ومضى نبقة عنه سريعا وهو يغني في صوت روتيني ممدود: صل عالنبي، تكساب.
وكأن جلسة مليم قد حلت عقد الألسنة كلها فانهالت عليه لاذعة متفكهة، بادئة بقدميه الكبيرتين العريضتين على قصر، وقد جمعتا كل ما استطاع حفاؤهما جمعه من طين، وصاعدة إلى ساقيه العاريتين الوارمتين بالعضلات وكأنهما فخذا كندوز، ثم قميصه الذي كان هو كل ملابسه، وقد تحزم عليه بقطعة بالية من شبكة صيد، فجعل له «عبا» تدلى له القميص فوق ركبتيه الخشنتين المشققتين، ولا تهدأ الألسن حتى تتمرغ فوق صدره الموشوم عليه فتاة تمسك بيديها سيفا، وتختنق تحت غزارة شعر صدره الكثيف الشائخ. وتمتد اللذعات إلى وجهه واصفة إياه بالرغيف المحروق، وقعر الحلة الأسود، ثم تصل إلى صلعته التي كانت الشيء الوحيد الأبيض الماسخ فيه.
كل هذا ومليم جالس لا تخدش النكات جارحة فيه، وإنما هو حكم عدل بينها، يستعذب الحلوة ويستملحها، ويفرق بين السخيف والجديد فيها، ولا يسب صاحب البائخة، ولا يمدح قائل الجديدة، إنما يضحك فقط إذا أعجبته النكتة، وكانت ضحكاته من نوع فريد، كانت فيها طبول ودفوف وقرقعة صفائح، ثم ذيل طويل رفيع يختمها به.
ولما بدأ ضحك الجالسين يهمد، وقلت نكاتهم وقدمت، لجأ مليم إلى الحيلة التي يلجأ إليها دائما ليضحكهم، فوضع قروشا في حلقه، حتى وصلت زوره، ولا يدري أحد كيف كانت تصل إلى زوره، ثم دق على رقبته فشخشخت القروش، وضحك، ولم يملك الناس حينئذ أنفسهم.
وهدأت أخيرا العاصفة التي أثارها مليم بدخوله، وكان المغرب قد حل، وبدأت العربات المارة في الشارع تضيء مصابيحها، وكان نبقة قد رش ما أمام القهوة بالماء، وفتح الراديو على آخره ليجتذب الزبائن، وأشعل الكلوب وعلقه، واستوت شالية النار في الخارج فأدخلها وكلها بصابيص متوهجة، ووضعها بجوار «النصبة»، وغطى نارها بالرماد لتعيش وتكفى السهرة. وكان المعلم قد اتخذ مكانه أمام البنك، وطلب فنجال القهوة السادة، وأمر نبقة بتغيير ماء «الجوزة» ليستطيع أن يشرب كرسي المغرب.
وكان حمودة جالسا بجوار المعلم، وقد أمال جسده قليلا في تحفز، فمنذ الصباح والكل يتحدث عن اللعبة التي ستقوم الليلة بينه وبين مليم، والكل يستعد ويتنبأ.
وقال له المعلم وهو يمد الغابة إليه، فتناولها، وجذب نفسا قصيرا، وأخرج الدخان، ثم أراح ظهره على ظهر الكرسي محاولا بجهد أن يلد واحدة من ابتساماته، وكان يستعمل ابتساماته دائما لإخفاء ما به من تعب، وهو في الحقيقة كان يتعب، ومع أنه كان رجلا طويلا عريضا، إلا أنه كان يعمل صبيا لموقف العربات. وكان ينغرز اليوم بطوله في الشارع، والشمس في نافوخ رأسه العالي المهدل الشعر، وعينه الحولاء التي فيها بياض كثير زائغة هنا وهناك علها تلمح راكبا، وحنجرته الراقدة كالقبوة لصق عنقه تهتز وتتعالى وهو يجأر قائلا: اللي رايح شبين، شبين والكفر. بتلاتة ساغ لشبين.
وكان يقضي اليوم هكذا ينادي على الناس ويشحن العربات، ويتشاجر مع السائقين على «الفية»، ويسب الركاب والموقف والعفاريت الزرق، ثم يخرج آخر النهار بصوت ما عادت البحة تؤثر فيه، وبجاكتته التي كانت قميصا من مخلفات الجيش وقد ارتداها فوق جلبابه الذي كان له لون ذات يوم، وبجيب القميص الذي على صدره، وقد عمر بالقليل من النقود. يخرج آخر النهار بهذا كله إلى القهوة، وقد يخرج إلى المركز، وقد يسافر في عربة ليشحن دور الفجر في شبين، وقد لا يخرج بشيء على الإطلاق.
سأل المعلم حمودة عن الحال، وسكت حمودة قبل أن يقول إنها مثل اللبن، وحاول المعلم أن يقيس ما في سكتته من طول ليعرف ما في جيبه من نقود، ولما اطمأن المعلم قال وهو «يخمن» الكرسي: الواد مليم بيتحنجل.
وابتسم حمودة، وحدق في المعلم بعينه الحولاء، وقال في اشمئزاز: دابن «...» هو مش حيسكت إلا أما أدبوا عشرتين.
نامعلوم صفحہ