ولما وصلا البلدة والليل قد تأخر، وعلمت أن الأولاد قد انتهزوا فرصة غيابها، واستحموا كما كانوا يريدون في الترعة، لم تستطع الانتظار فأيقظتهم واحدا وراء الآخر، ولهلبت كلا منهم بعلقة.
ومع الصباح توافدت النساء يسألنها عن مصر وعن الفاتحة التي أوصينها بقراءتها في السيدة، وعما طلبنه منها، ووعدت بإحضاره، ولم تذكر تفاحة من كل زيارتها إلا حكاية المفعوص الذي طوله شبر، والذي كانت أحيانا تقول إنه غرق أمام عينيها، وأحيانا أخرى لا يطاوعها قلبها، فتروى أن مراكبيا أنقذه، وعلى أي الحالين كانت تلعن أباه، وتسب أمه.
ولم يبرح الولد مخيلتها أسابيع طوالا.
أما عبد النبي أفندي فمع أنه كان ينسى كل ما يمر به من حادثات مهما كنت الحادثات إلا أن هذه الواقعة بالذات كثيرا ما كانت تراوده، وحينئذ كان يتذكر جمال الولد، وصفرة شعره، وثباته، واطمئنانه، وثقته، ويده الصغيرة البضة وهي تدفع المجداف، وفي الحال كانت ترتسم أمامه صورة ابنه الكبير محمد، الداخل باسم الله ما شاء الله على عامه العاشر، ويده الخشنة الماسكة طول النهار بلقمة العيش المغموسة في العسل الأسود، والعسل يتساقط منها على الأرض وفوق جلبابه، وداخل صدره، والذي يضع رأسه خجلا بين فخذيه إذا أقبل ضيف، وما إن يبدأه أحد بالكلام - أي كلام - حتى يتراجع خائفا، قائلا بصوت كمواء القطط: ياما، ياما تفاحة.
كانت ترتسم أمامه صورة ابنه فيخطط الدوائر على الدرج الذي أمامه بقطعة الطباشير التي في يده، ويمصمص ضرسه المثقوب بصوت مسموع، ثم يتنهد وهو ينساب في حلم يقظان جميل، فيرى محمدا راكبا ذات يوم قاربا وحده عابرا النيل في ملابس بيضاء نظيفة، وقد استوى شعره ولمع، واحمر وجهه وابيض، وهو غير خائف من الماء، ولا مقيم وزنا للبحر العريض.
رهان
كان يومها من أيام الصيف الحلال، والطريق الزراعي الطويل ليس فيه ذبابة ولا غراب، والدنيا ظهر، والحر يكتم أنفاس السكون، ويكفن صغار النسمات، ويجعل من «غرزة» الشرقاوي جنة وحيدة على جانب الطريق الذي يتلوى بالقيظ والنار.
وكان في «الغرزة» ساعتها أربعة من زبائنها الدائمين، الذين تسرب موسم القطن إلى محافظهم، فجعلها تمتلئ بالبرايز والقروش والخمسات. وكانوا يتحدثون بكلام فاتر ممدود، وفيما عدا هذا كان صالح بائع التين الشوكي يتربع بجانب قفصه، وقد مال فوقه، وغرق في صمت حزين وهو ينش الذباب عن تينه، وأحيانا عن وجهه. والشرقاوي صاحب المكان استغرقه الصراع مع النوم وأمامه «وابور» الجاز مطفيا، ولا يصغي إلى فرج، عامل رش الطريق، المتربع بجوار عامود من الأعمدة التي تحمل سقف الغرزة، والذي كان يطلب في إلحاح تتخلله فترات صبر طويلة أن يأذن له الشرقاوي فيشرب على «الجوزة» كرسيا من الدخان.
ودخل القادم الغريب.
كان أعرابيا طويلا ناشف العود، يرتدي قميصا من البفتة القديمة يكشف عن ساقيه اللتين التصق جلدهما بالعظام، وحول وسطه حزام عريض من الصوف يشد ظهره، وفوق رأسه شال في لون التراب، وعقال باهت تقطعت خيوطه، والعرق قد صنع فوق وجهه المدبب بحورا وأنهارا، وعيناه يكاد الدم يسيل منهما.
نامعلوم صفحہ