛ لأنه كان لابسا شملة ملتحفا بها كأنه متسول، ولكن تحول احتقاري إلى احترام حين أراد الدخول على الحاكم ويده على قبضة حسامه، فلما أردنا أن ننزع سلاحه أبى، فأتينا بالترجمان وحاولنا إقناعه بأن العادة عندنا أن يتجرد الرسول، فقال: «لا أنزع السلاح أبدا، فإذا لم تقبلوني كذلك عدت من حيث أتيت»، فارتفعت منزلته عندنا، وأذن الحاكم بدخوله كما يشاء.
فدخل ودفع إلى الحاكم كتابا مكتوبا على ورق من جلد الشياه وليس من البردي مثل رقوقنا، فتناوله الترجمان وفسره، فإذا هو من أمير العرب يطلب إلينا الاستسلام العاجل حالا، أو الدخول في دينهم، أو تأدية الجزية، أو القتال.
نامعلوم صفحہ