الفصل الثالث عشر
عقد الصلح
ساء أرمانوسة كثيرا كدر أركاديوس، ولكن سرها نجاح حيلتها، ولم تكن تخشى بأس العرب لعلمها أن أباها ضالع معهم، فانصرف همها إلى تخفيف وقع المصيبة على أركاديوس وحمله على التسليم بما حدث، فلما ذهب مرقس أمرت بطعام فأعد لهم، والشمس قد مالت إلى المغيب، فجلسوا إلى المائدة وأركاديوس يحسب أنه في حلم، ولا يكاد يصدق خبر سقوط الحصن وفرار حاميته ، فقال لأرمانوسة: «أراني في حلم، ولا أستطيع تصديق الخبر. أيدخل هؤلاء العرب الحفاة العراة حصوننا ونحن جنود الروم لنا العدة والسلاح وهم شرذمة قليلة، إنها لخيانة أو لعله سحر أو لعله غضب من الله!» فقالت أرمانوسة: «لعله الأخير»، وتبسمت تريد مداعبته، فاستمر قائلا: «ولنفرض أنهم أخذوا الحصن، فلسوف يخرجون قهرا؛ فإنه سهل علينا أن نحصرهم فيه، ونقطع عنهم المئونة برا وبحرا حتى يسلموا أو يهلكوا جوعا؛ إذ لا سبيل لهم إلى المئونة لأن بينهم وبين بلادهم شقة بعيدة وجنودنا تملأ القطر.»
فقالت أرمانوسة: «سوف نرى.» وقد آلت ألا تدعه يبتعد عنها مهما يحدث، وبعد أن تناولا شيئا قليلا من الطعام نهض الجميع وذهب كل واحد إلى حجرة نومه، فلما أصبحوا وجدوا أهل منف في قلق يتأهبون للفرار، وأما أرمانوسة فلبثت يومها تنتظر عودة مرقس، فقضوا نهارهم في الانتظار والقلق، وكان أركاديوس قد خف يأسه وعادت إليه آماله في استرجاع الحصن، وفي اليوم الثالث، أطلوا من شرفة القصر فرأوا قارب مرقس فعرفوه، فدنا وصعد إليهم وجلس يقص عليهم رحلته، وكلهم آذان وأعين، وليس في الغرفة إلا هو وأرمانوسة وأركاديوس وبربارة، وهذا ما حكاه:
وصلت إلى الجزيرة مساء أمس الأول فوجدت جندنا معسكرا فيها، فذهبت إلى سيدي المقوقس فقبلت يده ويد سيدي أرسطوليس وطمأنتهما على سيدتي أرمانوسة، وقضينا الليل في حديث الحصن، فعلمت أنه أخذ مفاجأة وأن العرب مقيمون به الآن، وأما جند الروم فساروا إلى الإسكندرية، وفيهم مولاي الأعيرج، وقد فهمت من حديث سيدي المقوقس أن الناس في ريب من أمر سيدي أركاديوس، فمن قائل إنه قتل قبل فتح الحصن وقائل إنه فر بعد الفتح، وظن بعضهم أنه قتل وضاعت جثته - حرسه الله - وعلمت أيضا أن سيدي المقوقس بعث إلى أمير العرب يعرض عليه صلحا على أمر فيه خير للفريقين، وأرسل إليهم قاربا يركبه وفدهم إلينا، فبتنا ليلتنا وأصبحنا ننتظر مجيء الوفد، فلما كان الضحى جاءنا نبأ بأنهم وصلوا إلى الجزيرة، فبعث سيدي وفدا استقبلهم عند الشاطئ وجاءوا بهم إليه، وكان في مجلسه، وأنا بين يديه، فما لبثنا أن رأينا الوفد قادمين، وكانوا عشرة من البدو، وقد رأيت أزياءهم في بلبيس، وتقدم واحد منهم لم أر أفظع منه منظرا، أسود فارع الطول، ضخم الجثة، قالوا إنه زعيمهم وخطيبهم، واسمه عبادة بن الصامت، وقد رأيت منه جرأة لم أعهدها في أحد من الناس حتى اليوم، ولحظت أن سيدي وأهل مجلسه هابوا منظره، وكأني سمعت سيدي يطلب منهم أن يستبدلوا به غيره فقالوا: «هو كبيرنا المقدم فينا.» فقال له سيدي والترجمان ينقل كلامه: «تقدم يا أسود وكلمني برفق، فإني أهاب سوادك.» فتقدم وقال: «فهمت قولك، وإن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشد سوادا وأفظع منظرا، وأشد هيبة مني، وقد وليت وأدبر شبابي، ولكني بحمد الله لا أهاب مائة رجل، وذلك لرغبتنا في الجهاد واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا، ولا زيادة فيها، إلا أن الله عز وجل قد أحل لنا ذلك، وجعل ما غنمنا منه حلالا، وما يبالي أحدنا إن كان له قنطار ذهب أو درهم واحد؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها ليسد بها جوعه ليله ونهاره، وشملة يلتحفها، فإن كان لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في سبيل الله، واقتصر على هذا الذي في يده؛ لأن نعيم الدنيا ليس نعيما، ورخاءها ليس رخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا الله وأمر به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا الدنيا إلا ما يمسك به جوعه ويستر به عورته، وأن تكون همته وشغله في رضوانه وجهاد عدوه.»
