أهي ليلة والسلام.
الحادث
ذات عام كان عبد النبي أفندي والست حرمه في مصر، وكانت الدنيا صيفا، وعبد النبي أفندي يمشي بجوار امرأته بجسده الذي هو طويل حقا، ولكنه ذلك النوع من الطول الذي لا يبدو له عرض، فلا سمنة تبرزه، ولا أكتاف ممشوقة تنسيك رفعه، وإنما شيئان هاكعان مضمومان تتعلق عليهما سترته كأنها معلقة على شماعة، ومع أنه كان يرتدي بدلة، إلا أنك كنت تستطيع أن تدرك للتو أنه لم يعتد ارتداءها، فقد كان يخطر فيها وكأنه لا يزال يخطر في الجبة والقفطان، ويمد يده وكأنها لا زالت طليقة في الكم الواسع الهفهاف. وكنت تستطيع أن تقسم أن نار المكوى لم تلسع بدلته منذ أن وجدت، وكذلك لا تقدر أن تخمن متى وجدت، ومع ذلك فالمحافظة على الملابس كانت في دم عبد النبي أفندي؛ ولهذا كان يضع منديله النص نص الأبيض بين رقبته وبين ياقة سترته حتى يمنع عنها العرق الذي ينضحه قفاه الأسمر، وكذلك كان يفعل في طربوشه، والغريب بعد هذا أن ياقة السترة، وحافة الطربوش كانتا دائما من أمتع الأمكنة التي يحلو للعرق والتراب البقاء فيها واستعمارها.
وبالقياس إلى وجه عبد النبي أفندي الذي قدمت سحنته حتى اسودت، وتناثرت تجاعيده في طيبة قبيحة، ولكنها طيبة والسلام، بالقياس إلى وجهه، كان وجه امرأته الماشية بجواره حلوا أبيض فيه احمرار، ليس هذا فقط، بل إنها كانت ترتدي ثوبها الحرير الأحمر الذي دخلت به، وفوقه الفستان الشفاف الأسود، وكانت تضع فوق شعرها الطويل البري قبعة ذات ريشة، كان عبد النبي أفندي قد اشتراها لها أيام «مودة» القبعات، ولم تنس الست تفاحة أن تسدل فوق وجهها البيشة الكحلية التي تثنت أطرافها ولمعت أجزاء منها، وتلاصقت من كثرة ما وضعتها على وجوه أطفالها حين كان يصيبهم الرمد.
وكان عبد النبي أفندي وهو يهم بخطوة ليلاحق امرأته، كان في لحظة من تلك اللحظات التي يحس الإنسان فيها أن الدنيا عال، وكل شيء جميل، ولم تكن هذه السعادة لأنه في مصر، فقد زارها مرات قبل هذه المرة ليسعى حتى لا تنقله الوزارة من المدرسة الإلزامية التي هو مدرس فيها، زارها قبل الآن مرات، وعرف العتبة وكوبري عباس والمعرض وشارع المبتديان الذي فيه بيت حافظ أفندي وترام 4 الذي يروح السيدة.
لم يكن سعيدا إذن لأنه في مصر، ولكنه كان عامرا بالنشوة؛ لأن تفاحة معه هذه المرة، هادئة بجواره كالحمل الرضيع، لا تعايره كعادتها بكبره وصغرها، ولا تركب رأسها وتمتطي لسانها، وتسخر منه ومن علمه، ومن «حتة» المدرس الذي لا طلع ولا نزل، وإنما هي صامتة مدهوشة ذاهلة، وهو يفرجها على مصر، ويريها، ولو مرة واحدة في حياته أنه يعرف أكثر منها، وله نفع أكثر من نفعها في بعض الأحيان.
وكان هذا ثاني يوم لهما في القاهرة، وكذلك آخر يوم، كان عبد النبي أفندي قد أتى بها في طراوة العصر؛ ليريها البحر، وكانت هي في ذهولها لاهية عن كل شيء إلا عن نساء مصر، ولحمهن المكشوف، وعيونهن التي تحدق في قحة وفجور ناحية الرجال دون أدنى خجل أو كسوف، وكانت إذا مرت بها واحدة لا تستطيع أن تكتم ما في نفسها، فتبعث وراءها بسلسلة طويلة من الشتائم واللعنات.
وحين انتهى عبد النبي أفندي بها إلى مكان على الشاطئ توقف، ومضغ ملء فمه فرحا قبل أن يقول: شايفة يا تفاحة، أهو دا النيل اللي بيقولوا عنه.
وردت تفاحة وقد فاجأها البحر، فتاهت في ملكوته ونسيت عيون النساء: ياه، يا خرابي يا عبد النبي!
ولهثت قبل أن تستطرد: دا والنبي يبلع طوره زي بحر مويس.
نامعلوم صفحہ