وكان صبر الزوجة قد نفد فنطقت أخيرا وقد عذبها فهمه الحميري. - حوش يا راجل، الولد! فين إيه؟! ياباي عليك، أهه يا أعمى!
وحدق عبد النبي أفندي مستغربا في الماء، وهناك في وسط النيل رأى الحادث.
كان العصر قد بدأ يشحب وينتهي، وكانت الشمس الذاهبة التي في السماء والشمس الغارقة المدفونة في الماء، كانت شعاعاتها تصطدم على سطح الموج الصغير المتراقص، فتتفتت الشعاعات إلى ملايين من ذرات ماس تتناثر في كل اتجاه، وفي وسط هذا البريق العائم كان هناك قارب أبيض صغير يكاد يبلغ حجمه حجم القوارب التي يصنعها العابث بالورق، وكان في القارب طفل، طفل دقيق يرتدي بذلة البحارة البيضاء، وكان الهواء يداعب شعره الأصفر في عنف رقيق، وكأنه ما يهب إلا ليداعب شعره، وكان الصغير جالسا في أتم الهدوء، وفي اتزان الكبير المالئ يده من قوته، وذراعاه الصغيرتان البضتان تمسكان بالمجاديف في ثقة، وتعملان بلا هوادة.
وكان ممكنا أن تمر ساعة بأكملها قبل أن يقتنع عبد النبي أفندي، ويسلم بحقيقة ما يراه، ولكن المسألة لم تأخذ وقتا طويلا، فبعد أن حملق من هنا، ثم أحكم وضع الطربوش، وأدلى رأسه على قدر ما استطاع، وحملق من هناك، وثنى رقبته مرة إلى اليمين ومرات إلى اليسار، بعد هذا كله أغلق عينيه، وقال بصوت فيه تأنيب: جرى إيه يا شيخة؟ طربتيني!
وانتفضت امرأته تقول وغيظها يشتد: جرى إيه إيه؟! مانتاش شايف؟! حوش يا راجل. - بس لو تطولي بالك، لازم أبوه وأمه هنا واللا هنا، أمال! لازم، الله! هي لعبة؟ واللامش معقول يا سيدنا لفندي؟
وسيدنا لفندي الذي توجه عبد النبي إليه بالخطاب لم يكن واحدا، وإنما كان كثيرين، وكان بعضهم قد وقف يتفرج على تفاحة وعبد النبي، وقد أعجبه مرآهما، ثم مضى بعد أن أشبع فضوله.
وكان البعض قد رأى الطفل فعلا فاسترعى الطفل انتباه الجزء الأكبر من تفكيره، ثم لما علا صوت تفاحة واشتد حماسها بدأ يوزع انتباهه بين الطفل وبين المرأة ذات الزي الغريب، وما تقوله والرجل الذي معها.
وكان بعض ثالث قد أخذ الأمر على محمل الهزل، فمضى يلعق بلسانه ثوب تفاحة وبيشتها، وطربوش عبد النبي أفندي وحذاءه، دون اكتراث لما يحدث داخل النيل، ولم يعدم الأمر أن يكون هناك أفندي واحد عاقل راح يتطلع إلى الطفل، ويتابع القارب بناظريه، وقد امتصه المشهد كله، ولم يتبين أحد أن كان يحدث نفسه، أو يرد على عبد النبي أفندي حين قال: يا سلام! أما ناس صحيح!
وأسرع عبد النبي أفندي يلحم الحديث حتى لا ينقطع: دا لازم خواجة، مش معقول ده ابن عرب.
وردت أصوات تقول: أيوه دا لازم ابن جنيه.
نامعلوم صفحہ