وقفزت إلى ذهني في قوة الانفجار تلك الكلمة التي طالما استبشعتها: صدمة!
نطقت بها غير شاعر أني أنطق، ومددت يدي أتحسس ذراعه مرة أخرى لأرى نبضه، وصدرت من بين شفتيه التي كانت قد ازرقت تماما أنة طويلة عميقة تعوي وتتلوى، وجمدت يدي في مكانها. - آخ، آه، دراعي، دراعي مخلوع.
والتقط بضع أنفاس لاهثة.
وكنت أعرف الألم الذي لا يطيقه بشر حين تتحرك الذراع المخلوعة، إنه الألم الذي يصدم، ويقتل، ويميت. ومع هذا فقد كان علي أن أرى الإصابة، وكان علي أن أديره، وأوقفت شعوري، وأوقف الرجال الموجودون أنفاسهم ورنات آهاته وآلامه، تخرسنا جميعا.
واستقر بصري على أربع دوائر سوداء، وحولها ظلام الجلد المحترق. وكنت أعرف ما يؤدي إليه السواد والظلام، فقد كان يؤدي إلى ثلاث قطع محمية من الرصاص استقرت داخل الصدر، وقطعة نفذت واخترقت الرئة، وسال من منفذها الدم.
وقلت وكأنني أستنجد بشيء غامض، ولكنه قادر: الإسعاف السريع.
كان في هذه الكلمات، إذا احتاج الأمر أن أقولها، ما يرد لهفتي دائما ولهفة المريض في بعض الأحيان، وهرج التومرجية والممرضات في كليهما. كان فيها معنى النجدة، كانت تصور لي ظلام الريف الواسع المفتوح، وإنسانا يستغيث في لهفة راجفة، فإذا بلهفته ترد إليه، ورجفته يعقبها طمأنينة، حين يسمع من بعيد ومن أغوار الظلام، ذلك الصوت المغيث، تردده فتحات الفضاء: جايلك يا واد، جايلك. •••
وعلى نفس السرير الذي مات عليه عبد العليم الطالب الصغير الذي أصيب بخبطة هوجاء في رأسه أثناء المظاهرات، والذي مات عليه صديق ابن العربجي الذي مرت فوق صدره عربة أبيه فتهشمت ضلوعه، والذي مات عليه شعبان وصالح وعبد اللطيف ومحمد، على نفس هذا السرير رقد عبد القادر الجريح وحوله أسطوانات الأكسيجين، وأجهزة نقل الدم، وأوعية الماء الساخن، وطلاء الحجرة الأبيض الناصع، وأزيز غلاية الماء، وحفيف البخار المتصاعد، ومجموعة من الأطباء، وممرضة، وصمت ترعشه أنات عبد القادر.
وما كادت آخر قطرة من أول لتر من الدم تأخذ طريقها إلى قلبه، حتى اختفت قليلا تلك الصفرة التي علت وجهه، وخفتت حركات عينيه، حتى تركزت حدقتاه علي، وظل يحدجني ببصره طويلا كالذي يتحفز لفعل شيء دون أن ينطق بحرف. وعجبت لهذا التحديق، ثم زاد عجبي وأخذت دوائر صغيرة من القلق تنداح في صدري.
وفي اللحظة التي بدأ الخوف يأخذ طريقه إلي تحركت شفتاه، وتغيرت ملامحه، ثم استقرت تقاطيعه على ابتسامة كانت أجمل ما رأته عيناي ليلتها.
نامعلوم صفحہ