فلما سمع سيدي هذا الكلام قال لنا بالقبطية: «هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط، لقد هبت منظره، وإن قوله لأهيب. إن الله أخرج هذا وأصحابه لخراب الأرض، وما أظنهم إلا الغالبين.» ثم التفت إلى عبادة وقال له: «أيها الرجل الصالح قد سمعت قولك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري إنكم لم تبلغوا ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على من ظهرتم عليهم إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه منا لقتالكم جمع من الروم لا يحصى عددهم، عرفوا بالنجدة والشدة، ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا وأنتم في ضيق وشدة ومسغبة، وها نحن أولاء نعرض عليكم الصلح على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين ولأميركم مائة دينار، ولخلفيتكم ألف دينار تأخذونها وتنتقلون إلى دياركم قبل أن يغشاكم ما لا طاقة لكم به.» فأجابه عبادة: «لا تغرن نفسك ولا أصحابك، أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا مما يخيفنا، ولا الذي يثنينا عما نحن فيه، وإن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم، وأشد لحرصنا عليه؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه وقد قتلنا عن آخرنا، فهذا أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما شيء أقر لأعيننا ولا أحب لنا من ذلك، وإننا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين، فإما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله عز وجل قال في كتابه: «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين»، وما منا إلا من يدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الشهادة، وألا يرده إلى بلاده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا هم فيما خلفه، وقد استودع كل منا ربه أهله وولده، وإنما همنا ما أمامنا، وأما قولك إننا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا فنحن في أوسع السعة، ولو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه، فانظر الذي تريده فبينه، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ونجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث خصال، فاختر أيتها شئت، ولا تطمع نفسك بالباطل. بذلك أمرني الأمير، وبه أمر أمير المؤمنين ، وهو عهد رسول الله من قبل إلينا، أما إن أجبتم إلى الإسلام دين الله القيم الذي لا يقبل الله غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته، والذي أمرنا الله أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا وكان أخانا في دين الله، أما إن أجبت إلى هذا وقبلته أنت وأصحابك فقد سعدتم في الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم، وإن أبيتم فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، على أن نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا وكان لكم به عهد علينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا السيف حتى نموت عن آخرنا أو نصيب ما نريد منكم. هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم.»
فعجبنا لجرأته وقوة جأشه، فأجابه سيدي: «هذا ما لا يكون أبدا. ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيدا ما كانت الدنيا.» فقال عبادة: «هو ذاك، فاختر لنفسك ما شئت.» فقال سيدي: «أفلا تجيبوننا إلى غير هذه الخصال الثلاث؟» فرفع عبادة يده إلى السماء حتى كادت تدرك سقف الغرفة لطولها وقال: «ورب هذه السماء، ورب هذه الأرض، ورب كل شيء، مالكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.»
فالتفت سيدي إذ ذاك إلى أرباب مجلسه وقال: «قد فرغ القوم، فما ترون؟» فقالوا: «أيرضى أحد بهذا الذل؟! أما ما أرادوا من دخولنا في دينهم فهذا لا يكون أبدا أن نترك دين المسيح ابن مريم وندخل في دين لا نعرفه، وأما أن يسبونا ويجعلونا عبيدا فالموت أيسر من ذلك، فلو رضوا أن نضاعف لهم ما أعطينا مرارا كان أهون علينا.» فقال سيدي لعبادة: «أبى القوم فما ترى؟ فراجع أصحابك على أن نعطيهم في مدتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفون.»
فقال عبادة وأصحابه: «لا .» فقال سيدي لأرباب مجلسه: «أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث، فوالله مالكم بهم طاقة، ولئن لم نجبهم إليها طائعين لنجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين.»
فقالوا: «وأي خصلة نجيبهم إليها؟» قال: «أما دخولكم في غير دينكم فلا يسلم أحدكم به، وأما قتالكم فأنا أسلم أنكم لن تقدروا عليهم ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة.» قالوا: «فنكون لهم عبيدا أبدا؟!» قال: «نعم، تكونون عبيدا مسلطين في بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم، فأطيعوني قبل أن تندموا.» فرضوا بالجزية على صلح يكون بينهم يعرفونه. فقال سيدي للأسود: «قل للأمير أن يجتمع بنا لنكتب عهد الصلح.»
نامعلوم صفحہ